فجّر وزير الخارجية العماني يوسف بن علوي مفاجأة كبيرة بتصريحاته يوم السبت الماضي التي أعلن فيها رفض بلاده فكرة الاتحاد الخليجي وأن عُمان ستنسحب من ‘مجلس التعاون الخليجي’ لو قررت الدول الخمس الأخرى الموافقة على الاتحاد.

عوّدت سلطنة عُمان جيرانها على كونها البلد الأكثر هدوءاً دبلوماسياً والأبعد عن التصريح عن الخلافات مع شقيقاتها الخليجيات ولكن يبدو أن ‘الكيل طفح’ وانفلت عيار التوازنات الضابطة مما فرض هذا الموقف الحادّ والصريح الذي فتح الباب أمام معركة سياسية واعلامية بين مسقط والرياض.

يأتي الموقف العُماني ليزيد الضغط على الدبلوماسية السعودية المنهكة بملفّات معقدة، أهمّها الملفّ الإيراني، فهو رأس ملفّات المنطقة كلها، من البحرين واليمن مروراً بسوريا ولبنان وفلسطين، وباتخاذ هذا الموقف من الاتحاد، تنضاف عُمان الى المشاكل الكبيرة التي تنوء السعودية تحت ضغطها.

يكشف موقف عُمان بجلاء مأزق السياسة الخارجية السعودية ويضعف قدرتها على الفعل، ولعلّ ما يزعج الرياض أشد الإزعاج في معركتها السياسية الكبيرة مع ايران أن الأخيرة تسدد لها الضربات غير المتوقعة وتفقدها صف حلفائها الواحد تلو الآخر، من أمريكا التي بدأت عملية سياسية تاريخية مع الجمهورية الاسلامية، الى عُمان، التي انتقلت من الوساطة بين واشنطن وطهران الى البعد عن السعودية أكثر فأكثر والاقتراب من ايران بميل حادّ، بحيث أحسّت الرياض بأن الضربة جاءتها من داخل بيتها: مجلس التعاون الخليجي، والحقيقة ان هذه الضربة سيكون لها مفاعيل كبيرة.

الهوّة المتزايدة الاتساع بين السعودية وعُمان هي نتيجة لتراكم أسباب عديدة أهمها الإحساس المتصاعد بتراجع مقام السعودية في توازنات القوى بمنطقة الخليج العربي، والذي يعود أساساً لأخطاء سياسية تراكمت فجعلتها طرفاً بين أطراف فاقدة بذلك دورها السابق كمظلّة واسعة تحتوي خلافات شقيقاتها الأصغر في دول الخليج.

بعد خروجها من الحرب مع العراق اتبعت ايران سياسة هجومية توظف قدراتها المالية والعسكرية الكبيرة وتستثمرها في النظامين السوري والعراقي وفي الحاضنة الشيعية في المنطقة العربية (الأحزاب الشيعية العراقية، حزب الله اللبناني، الحوثيون في اليمن الخ…)، إضافة الى بعض الأحزاب ‘اليسارية’ (التي بلعت رطانتها ‘العلمانية’ المعادية للنظم الدينية فجأة) والأحزاب ‘القومية’ (التي كلّفت إيران مهمة توحيد الأمة العربية)، والاسلامية السنية (الضرورية لتخفيف الطابع الشيعي للسياسة الايرانية).

بالمقارنة، فلم تكن لدى السعودية استراتيجية سياسية واضحة لمواجهة الاستراتيجية الايرانية، وبدلاً من مراكمة الجيوش والحلفاء القادرين على تغيير الواقع السياسي على الأرض، كما فعلت ايران، او الاعتماد على حركات سياسية فاعلة، وإعلام مؤثّر، وديناميكية استثمارية كبيرة، كما فعلت قطر، فان الرياض لجأت لتعزيز نفوذها، بشكل رئيسي، عبر العمل الاستخباراتي والمالي والاعلامي، وهو ما أدى عملياً الى تراجع نفوذها باضطراد رغم وزنها الرمزي الكبير باعتبارها البلد الذي ظهر فيه الاسلام.

ومع هبوب التغيرات الهائلة على المنطقة وبدء الثورات العربية تكشّفت عورات السياسة السعودية ووقوفها المسيء ضد التاريخ، فدافعت بشراسة عن نظام الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، وساهمت في قمع الحراك المدني في البحرين، أما وقوفها مع المعارضة السورية فكان انتظاماً في مواجهة مع محور إيران في المنطقة لا حباً في الديمقراطية والحكم المدني.

وجاء موقفها اللاحق في التمويل والتحشيد السياسي والاعلامي ضد الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي وجماعة الإخوان المسلمين استكمالاً لمسلسل أخطائها الاستراتيجية، فعلى عكس ايران التي استثمرت في جماعات واحزاب الاسلام السياسي الشيعي (والسني)، قامت السعودية باستعداء أحزاب الإسلام السياسي، وهو ما أفقدها حلفاء خطيرين في العالمين العربي والاسلامي، كما وتّر علاقاتها مع حليف شديد الفعالية في البيت الخليجي (قطر) والعالم العربي، وساهم في زيادة التوتر والاستقطاب بين العسكر والاسلاميين في العالم العربي، بدل العمل على حل هذا النزاع المميت وتأطير جماعات الاسلام السياسي في اطار سياسة عربية اسلامية تصالحية.

السعودية، بالنتيجة، تحصد الآن ثمار سياسة خاطئة لن تلبث أن تهبّ بقوة على ربعها الخالي!

  • فريق ماسة
  • 2013-12-10
  • 9246
  • من الأرشيف

السعودية تتراجع امام ايران في الخليج

فجّر وزير الخارجية العماني يوسف بن علوي مفاجأة كبيرة بتصريحاته يوم السبت الماضي التي أعلن فيها رفض بلاده فكرة الاتحاد الخليجي وأن عُمان ستنسحب من ‘مجلس التعاون الخليجي’ لو قررت الدول الخمس الأخرى الموافقة على الاتحاد. عوّدت سلطنة عُمان جيرانها على كونها البلد الأكثر هدوءاً دبلوماسياً والأبعد عن التصريح عن الخلافات مع شقيقاتها الخليجيات ولكن يبدو أن ‘الكيل طفح’ وانفلت عيار التوازنات الضابطة مما فرض هذا الموقف الحادّ والصريح الذي فتح الباب أمام معركة سياسية واعلامية بين مسقط والرياض. يأتي الموقف العُماني ليزيد الضغط على الدبلوماسية السعودية المنهكة بملفّات معقدة، أهمّها الملفّ الإيراني، فهو رأس ملفّات المنطقة كلها، من البحرين واليمن مروراً بسوريا ولبنان وفلسطين، وباتخاذ هذا الموقف من الاتحاد، تنضاف عُمان الى المشاكل الكبيرة التي تنوء السعودية تحت ضغطها. يكشف موقف عُمان بجلاء مأزق السياسة الخارجية السعودية ويضعف قدرتها على الفعل، ولعلّ ما يزعج الرياض أشد الإزعاج في معركتها السياسية الكبيرة مع ايران أن الأخيرة تسدد لها الضربات غير المتوقعة وتفقدها صف حلفائها الواحد تلو الآخر، من أمريكا التي بدأت عملية سياسية تاريخية مع الجمهورية الاسلامية، الى عُمان، التي انتقلت من الوساطة بين واشنطن وطهران الى البعد عن السعودية أكثر فأكثر والاقتراب من ايران بميل حادّ، بحيث أحسّت الرياض بأن الضربة جاءتها من داخل بيتها: مجلس التعاون الخليجي، والحقيقة ان هذه الضربة سيكون لها مفاعيل كبيرة. الهوّة المتزايدة الاتساع بين السعودية وعُمان هي نتيجة لتراكم أسباب عديدة أهمها الإحساس المتصاعد بتراجع مقام السعودية في توازنات القوى بمنطقة الخليج العربي، والذي يعود أساساً لأخطاء سياسية تراكمت فجعلتها طرفاً بين أطراف فاقدة بذلك دورها السابق كمظلّة واسعة تحتوي خلافات شقيقاتها الأصغر في دول الخليج. بعد خروجها من الحرب مع العراق اتبعت ايران سياسة هجومية توظف قدراتها المالية والعسكرية الكبيرة وتستثمرها في النظامين السوري والعراقي وفي الحاضنة الشيعية في المنطقة العربية (الأحزاب الشيعية العراقية، حزب الله اللبناني، الحوثيون في اليمن الخ…)، إضافة الى بعض الأحزاب ‘اليسارية’ (التي بلعت رطانتها ‘العلمانية’ المعادية للنظم الدينية فجأة) والأحزاب ‘القومية’ (التي كلّفت إيران مهمة توحيد الأمة العربية)، والاسلامية السنية (الضرورية لتخفيف الطابع الشيعي للسياسة الايرانية). بالمقارنة، فلم تكن لدى السعودية استراتيجية سياسية واضحة لمواجهة الاستراتيجية الايرانية، وبدلاً من مراكمة الجيوش والحلفاء القادرين على تغيير الواقع السياسي على الأرض، كما فعلت ايران، او الاعتماد على حركات سياسية فاعلة، وإعلام مؤثّر، وديناميكية استثمارية كبيرة، كما فعلت قطر، فان الرياض لجأت لتعزيز نفوذها، بشكل رئيسي، عبر العمل الاستخباراتي والمالي والاعلامي، وهو ما أدى عملياً الى تراجع نفوذها باضطراد رغم وزنها الرمزي الكبير باعتبارها البلد الذي ظهر فيه الاسلام. ومع هبوب التغيرات الهائلة على المنطقة وبدء الثورات العربية تكشّفت عورات السياسة السعودية ووقوفها المسيء ضد التاريخ، فدافعت بشراسة عن نظام الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، وساهمت في قمع الحراك المدني في البحرين، أما وقوفها مع المعارضة السورية فكان انتظاماً في مواجهة مع محور إيران في المنطقة لا حباً في الديمقراطية والحكم المدني. وجاء موقفها اللاحق في التمويل والتحشيد السياسي والاعلامي ضد الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي وجماعة الإخوان المسلمين استكمالاً لمسلسل أخطائها الاستراتيجية، فعلى عكس ايران التي استثمرت في جماعات واحزاب الاسلام السياسي الشيعي (والسني)، قامت السعودية باستعداء أحزاب الإسلام السياسي، وهو ما أفقدها حلفاء خطيرين في العالمين العربي والاسلامي، كما وتّر علاقاتها مع حليف شديد الفعالية في البيت الخليجي (قطر) والعالم العربي، وساهم في زيادة التوتر والاستقطاب بين العسكر والاسلاميين في العالم العربي، بدل العمل على حل هذا النزاع المميت وتأطير جماعات الاسلام السياسي في اطار سياسة عربية اسلامية تصالحية. السعودية، بالنتيجة، تحصد الآن ثمار سياسة خاطئة لن تلبث أن تهبّ بقوة على ربعها الخالي!

المصدر : رأي القدس


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة