دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
لم تجد الصحافة التركية أفضل من وصف ما جرى بـ"عملية الفساد الكبرى". لم يوضع اسم لها كما هي العادة. في العادة، العمليات التي كان يشنها "حزب العدالة والتنمية" ضد خصومه، كان يضع لها أسماء مثل "المطرقة"، لكنها العملية الأولى قضائياً التي تستهدف سلطة "العدالة والتنمية".
أكثر من 52 شخصاً كانوا اعتقلوا أمس الأول، بتهمة الرشوة والفساد. ولا شك كون معظم الذين اعتقلوا هم أبناء أو أقارب أو مقربين من وزراء ومسؤولين ومن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان شخصياً، طرح علامات استفهام كثيرة حول دوافع العملية القضائية وبمعاونة الشرطة وتوقيتها والمدى الذي يمكن أن تذهب إليه في التحقيقات، وهل هي مجرد بداية لعمليات أخرى لها طابع جرمي أو سياسي.
في الشق العلني، فإن رئيس الحكومة ألمح إلى أن هدف هذه العملية وغيرها من الحملات عليه، هي إضعافه من خلال الإيحاء بأن "تحالفاً قذراً" يستهدف تركيا كلها، وبأن تركيا لن تنحني، متحدياً خصومه بصناديق الاقتراع في 30 آذار المقبل، تاريخ إجراء الانتخابات البلدية. وبذلك، يؤكد أردوغان على مفهومه للديموقراطية مختصراً إياها بصندوق الاقتراع.
عملية الفساد الكبرى اختصرتها وسائل الإعلام التركية على أنها محطة بين أردوغان وجماعة فتح الله غولين في الحرب الدائرة بينهما منذ انفجار الخلاف في أحداث "تقسيم - جيزي" في حزيران الماضي، واتهام أردوغان لغولين بالسعي إلى إضعافه.
وكانت المحطة الثانية قبل أسابيع مع قرار أردوغان الرد على غولين بإغلاق المعاهد المسائية التي تعطي الطلاب دروساً إضافية لتحسين مستواهم استعداداً للإمتحانات الرسمية.
والآن، جاءت المحطة الثالثة من جانب فتح الله غولين، المقيم في الولايات المتحدة، من خلال قيادات في الشرطة وقضاة يدينون له بالولاء عبر عملية اعتقال أبناء ثلاثة وزراء ورئيس بلدية الفاتح في اسطنبول ومدير "مصرف الشعب"، ورجل الأعمال الشهير علي آغا أوغلو، إلى العشرات غيرهم بتهمة الفساد وتبييض الأموال مع روسيا وإيران (استيراد النفط والغاز في مقابل الدفع بالذهب) وفي الداخل يصل مجموعها إلى أكثر من مئة مليار يورو وتقديم رشى وغيرها من التهم.
إذا صحت التهم التي تساق ضد هؤلاء، فإن أردوغان سيكون في وضع حرج وسيء للغاية، إذ عليه إما التخلي عن أصدقائه المعتقلين وترك التحقيقات لمجراها الطبيعي وإنقاذ رأسه، وإما أن يواجه خطر امتداد التحقيقات إليه شخصياً.
وفي جميع الأحوال، فإن مجرد توجيه التهم لمقربين جداً منه، يعني أن أردوغان قد ضُرب من بيت أبيه، أي من الصفة التي كان يفتخر بها وكانت من أسباب نجاحاته وهي "نظافة الكف".
العملية الكبرى قد تهز الحكومة، ولن يجد رئيس الوزراء التركي مخرجاً، سوى إجراء تعديل وزاري يخفف من حجم الأضرار الداخلية. لكن البعد الخارجي من عملية الفساد الكبرى غير خافية على المشهد السياسي على أعتاب السنة الجديدة التي ستحمل بداية نهاية أردوغان كرئيس للحكومة في حال ترشحه لرئاسة الجمهورية، وخروجه من مرحلة الرجل القوي في تركيا.
ولا شك أن مسار "حزب العدالة والتنمية" بات يشبه مسار "حزب الوطن الأم" برئاسة طورغوت أوزال في الثمانينيات، والذي أنهكته فضائح الفساد بعدما انتقل أوزال من رئاسة الحكومة إلى رئاسة الجمهورية، وفقدان الحزب عصب أوزال بعد وفاته في العام 1993، وصولاً إلى اندثاره نهائياً في العام 2002.
ولم تكن مجرد مصادفة أن يتعرض "العدالة والتنمية" مؤخراً إلى سلسلة من الهزات الداخلية، أولها إعلان بولنت أرينتش نيته اعتزال السياسة بعد خلافه مع أردوغان، بسبب السكن الجامعي المختلط، واستقالة النائب إدريس بال، وأخيراً استقالة النائب حاقان شكر لاعب كرة القدم الشهير احتجاجاً على موقف أردوغان من غولين.
واليوم تأتي فضيحة الفساد لتضع الحزب تحت مقصلة المحاسبة. وإذا كان الفشل الضخم في السياسة الخارجية تجاه سوريا ومصر والمنطقة عموماً قد أضعف هيبة أردوغان ووزير خارجيته أحمد داود أوغلو، وآخرها التأكيد بالوثائق أن تركيا تبيع أسلحة إلى سوريا وصفها وزير الدفاع التركي بشكل مستخف للعقول على أنها "بنادق صيد"، فإن الإنهاك الداخلي الحالي مع "عملية الفساد الكبرى" هو الأخطر حتى الآن على أردوغان، الذي بات في وضع لا يحسد عليه وإن كان سيواجه ذلك بالتحدي على عادته.
هزّت عملية الفساد الكبرى تركيا، وخرجت أحزاب المعارضة وصحفها بدعوة أردوغان إلى الاستقالة. أما الصحف الموالية لأردوغان ولاسيما "يني شفق" و"ستار" و"تركيا"، حاولت أن تعيد عملية الاعتقال إلى أسباب خارجية تقف وراءها أميركا وإسرائيل لإطاحة أردوغان.
إبراهيم قره غول رئيس تحرير صحيفة "يني شفق" الموالية لأردوغان، كتب قائلاً إن "لا أحد يمكنه أن يدافع عن الفساد. لكن من الواضح أن عملية الاعتقال هي مجرد مرحلة من عملية أكبر. والجميع يتساءل عمن وراء هذه العملية ولماذا الآن. وهل الهدف أردوغان وسلطة حزب العدالة والتنمية؟. ومن هي الدول أو القوى التي تقف وراءها. وهل صفقة استيراد النفط من كردستان هي السبب ورفض أميركا إيداع 16 مليار دولار، في مصرف الشعب التركي الذي اعتقل مديره؟".
وأضاف قره غول "هل لإسرائيل علاقة لمعاقبة مصرف الشعب الذي عبره كانت تتم التجارة مع إيران خلال فترة العقوبات الغربية عليها؟. من الواضح أن عملية تصفية حسابات خطيرة جداً بدأت في تركيا بعدما فشلت نظيرتها من جراء أحداث جيزي. لذلك فإن الصدام سيكون قاسياً جداً".
وتحت عنوان "العملية الكبرى"، كتب محمد قاميش رئيس تحرير صحيفة "زمان" الموالية لفتح الله غولين إن "العملية التي طالت أقرباء لوزراء ومقربين من رجب طيب أردوغان غير مسبوقة. والقائمون عليها من قضاة هم إما مجانين وإما يمتلكون من المعطيات التي لا يرقى شك إليها ولا يمكن إنكارها. وهذه هي مهمة القضاء في الأساس.
وأشار قاميش إلى أنه "في الديموقراطيات المعاصرة يأتي إلى السلطة من ينجح في صندوق الانتخابات. لكن إطار الحكم تحدده القوانين. ولا يمكن لأحد تجاوزها حتى لو كان منتخباً. إذا نظرنا إلى عملية الأمس على انها جرمية وليست سياسية، ستربح تركيا وحزب العدالة والتنمية وديموقراطيتنا".
بدوره، اعتبر مليح عاشق في صحيفة "ميللييت"، أن "تركيا لم تشهد مثل هذه العملية التي اعتقل فيها أبناء ثلاثة وزراء ومدير عام لأحد المصارف ورئيس بلدية موال لحزب السلطة. إنها عملية تصفية حسابات سياسية. لاأحد يدري إلى أين ستوصل".
وفي صحيفة "راديكال"، أشار جنكيز تشاندار إلى أن "ما يجري ليس مجرد صراع بين سلطة أردوغان وجماعة فتح الله غولين. المثل الإنكليزي يقول (السلطة المطلقة تفسد المطلقية)، وما جرى تحد كبير لسلطة أردوغان".
ولفت تشاندار إلى أن "عنوان العملية له دلالة كبيرة: مقربون من وزراء وسلطة أردوغان. لقد بدأ أردوغان منذ العام 2011 طريق السلطة المطلقة، وهذه لا تؤدي إلى الصعود بل إلى النزول. فالسلطة تتحلل، وقد أمسكت بها عمليات الفساد، والقبض على وسائل الإعلام هو الذي كان يغطي العمليات ولا يجعلها تنعكس لدى الرأي العام. وقول أردوغان أن العملية تحالف قذر موجه ضده وضد تركيا ليس مقنعاً البتة. لقد تحللت أحزاب بسبب الفساد، بل حتى محيت من الخريطة، وما يجري يعطي مؤشرات على المستقبل السياسي لسلطة حزب العدالة والتنمية".
المصدر :
محمد نور الدين
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة