نفذت عناصر الادارة المالية في الشرطة التركية الثلاثاء الماضي حملة مداهمات في اسطنبول وأنقرة أدت لاعتقال 49 شخصا على الأقل بتهم فساد بينهم أبناء وزراء بحكومة رئيس الوزراء التركي اضافة الى رجال أعمال مشهورين.

ما لبثت الصورة أن اتضحت شيئاً فشيئاً مع تداول الأسماء والتفاصيل وكشف مزيد من الحقائق، بدءاً من ربط مزاعم الفساد برجل أعمال ايراني يدعى رضا ضراب، متزوج من فنانة تركية معروفة تدعى أبرو جونداش، وما تبعه من كشف الصراع بين أردوغان وشبكة نفوذ كبيرة داخل مؤسسات الأمن والشرطة والقضاء التركية وحزب العدالة والتنمية الحاكم تأتمر بأوامر رجل الدين فتح الله كولن المقيم في الولايات المتحدة.يبدو الأمر وكأنه مسلسل تركي من تلك المسلسلات التي تعرض يومياً على الفضائيات ففيه كل خلطة الاثارة والتشويق الدرامي: تركيا وايران والولايات المتحدة، فنانون ورجال أعمال وأبناء وزراء ولاعب كرة قدم شهير ورجل يتحكم بالادارات التي تتحكم بتركيا كلها ويتحدّى أقوى الشخصيات السياسية فيها: رجب طيب أردوغان!

لكن الاتهامات، تبدو للقارئ، ركيكة بمقاييس ‘بلاد العرب أوطاني’، فمن في هذه البلدان يهتمّ أصلاً لمزاعم ‘ميكروسكوبية’ من قبيل دفع رشاوى ‘تسهيل معاملات منح الجنسية’ حتى لو كانت ‘لأجانب من أصل ايراني’، وكيف يركب عنوان مانشيت خطير مثل ‘فضيحة الفساد الكبرى’ مع قضايا خفيفة الوزن (أيضاً بالمقاييس العربية والعالمية حتى) مثل ‘غسل الأموال الايرانية في تركيا’.

وفوق كل ذلك، واضافة الى مسلسلاتهم الدرامية، لدى الأتراك الكثير مما يحسدون عليه، فاقتصادهم مزدهر (البنك الدولي رفع توقعه لنمو اقتصاد تركيا في 2013 الى 4.3′)، وقد تحوّلت بلادهم الى ملاذ آمن لقاصدي السياحة والاستثمار ‘الشرق أوسطيين’ بسبب الاضطرابات في مصر وسورية ولبنان، والسياحة لديهم في صعود مستمر (قرابة 31.8 مليون سائح خلال الاشهر العشرة الاخيرة)، وهناك مفاوضات جارية بين أنقرة واوروبا لالغاء تأشيرات المرور للأتراك.

كنا سنحسد الشرطة التركية على نزاهتها الفائقة لولا أننا مضطرّون لاعتبار قضايا فضيحة ‘الفساد الكبير’ التركية جرائم ‘من وزن الريشة’ أمام الفضائح الحقيقية التي أبدع فيها حكام وبطانات وأبناء مسؤولي بلداننا العربية، فأغلب دولنا تتربع راضية مرضيّة على قمة سلّم الفساد في العالم، وبعض المحظيين فيها يمتلكون البلاد والعباد، وأجهزة الشرطة والأمن و’الرقابة المالية’ هي نفسها من يسرق ويقتل ويغتصب وينسق مع ‘الأعداء’!

أجمل ما في المسلسل التركيّ الآنف الذكر أنه في النهاية لا يتمّ القبض على ‘الأشرار’ فحسب بل تتم معاقبة ‘الأخيار’ أيضاً، فبعد الضجة الكبيرة التي أثارتها الاعتقالات والأسماء الثقيلة للمعتقلين ذكرت وكالة أنباء تركية أمس ان خمسة من قادة الشرطة تم اقصاؤهم، وعلى رأسهم قادة ادارات الجرائم المالية والجريمة المنظمة والتهريب، أي القادة المسؤولون عن كشف ‘الفساد’ إيّاه!

ولعلّ الحلقة القادمة ستكشف أن ‘الأخيار’ ليسوا أخياراً بدرجة كافية وأن ‘الأشرار’ لم ينالوا شرف عضوية الشرّ الأكبر والفساد الحقيقي (مثل زملائهم العرب)، وأن ‘الأخيار’ و’الأشرار’ ليسوا إلا بيادق في لعبة كبرى بين اردوغان وكولن، وكلاهما، للأسف، محسوب على الحركة الاسلامية الحاكمة في تركيا.

لكن كلّ هذه الأسرار التركية المتكشّفة والدراما المثيرة ما تزال أقل تشويقاً من فضيحة أخرى، أكثر مصداقية هذه المرّة، لكنها جاءت من بلد اسلامي آخر، اندونيسيا، قبل أيام، وتحدثت عن تورط مسؤولين في احزاب اسلامية اندونيسية في رشاوى وعلاقات جنسية مع فتيات قصر وعارضة مجلة إباحية، والتي أدت لحكم بالسجن على لطفي حسن اسحق، الرئيس السابق لحزب العدالة والازدهار، اول حزب اسلامي في اندونيسيا.وكي لا يُفهم كل هذا كتعريض بالأحزاب الاسلامية، وهي أحزاب سياسية بالنهاية، وأفرادها بشر خطاؤون وغير معصومين، نقول ان أقرانهم في الدول والأحزاب ‘العلمانية’ العربية متفوّقون عليهم في كل أبواب الاجرام والفساد ونهب الأرض وما عليها.

  • فريق ماسة
  • 2013-12-18
  • 9549
  • من الأرشيف

فضيحة ‘الفساد الكبرى’: مسلسل تركي جديد!

نفذت عناصر الادارة المالية في الشرطة التركية الثلاثاء الماضي حملة مداهمات في اسطنبول وأنقرة أدت لاعتقال 49 شخصا على الأقل بتهم فساد بينهم أبناء وزراء بحكومة رئيس الوزراء التركي اضافة الى رجال أعمال مشهورين. ما لبثت الصورة أن اتضحت شيئاً فشيئاً مع تداول الأسماء والتفاصيل وكشف مزيد من الحقائق، بدءاً من ربط مزاعم الفساد برجل أعمال ايراني يدعى رضا ضراب، متزوج من فنانة تركية معروفة تدعى أبرو جونداش، وما تبعه من كشف الصراع بين أردوغان وشبكة نفوذ كبيرة داخل مؤسسات الأمن والشرطة والقضاء التركية وحزب العدالة والتنمية الحاكم تأتمر بأوامر رجل الدين فتح الله كولن المقيم في الولايات المتحدة.يبدو الأمر وكأنه مسلسل تركي من تلك المسلسلات التي تعرض يومياً على الفضائيات ففيه كل خلطة الاثارة والتشويق الدرامي: تركيا وايران والولايات المتحدة، فنانون ورجال أعمال وأبناء وزراء ولاعب كرة قدم شهير ورجل يتحكم بالادارات التي تتحكم بتركيا كلها ويتحدّى أقوى الشخصيات السياسية فيها: رجب طيب أردوغان! لكن الاتهامات، تبدو للقارئ، ركيكة بمقاييس ‘بلاد العرب أوطاني’، فمن في هذه البلدان يهتمّ أصلاً لمزاعم ‘ميكروسكوبية’ من قبيل دفع رشاوى ‘تسهيل معاملات منح الجنسية’ حتى لو كانت ‘لأجانب من أصل ايراني’، وكيف يركب عنوان مانشيت خطير مثل ‘فضيحة الفساد الكبرى’ مع قضايا خفيفة الوزن (أيضاً بالمقاييس العربية والعالمية حتى) مثل ‘غسل الأموال الايرانية في تركيا’. وفوق كل ذلك، واضافة الى مسلسلاتهم الدرامية، لدى الأتراك الكثير مما يحسدون عليه، فاقتصادهم مزدهر (البنك الدولي رفع توقعه لنمو اقتصاد تركيا في 2013 الى 4.3′)، وقد تحوّلت بلادهم الى ملاذ آمن لقاصدي السياحة والاستثمار ‘الشرق أوسطيين’ بسبب الاضطرابات في مصر وسورية ولبنان، والسياحة لديهم في صعود مستمر (قرابة 31.8 مليون سائح خلال الاشهر العشرة الاخيرة)، وهناك مفاوضات جارية بين أنقرة واوروبا لالغاء تأشيرات المرور للأتراك. كنا سنحسد الشرطة التركية على نزاهتها الفائقة لولا أننا مضطرّون لاعتبار قضايا فضيحة ‘الفساد الكبير’ التركية جرائم ‘من وزن الريشة’ أمام الفضائح الحقيقية التي أبدع فيها حكام وبطانات وأبناء مسؤولي بلداننا العربية، فأغلب دولنا تتربع راضية مرضيّة على قمة سلّم الفساد في العالم، وبعض المحظيين فيها يمتلكون البلاد والعباد، وأجهزة الشرطة والأمن و’الرقابة المالية’ هي نفسها من يسرق ويقتل ويغتصب وينسق مع ‘الأعداء’! أجمل ما في المسلسل التركيّ الآنف الذكر أنه في النهاية لا يتمّ القبض على ‘الأشرار’ فحسب بل تتم معاقبة ‘الأخيار’ أيضاً، فبعد الضجة الكبيرة التي أثارتها الاعتقالات والأسماء الثقيلة للمعتقلين ذكرت وكالة أنباء تركية أمس ان خمسة من قادة الشرطة تم اقصاؤهم، وعلى رأسهم قادة ادارات الجرائم المالية والجريمة المنظمة والتهريب، أي القادة المسؤولون عن كشف ‘الفساد’ إيّاه! ولعلّ الحلقة القادمة ستكشف أن ‘الأخيار’ ليسوا أخياراً بدرجة كافية وأن ‘الأشرار’ لم ينالوا شرف عضوية الشرّ الأكبر والفساد الحقيقي (مثل زملائهم العرب)، وأن ‘الأخيار’ و’الأشرار’ ليسوا إلا بيادق في لعبة كبرى بين اردوغان وكولن، وكلاهما، للأسف، محسوب على الحركة الاسلامية الحاكمة في تركيا. لكن كلّ هذه الأسرار التركية المتكشّفة والدراما المثيرة ما تزال أقل تشويقاً من فضيحة أخرى، أكثر مصداقية هذه المرّة، لكنها جاءت من بلد اسلامي آخر، اندونيسيا، قبل أيام، وتحدثت عن تورط مسؤولين في احزاب اسلامية اندونيسية في رشاوى وعلاقات جنسية مع فتيات قصر وعارضة مجلة إباحية، والتي أدت لحكم بالسجن على لطفي حسن اسحق، الرئيس السابق لحزب العدالة والازدهار، اول حزب اسلامي في اندونيسيا.وكي لا يُفهم كل هذا كتعريض بالأحزاب الاسلامية، وهي أحزاب سياسية بالنهاية، وأفرادها بشر خطاؤون وغير معصومين، نقول ان أقرانهم في الدول والأحزاب ‘العلمانية’ العربية متفوّقون عليهم في كل أبواب الاجرام والفساد ونهب الأرض وما عليها.

المصدر : رأي القدس


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة