بالتدقيق، سنرى أن الاتفاق المؤقت الحاصل بين إيران والدول الست الكبرى، هو، في حدّ ذاته، صفقة متوازنة، وتحقق مطالب الأطراف، فنيّاً: الحقّ في التخصيب مقابل تخفيضه نوعاً وكماً، واخضاعه للتفتيش،

وأمنياً: الحيلولة دون تمكين الإيرانيين من القدرة على تصنيع سلاح نووي مقابل رفع العقوبات. غير أن الأهمّ من كل تلك التفاصيل، هو تطبيع العلاقات الدولية مع إيران، والاعتراف الأميركيّ بها كقوة إقليمية كبرى. وهذا هو بالذات، لا الاتفاق النووي نفسه، ما يثير الغضب الإسرائيلي الحادّ؛ فطهران التي تنازلت عن مستوى التخصيب ووافقت على تعطيل أجهزة تخصيب ووقف بناء المزيد منها، لم تقدّم أيّ تنازلات عن ثوابتها السياسية، سواء في مجال تطوير قدراتها الدفاعية التقليدية ـــ التي تحولت إلى قوة ردع استراتيجية ـــ أم في نهجها التنموي المستقل ـــ الذي حقق قفزات نوعية ـــ أم في حقل نفوذها الإقليمي ـــ ولا سيما في العراق ومناطق التشيّع العربي ـــ أم في موقفها الداعم للدولة السورية وحزب الله وخط المقاومة، أم في موقفها المعروف من إسرائيل والقضية الفلسطينية.

هكذا، كان وزير الخارجية الأميركي جون كيري كمن يجيب على جوهر المخاوف الإسرائيلية، حين صرّح بأن على طهران «أن تغيّر في سلوكها السياسي إذا ما أرادت تطوير علاقاتها البعيدة المدى مع الولايات المتحدة». معنى ذلك أن الطريق ما تزال «طويلة وصعبة»، على حد تعبير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، صاحب الاقتراح البنّاء لحل الخلافات الإيرانية ـــ الأميركية الغربية، على أساس «التسلسلية والايجابية»، وبالتالي فصل الملفات بعضها عن بعض، وتفتيتها إلى اتفاقات جزئية.

هذا التكتيك هو نفسه الذي مارسته السياسة الأميركية مع العرب لصالح إسرائيل: تفكيك ملفات الصراع الكبرى إلى ملفات فرعية، والتوصل إلى صفقات بشأنها. تكتيك ارتدّ على تل أبيب الآن؛ لقد نجح المنطق الروسي في التوصل إلى آلية سياسية لإنجاز الاتفاقات الجزئية والمؤقتة في سياق تصالحي للصراع الإيراني ــــ الأميركي الغربي. وهو ما وجدته واشنطن الحلّ الأمثل لتجاوز صدام مع طهران، لم يعد مضمون النتائج. إنه، على نحوٍ ما، تكرار لصفقة الكيماوي السوري التي سمحت للرئيس الأميركي باراك أوباما، بالنزول عن شجرة المحافظين الجدد وحلفائهم في السعودية وإسرائيل، وتلافي شنّ حرب مغامرة على سوريا.

 

في الخلفية، علينا أن نعيد اكتشاف نزعة أوباما السلمية، بوصفها استجابة لثلاثة تحولات كبرى هي الأزمة المالية الاقتصادية للرأسمالية الغربية برمتها، وتراجع القدرات الأميركية، في مختلف المجالات، سيما القدرات الحربية، وصعود روسيا والصين ومنظومة البريكس.

الاتحاد الروسيّ الآن، ليس، بالتأكيد، هو الاتحاد السوفياتي بالأمس. وقد لا تكون روسيا اليوم بالجبروت السوفياتي السابق، ولكنها أكثر فعالية في الحركة وتحقيق المنجزات السياسية. روسيا، المتحررة من القيود الأيديولوجية الكابحة ومخاطر الحرب النووية والكلفة غير الاقتصادية لإدارة «الامبراطورية»، توظّف، من موقع الدفاع عن مصالحها القومية، قوتها الاقتصادية والعسكرية وتحالفاتها ودبلوماسيتها الديناميكية ونهجها السياسي الجديد القائم على مزيج مرن من المبدئية والبراغماتية، في تحسين شروط قيام عالم متعدد القطبية، خاضع للقانون الدولي، يرنو نحو السلام والتنمية، والتبادل التجاري والثقافي على أسس متكافئة. وعالم كهذا هو، وحده، الذي يضمن أمن روسيا وازدهارها.

وسواء كانت استجابة الولايات المتحدة للحلول الوسط تكتيكاً مرتبطاً بحاجتها إلى إعادة هيكلة قوتها وتجديدها، أم كانت تعبيرا عن تحوّل استراتيجي، فإن ما يحدث في الهنا والآن، هو مظاهر متعددة للتوافق الأميركي ــــ الروسي على إدارة الملفات. وقد اتضح أن هذا التوافق هو السقف الذي لم يعد أيٌ كان قادرا على اختراقه؛ ففي النهاية صبّت واشنطن على رأسيّ حليفتيها، السعودية وإسرائيل، ماء باردا، مرتين متتابعتين خلال هذا الخريف، بصفقتين مفتاحيتين، كيماوي سوريا ونووي إيران؛ غير أن الآتي أعظم.

ليست لهاتين الصفقتين، في حد ذاتهما، أهمية كبرى، إلا في كونهما تقودان إلى سلسلة من التفاهمات في كل الملفات الإقليمية الساخنة، وعلى رأسها مكافحة الإرهاب، الملف الموكول، دولياً، للجيش العربي السوري وحلفائه. وإذا كانت إسرائيل تقلق من تشكُّل ظروف تقود إلى انسحابها من الجولان وما بقي من جنوب لبنان وأجزاء من الضفة الغربية، فإن حكّام السعودية، في حالة هلع، ليس فقط إزاء حتمية الحل السياسي في سوريا، بل ـــــ أكثر ــــ إزاء حتمية الحل السياسي في البحرين واليمن، وحتمية التغيير في الداخل السعودي، لصالح التحديث وإنصاف المهمشين، وفي مقدمهم مهمشو المنطقة الشرقية.

من سوء حظ المملكة أنها لا تملك البنية السياسية ولا العقلية ولا الإرادة للدخول على خط التفاهمات، بل إنها ـــ وبالنظر إلى إصرارها على استخدام الإرهاب التكفيري والمذهبي، كأداة سياسية ـــ تحكم على نفسها بالتحول، واقعياً، إلى دولة منبوذة.

 

  • فريق ماسة
  • 2013-11-23
  • 11206
  • من الأرشيف

الآتي أعظم : تفاهمات إقليمية … والسعودية دولة منبوذة

بالتدقيق، سنرى أن الاتفاق المؤقت الحاصل بين إيران والدول الست الكبرى، هو، في حدّ ذاته، صفقة متوازنة، وتحقق مطالب الأطراف، فنيّاً: الحقّ في التخصيب مقابل تخفيضه نوعاً وكماً، واخضاعه للتفتيش، وأمنياً: الحيلولة دون تمكين الإيرانيين من القدرة على تصنيع سلاح نووي مقابل رفع العقوبات. غير أن الأهمّ من كل تلك التفاصيل، هو تطبيع العلاقات الدولية مع إيران، والاعتراف الأميركيّ بها كقوة إقليمية كبرى. وهذا هو بالذات، لا الاتفاق النووي نفسه، ما يثير الغضب الإسرائيلي الحادّ؛ فطهران التي تنازلت عن مستوى التخصيب ووافقت على تعطيل أجهزة تخصيب ووقف بناء المزيد منها، لم تقدّم أيّ تنازلات عن ثوابتها السياسية، سواء في مجال تطوير قدراتها الدفاعية التقليدية ـــ التي تحولت إلى قوة ردع استراتيجية ـــ أم في نهجها التنموي المستقل ـــ الذي حقق قفزات نوعية ـــ أم في حقل نفوذها الإقليمي ـــ ولا سيما في العراق ومناطق التشيّع العربي ـــ أم في موقفها الداعم للدولة السورية وحزب الله وخط المقاومة، أم في موقفها المعروف من إسرائيل والقضية الفلسطينية. هكذا، كان وزير الخارجية الأميركي جون كيري كمن يجيب على جوهر المخاوف الإسرائيلية، حين صرّح بأن على طهران «أن تغيّر في سلوكها السياسي إذا ما أرادت تطوير علاقاتها البعيدة المدى مع الولايات المتحدة». معنى ذلك أن الطريق ما تزال «طويلة وصعبة»، على حد تعبير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، صاحب الاقتراح البنّاء لحل الخلافات الإيرانية ـــ الأميركية الغربية، على أساس «التسلسلية والايجابية»، وبالتالي فصل الملفات بعضها عن بعض، وتفتيتها إلى اتفاقات جزئية. هذا التكتيك هو نفسه الذي مارسته السياسة الأميركية مع العرب لصالح إسرائيل: تفكيك ملفات الصراع الكبرى إلى ملفات فرعية، والتوصل إلى صفقات بشأنها. تكتيك ارتدّ على تل أبيب الآن؛ لقد نجح المنطق الروسي في التوصل إلى آلية سياسية لإنجاز الاتفاقات الجزئية والمؤقتة في سياق تصالحي للصراع الإيراني ــــ الأميركي الغربي. وهو ما وجدته واشنطن الحلّ الأمثل لتجاوز صدام مع طهران، لم يعد مضمون النتائج. إنه، على نحوٍ ما، تكرار لصفقة الكيماوي السوري التي سمحت للرئيس الأميركي باراك أوباما، بالنزول عن شجرة المحافظين الجدد وحلفائهم في السعودية وإسرائيل، وتلافي شنّ حرب مغامرة على سوريا.   في الخلفية، علينا أن نعيد اكتشاف نزعة أوباما السلمية، بوصفها استجابة لثلاثة تحولات كبرى هي الأزمة المالية الاقتصادية للرأسمالية الغربية برمتها، وتراجع القدرات الأميركية، في مختلف المجالات، سيما القدرات الحربية، وصعود روسيا والصين ومنظومة البريكس. الاتحاد الروسيّ الآن، ليس، بالتأكيد، هو الاتحاد السوفياتي بالأمس. وقد لا تكون روسيا اليوم بالجبروت السوفياتي السابق، ولكنها أكثر فعالية في الحركة وتحقيق المنجزات السياسية. روسيا، المتحررة من القيود الأيديولوجية الكابحة ومخاطر الحرب النووية والكلفة غير الاقتصادية لإدارة «الامبراطورية»، توظّف، من موقع الدفاع عن مصالحها القومية، قوتها الاقتصادية والعسكرية وتحالفاتها ودبلوماسيتها الديناميكية ونهجها السياسي الجديد القائم على مزيج مرن من المبدئية والبراغماتية، في تحسين شروط قيام عالم متعدد القطبية، خاضع للقانون الدولي، يرنو نحو السلام والتنمية، والتبادل التجاري والثقافي على أسس متكافئة. وعالم كهذا هو، وحده، الذي يضمن أمن روسيا وازدهارها. وسواء كانت استجابة الولايات المتحدة للحلول الوسط تكتيكاً مرتبطاً بحاجتها إلى إعادة هيكلة قوتها وتجديدها، أم كانت تعبيرا عن تحوّل استراتيجي، فإن ما يحدث في الهنا والآن، هو مظاهر متعددة للتوافق الأميركي ــــ الروسي على إدارة الملفات. وقد اتضح أن هذا التوافق هو السقف الذي لم يعد أيٌ كان قادرا على اختراقه؛ ففي النهاية صبّت واشنطن على رأسيّ حليفتيها، السعودية وإسرائيل، ماء باردا، مرتين متتابعتين خلال هذا الخريف، بصفقتين مفتاحيتين، كيماوي سوريا ونووي إيران؛ غير أن الآتي أعظم. ليست لهاتين الصفقتين، في حد ذاتهما، أهمية كبرى، إلا في كونهما تقودان إلى سلسلة من التفاهمات في كل الملفات الإقليمية الساخنة، وعلى رأسها مكافحة الإرهاب، الملف الموكول، دولياً، للجيش العربي السوري وحلفائه. وإذا كانت إسرائيل تقلق من تشكُّل ظروف تقود إلى انسحابها من الجولان وما بقي من جنوب لبنان وأجزاء من الضفة الغربية، فإن حكّام السعودية، في حالة هلع، ليس فقط إزاء حتمية الحل السياسي في سوريا، بل ـــــ أكثر ــــ إزاء حتمية الحل السياسي في البحرين واليمن، وحتمية التغيير في الداخل السعودي، لصالح التحديث وإنصاف المهمشين، وفي مقدمهم مهمشو المنطقة الشرقية. من سوء حظ المملكة أنها لا تملك البنية السياسية ولا العقلية ولا الإرادة للدخول على خط التفاهمات، بل إنها ـــ وبالنظر إلى إصرارها على استخدام الإرهاب التكفيري والمذهبي، كأداة سياسية ـــ تحكم على نفسها بالتحول، واقعياً، إلى دولة منبوذة.  

المصدر : الأخبار / ناهض حتر


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة