حين يغادر زائر القاهرة صوب المطار، يمكنه أن يشاهد قبيل الوصول إليه شاشة كبيرة على حائط مبنى شاهق. على الشاشة عدّاد يزداد رقماً بعد رقم بسرعة لافتة. مركز الإحصاء المركزي للسكان وضعه لكي يرى من يريد من الزوار أن عدد سكان مصر يزداد طفلاً كل 14 ثانية تقريباً. الرقم على الشاشة وصل اليوم إلى 82 مليوناً، لكن الإحصاءات الدولية تؤكّد أن أم الدنيا تنجب مليون نسمة كل تسعة أشهر، ما يعني أن العدد ربما تخطى الـ 92 مليوناً.

يبتسم زميلي المصري وهو يؤكد هذا الرقم. يقول: «شفت يا باشا، يعني لو مات كل يوم 100 مش حنتأثر كتير». يضحك من القلب كما يضحك المصريون على كل شيء. على السياسة والفقر والحياة، وعلى التظاهرات المتفرقة أو الخاطفة للإخوان المسلمين التي يتضاءل عددها يوماً بعد آخر. لكنها مستمرة، وربما ترتفع قبيل الاستفتاء على الدستور الجديد أو خلاله. خسر الإخوان للمرة الأولى منذ ربع قرن نقابة الأطباء.

لا يبدو الوضع الأمني مثيراً للقلق في القاهرة. الحياة شبه عادية. الزحمة نفسها. النكات نفسها. الفقر ذاته. أصوات بائعي الصحف لا تزال تضفي على الحياة القاهرية حيوية خاصة.

الوضع لا يثير القلق كثيراً، لكن القلق موجود. الحوادث الأمنية المتفرقة تقع. سيناء لا تزال محور اشتباكات. يزداد الإرهاب عند الحدود المصرية ــــ الإسرائيلية. يزداد معه الانتشار الأمني. يزداد، أيضاً، اتهام فلسطينيي حركة حماس بالتورط. الحركة تنفي. لا مجال لسماع النفي الآن. تغيّر المناخ الذي كان فيه خالد مشعل وموسى أبو مرزوق ومحمود الزهار وغيرهم يدخلون مطار القاهرة مثل كبار الزوار. لم تجدّد السلطات المصرية أوراق إقامة الكثير من قادة وأعضاء الحركة التي ربما، تماماً كالرئيس المخلوع محمد مرسي، لم تتوقّع سرعة التغيير في مصر. لم ينتظروا، جميعاً أيضاً، أن تنزل السعودية والإمارات وغيرهما بكل ثقلها لإنهاء عصر الإخوان و... عصر قطر في مصر، وعصر تركيا.

كل شيء يبدو عادياً في القاهرة. وحدها الطبيعة فاجأت الجميع. وصلت عاصفة الثلوج إلى قلب العاصمة.

غسلت الطبيعة أشجار المدينة وشوارعها ومبانيها. وحده غسيل القلوب في حاجة إلى وقت طويل.

تنتشر صور السيسي في كل مكان. معظم الصور مقرونة بأخرى للزعيم الراحل جمال عبد الناصر. تنتشر، أيضاً، الشعارات المهضومة والطريفة المؤيّدة للرجل الأقوى حاليا في مصر، منها مثلاً: «كمِّل معروفك يا سيسي وابقى رئيسي». بات السيسي الرئيس الفعلي للبلاد. لا ينقصه سوى أن يُنتخب. هو الذي سيقرر هل يصبح رئيساً أم يبقى صانع الرئيس المقبل وحارسه. لم يحسم الأمر بعد، لكنه، إذا ترشح، سينجح بلا أدنى شك.

نجح الرجل الحريص على التقارب مع صورة عبد الناصر في جذب جمهور عريض.

عبد الناصر والعروبة و«ثورة» الإطاحة بالرئيس الإخواني محمد مرسي، عناصر مهمة في ديباجة الدستور الجديد. ساهمت 50 شخصية من مختلف مكونات الشعب المصري في صياغة التعديلات الدستورية أو إضافة مواد جديدة. صاغ الكلام الرائع في المقدمة الشاعر سيد حجاب. تحدث عن تطور الثورات في مصر، وجمع بين النبي محمد والسيد المسيح ووالدته السيدة العذراء، وعاد إلى كليم الله. وكما في الديباجة، كذلك في النص. حصل الأقباط على كل ما لم يحصلوا عليه منذ عقود طويلة. صار للمرأة وضع يساوي وضع الرجل. أُدخلت مواد خاصة بالعمل والمزارعين والضمان الاجتماعي وحرية الإعلام. كل شيء يكاد يحاكي قوانين المدينة الفاضلة سوى تأسيس الأحزاب على أساس ديني.

من لم ينتبه إلى ذلك في المادة 74، فإن الرئيس عدلي منصور كان واضحاً في خطابه الذي مهد للإعلان الدستوري. قال بلهجة الواثق إن الجيش خلفه، وجزءاً كبيراً من الشعب أيضاً: «لا مجال للعودة إلى الوراء». أضاف ملمّحاً إلى الإخوان: «إني ادعوهم للتحلي بالشجاعة، والتخلي عن العناد والمكابرة.. والتوقف عن السعي وراء سراب وأوهام».

لا شك أن منصور والسيسي، وكل الفريق القابض حاليا على شؤون البلاد، يدركون أن الاستفتاء على الدستور سيمرّ بسهولة في 14 كانون الثاني المقبل رغم توقع بعض المشاكل. لكنهم، بلا شك، يدركون أيضاً أن القضية الأولى في مصر تبقى الاقتصاد.

مع انتهاء كتابة هذا المقال، يكون عدّاد مركز الإحصاء قد سجل زيادة عشرات المصريين. لا بد من معجزة اقتصادية، أما السياسة فهي بأمان حالياً لأنها في قبضة الجيش، ولأن المصري معتاد على محبة المؤسسة العسكرية. هل يتجاوب السيسي؟

  • فريق ماسة
  • 2013-12-14
  • 11098
  • من الأرشيف

مصر للسيسي: كُن رئيسي!

حين يغادر زائر القاهرة صوب المطار، يمكنه أن يشاهد قبيل الوصول إليه شاشة كبيرة على حائط مبنى شاهق. على الشاشة عدّاد يزداد رقماً بعد رقم بسرعة لافتة. مركز الإحصاء المركزي للسكان وضعه لكي يرى من يريد من الزوار أن عدد سكان مصر يزداد طفلاً كل 14 ثانية تقريباً. الرقم على الشاشة وصل اليوم إلى 82 مليوناً، لكن الإحصاءات الدولية تؤكّد أن أم الدنيا تنجب مليون نسمة كل تسعة أشهر، ما يعني أن العدد ربما تخطى الـ 92 مليوناً. يبتسم زميلي المصري وهو يؤكد هذا الرقم. يقول: «شفت يا باشا، يعني لو مات كل يوم 100 مش حنتأثر كتير». يضحك من القلب كما يضحك المصريون على كل شيء. على السياسة والفقر والحياة، وعلى التظاهرات المتفرقة أو الخاطفة للإخوان المسلمين التي يتضاءل عددها يوماً بعد آخر. لكنها مستمرة، وربما ترتفع قبيل الاستفتاء على الدستور الجديد أو خلاله. خسر الإخوان للمرة الأولى منذ ربع قرن نقابة الأطباء. لا يبدو الوضع الأمني مثيراً للقلق في القاهرة. الحياة شبه عادية. الزحمة نفسها. النكات نفسها. الفقر ذاته. أصوات بائعي الصحف لا تزال تضفي على الحياة القاهرية حيوية خاصة. الوضع لا يثير القلق كثيراً، لكن القلق موجود. الحوادث الأمنية المتفرقة تقع. سيناء لا تزال محور اشتباكات. يزداد الإرهاب عند الحدود المصرية ــــ الإسرائيلية. يزداد معه الانتشار الأمني. يزداد، أيضاً، اتهام فلسطينيي حركة حماس بالتورط. الحركة تنفي. لا مجال لسماع النفي الآن. تغيّر المناخ الذي كان فيه خالد مشعل وموسى أبو مرزوق ومحمود الزهار وغيرهم يدخلون مطار القاهرة مثل كبار الزوار. لم تجدّد السلطات المصرية أوراق إقامة الكثير من قادة وأعضاء الحركة التي ربما، تماماً كالرئيس المخلوع محمد مرسي، لم تتوقّع سرعة التغيير في مصر. لم ينتظروا، جميعاً أيضاً، أن تنزل السعودية والإمارات وغيرهما بكل ثقلها لإنهاء عصر الإخوان و... عصر قطر في مصر، وعصر تركيا. كل شيء يبدو عادياً في القاهرة. وحدها الطبيعة فاجأت الجميع. وصلت عاصفة الثلوج إلى قلب العاصمة. غسلت الطبيعة أشجار المدينة وشوارعها ومبانيها. وحده غسيل القلوب في حاجة إلى وقت طويل. تنتشر صور السيسي في كل مكان. معظم الصور مقرونة بأخرى للزعيم الراحل جمال عبد الناصر. تنتشر، أيضاً، الشعارات المهضومة والطريفة المؤيّدة للرجل الأقوى حاليا في مصر، منها مثلاً: «كمِّل معروفك يا سيسي وابقى رئيسي». بات السيسي الرئيس الفعلي للبلاد. لا ينقصه سوى أن يُنتخب. هو الذي سيقرر هل يصبح رئيساً أم يبقى صانع الرئيس المقبل وحارسه. لم يحسم الأمر بعد، لكنه، إذا ترشح، سينجح بلا أدنى شك. نجح الرجل الحريص على التقارب مع صورة عبد الناصر في جذب جمهور عريض. عبد الناصر والعروبة و«ثورة» الإطاحة بالرئيس الإخواني محمد مرسي، عناصر مهمة في ديباجة الدستور الجديد. ساهمت 50 شخصية من مختلف مكونات الشعب المصري في صياغة التعديلات الدستورية أو إضافة مواد جديدة. صاغ الكلام الرائع في المقدمة الشاعر سيد حجاب. تحدث عن تطور الثورات في مصر، وجمع بين النبي محمد والسيد المسيح ووالدته السيدة العذراء، وعاد إلى كليم الله. وكما في الديباجة، كذلك في النص. حصل الأقباط على كل ما لم يحصلوا عليه منذ عقود طويلة. صار للمرأة وضع يساوي وضع الرجل. أُدخلت مواد خاصة بالعمل والمزارعين والضمان الاجتماعي وحرية الإعلام. كل شيء يكاد يحاكي قوانين المدينة الفاضلة سوى تأسيس الأحزاب على أساس ديني. من لم ينتبه إلى ذلك في المادة 74، فإن الرئيس عدلي منصور كان واضحاً في خطابه الذي مهد للإعلان الدستوري. قال بلهجة الواثق إن الجيش خلفه، وجزءاً كبيراً من الشعب أيضاً: «لا مجال للعودة إلى الوراء». أضاف ملمّحاً إلى الإخوان: «إني ادعوهم للتحلي بالشجاعة، والتخلي عن العناد والمكابرة.. والتوقف عن السعي وراء سراب وأوهام». لا شك أن منصور والسيسي، وكل الفريق القابض حاليا على شؤون البلاد، يدركون أن الاستفتاء على الدستور سيمرّ بسهولة في 14 كانون الثاني المقبل رغم توقع بعض المشاكل. لكنهم، بلا شك، يدركون أيضاً أن القضية الأولى في مصر تبقى الاقتصاد. مع انتهاء كتابة هذا المقال، يكون عدّاد مركز الإحصاء قد سجل زيادة عشرات المصريين. لا بد من معجزة اقتصادية، أما السياسة فهي بأمان حالياً لأنها في قبضة الجيش، ولأن المصري معتاد على محبة المؤسسة العسكرية. هل يتجاوب السيسي؟

المصدر : الأخبار/ سامي كليب


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة