قبل عام تقريبا، وفجر يوم الاربعاء الموافق الحادي عشر من تشرين الاول (اكتوبر) عام 2012 قامت مقاتلات تركية باعتراض طائرة مدنية سورية قادمة من موسكو واجبارها على الهبوط في مطار “اسن بوغا” في انقرة للاشتباه بنقلها اسلحة روسية الى الدولة السورية

وبعد ساعات سمحت السلطات التركية للطائرة بمواصلة رحلتها بعد مصادرة حمولتها، الامر الذي اثار غضب موسكو وقيصرها فلاديمير بوتين، وشكل توترا في العلاقات بين البلدين كاد ان يتطور الى مواجهات عسمرية.

الخميس يحط السيد رجب طيب اردوغان رئيس وزراء تركيا الرحال في موسكو في زيارة تعتبر على درجة كبيرة من الاهمية، من المتوقع ان يلتقي خلالها الرئيس بوتين، في اطار اجتماع مجلس التعاون الروسي التركي ينعقد في مدينة بطرسبورغ، ثم ينفرد الرجلان في لقاء مغلق لبحث الازمة السورية، والدور الذي يمكن ان يلعبه الرئيس بشار الاسد في المرحلة المقبلة على حد قول وكالة الاناضول الرسمية.

من الواضح ان التغيير الاكبر في المواقف وقع في الجانب التركي، اكثر مما هو في الجانب الروسي، وبعد ادراك السيد اردوغان ان معركته بشقيها السياسي والعسكري لاسقاط النظام السوري من الصعب كسبها، والاخطر من ذلك انها بدأت تنعكس سلبيا على بلاده، ووحدتها الترابية، وامنها الداخلي.

رئيس الوزراء التركي الذي فتح اراضي ومطارات بلاده لعبور المقاتلين الجهاديين، واموال دول الخليج الداعمة لهم، وقطر والسعودية على وجه الخصوص، وفتح فنادق اسطنبول لاستضافة مؤتمرات المعارضة، ومرور السلاح الى جبهات قتالها، وجد نفسه معزولا، يقف وحده في الميدان بعد ان هجرته الولايات المتحدة حليفه الاساسي، والدول الاوروبية، بينما فضلت المملكة العربية السعودية البوابة الاردنية، ونقلت مقر مخابراتها وانشطته من اسطنبول الى عمان، وبدأت اتهامات تتصاعد بدعمه لـ”الارهاب” في سورية، خاصة من الرئيس اوباما الذي كان اللقاء معه عاصفا اثناء زيارة السيد اردوغان الاخيرة للبيت الابيض قبل شهرين.

***

الصدمة الكبرى للسيد اردوغان التي ادت الى تغيير متسارع لمواقفه تمثلت في عدة جوانب لا يمكن القفز فوقها او تجاهل اهميتها:

*اولا: تحرك حزب الاتحاد الديمقراطي المقرب من حزب العمال بزعامة عبد الله اوجلان في شمال سورية، وتشكيل ادارة حكم ذاتي مستقل في المناطق الكردية التي تمتد من الحدود العراقية السورية في الشرق الى الحدود السورية التركية في الغرب، وهو الحكم الذاتي مقدمة للانفصال واعلان كيان كردي مستقل على غرار ما حدث في شمال العراق وقيام حزام كردي على طول الحدود التركية الجنوبية.

 

*ثانيا: توصل ادارة اوباما الى اتفاق مفاجيء حول تفكيك الاسلحة الكيماوية السورية بتنسيق مع موسكو والتراجع عن الضربة العسكرية، وجاءت الطاقة الكبرى عندما فتحت الادارة نفسها حوارا مع ايران من وراء ظهر تركيا، وتخلت تماما عن الحلول العسكرية للملفين السوري والايراني لمصلحة الحلول السياسية التفاوضية.

*ثالثا: تهميش تركيا ودورها في مؤتمر جنيف الثاني، وعدم التشاور والتنسيق معها فيما يتعلق بالملف السوري والحلول السلمية السياسية بما لا يتلائم مع حجمها ودورها وتضحياتها.

*رابعا: تحرك"العلويين"في تركيا ضد حكومة اردوغان، ونزول الالآف للمطالبة بالاعتراف بهويتها الطائفية وفتح مساجدها وتدريسها في مدارس خاصة

*خامسا: اكتشاف المخابرات التركية عمليات تجنيد من قبل الجماعات الجهادية المقاتلة في سورية لشباب تركي في المناطق المحاذية للحدود للقتال في صفوفها، وباعداد كبيرة.

وازاء هذه العوامل، مجتمعة او متفرقة، قرر اردوغان الذي يقف على اعتاب انتخابات رئاسية في العام المقبل يشارك فيها الشعب لاول مرة، البحث عن بدائل للحليف الامريكي “العاق” الذي ورطه في الازمة السورية ثم تخلى عنه، ولم يجد غير روسيا التي سيزورها غدا، والصين الذي يبحث شراء صواريخ منها، ولا ننسى تقاربه المفاجيء مع بغداد وطهران، وارسال ثعلب سياسته الخارجية (داوود اوغلو) الى العاصمتين بحثا عن كل وسيلة ممكنة لاعادة ترميم العلاقات مجددا.

ومن المفارقة ان السيد اردوغان يصل بعد يوم من زيارة بنيامين نتنياهو رئيس وزراء اسرائيل الى العاصمة الروسية، للاسباب نفسها، مضافا اليها سبب آخر وهو محاولة تعطيل الاتفاق المتوقع بين ايران والدول الست العظمى، حول برنامجها النووي سيؤدي الى تخفيف تدريجي للعقوبات.

***

انه موسم الحجيج الى الكرملين من قبل حلفاء واشنطن القدامى واليتامى، وسواء كان هذا الحجيج من قبيل “المناكفة” لاستفزاز واشنطن واثارة غيرتها وساكن وبيتها الابيض، او انعكاسا لتحول حقيقي في الاستراتيجيات، فانه يؤكد صعودا قويا لروسيا كقوة عظمى تستعيد مكانتها ونفوذها في المسرح الدولي واعترافا بانتصارها وسياساتها في الشرق وسورية على وجه الخصوص.

لا بد ان الرئيس السوري بشار الاسد يفرك يديه فرحا وهو يتابع هذا الحجيج، خاصة انه شمل وفدا من الائتلاف المعارض، وقبل هذا وذاك الامير بندر بن سلطان رئيس الاستخبارات السعودية الذي يوصف بانه اكثر الغاضبين على الرئيس اوباما وادارته بين يتامى واشنطن.

 

روسيا انتصرت لحلفائها الذين راهنوا عليها ونصرتهم (حتى الآن) اما حلفاء واشنطن الذين اعتمدوا عليها فلم يحصدوا غير الخذلان والاحتقار، فالسياسة مصالح تحتل الاخلاق فيها مكانة متأخرة على سلم اولوياتها، وهذا للاسف ما لم يدركه الكثير من الزعماء العرب، المطاح بهم، او الذين ما زالوا يحتلون مقاعد السلطة.

اردوغان رجل براغماتي واقعي، يوجه بوصلته حيث مصالح بلاده، ومستعد ان يغير دفة مسيرته في لحظات معدودة انطلاقا من هذا المبدأ، وهذا ما يفسر زيارته الى موسكو، وقبلها الى ديار بكر، مستقبلا الزعيم الكردي مسعود البرازاني، سعيا من اجل سلام مع الاكراد ينهي او يخفف من تمردهم ويحافظ على اسقرار تركيا ويحقن دماء ابنائها، ولا نستغرب اذا ما ارسل وزير خارجيته احمد داوود اوغلو الى دمشق في اي يوم من الايام المقبلة للقاء الرئيس الاسد، ووصل ما نقطع من حبال الود!

  • فريق ماسة
  • 2013-11-19
  • 6848
  • من الأرشيف

اردوغان يحج الى موسكو بحثا عن مخرج من الازمة السورية

قبل عام تقريبا، وفجر يوم الاربعاء الموافق الحادي عشر من تشرين الاول (اكتوبر) عام 2012 قامت مقاتلات تركية باعتراض طائرة مدنية سورية قادمة من موسكو واجبارها على الهبوط في مطار “اسن بوغا” في انقرة للاشتباه بنقلها اسلحة روسية الى الدولة السورية وبعد ساعات سمحت السلطات التركية للطائرة بمواصلة رحلتها بعد مصادرة حمولتها، الامر الذي اثار غضب موسكو وقيصرها فلاديمير بوتين، وشكل توترا في العلاقات بين البلدين كاد ان يتطور الى مواجهات عسمرية. الخميس يحط السيد رجب طيب اردوغان رئيس وزراء تركيا الرحال في موسكو في زيارة تعتبر على درجة كبيرة من الاهمية، من المتوقع ان يلتقي خلالها الرئيس بوتين، في اطار اجتماع مجلس التعاون الروسي التركي ينعقد في مدينة بطرسبورغ، ثم ينفرد الرجلان في لقاء مغلق لبحث الازمة السورية، والدور الذي يمكن ان يلعبه الرئيس بشار الاسد في المرحلة المقبلة على حد قول وكالة الاناضول الرسمية. من الواضح ان التغيير الاكبر في المواقف وقع في الجانب التركي، اكثر مما هو في الجانب الروسي، وبعد ادراك السيد اردوغان ان معركته بشقيها السياسي والعسكري لاسقاط النظام السوري من الصعب كسبها، والاخطر من ذلك انها بدأت تنعكس سلبيا على بلاده، ووحدتها الترابية، وامنها الداخلي. رئيس الوزراء التركي الذي فتح اراضي ومطارات بلاده لعبور المقاتلين الجهاديين، واموال دول الخليج الداعمة لهم، وقطر والسعودية على وجه الخصوص، وفتح فنادق اسطنبول لاستضافة مؤتمرات المعارضة، ومرور السلاح الى جبهات قتالها، وجد نفسه معزولا، يقف وحده في الميدان بعد ان هجرته الولايات المتحدة حليفه الاساسي، والدول الاوروبية، بينما فضلت المملكة العربية السعودية البوابة الاردنية، ونقلت مقر مخابراتها وانشطته من اسطنبول الى عمان، وبدأت اتهامات تتصاعد بدعمه لـ”الارهاب” في سورية، خاصة من الرئيس اوباما الذي كان اللقاء معه عاصفا اثناء زيارة السيد اردوغان الاخيرة للبيت الابيض قبل شهرين. *** الصدمة الكبرى للسيد اردوغان التي ادت الى تغيير متسارع لمواقفه تمثلت في عدة جوانب لا يمكن القفز فوقها او تجاهل اهميتها: *اولا: تحرك حزب الاتحاد الديمقراطي المقرب من حزب العمال بزعامة عبد الله اوجلان في شمال سورية، وتشكيل ادارة حكم ذاتي مستقل في المناطق الكردية التي تمتد من الحدود العراقية السورية في الشرق الى الحدود السورية التركية في الغرب، وهو الحكم الذاتي مقدمة للانفصال واعلان كيان كردي مستقل على غرار ما حدث في شمال العراق وقيام حزام كردي على طول الحدود التركية الجنوبية.   *ثانيا: توصل ادارة اوباما الى اتفاق مفاجيء حول تفكيك الاسلحة الكيماوية السورية بتنسيق مع موسكو والتراجع عن الضربة العسكرية، وجاءت الطاقة الكبرى عندما فتحت الادارة نفسها حوارا مع ايران من وراء ظهر تركيا، وتخلت تماما عن الحلول العسكرية للملفين السوري والايراني لمصلحة الحلول السياسية التفاوضية. *ثالثا: تهميش تركيا ودورها في مؤتمر جنيف الثاني، وعدم التشاور والتنسيق معها فيما يتعلق بالملف السوري والحلول السلمية السياسية بما لا يتلائم مع حجمها ودورها وتضحياتها. *رابعا: تحرك"العلويين"في تركيا ضد حكومة اردوغان، ونزول الالآف للمطالبة بالاعتراف بهويتها الطائفية وفتح مساجدها وتدريسها في مدارس خاصة *خامسا: اكتشاف المخابرات التركية عمليات تجنيد من قبل الجماعات الجهادية المقاتلة في سورية لشباب تركي في المناطق المحاذية للحدود للقتال في صفوفها، وباعداد كبيرة. وازاء هذه العوامل، مجتمعة او متفرقة، قرر اردوغان الذي يقف على اعتاب انتخابات رئاسية في العام المقبل يشارك فيها الشعب لاول مرة، البحث عن بدائل للحليف الامريكي “العاق” الذي ورطه في الازمة السورية ثم تخلى عنه، ولم يجد غير روسيا التي سيزورها غدا، والصين الذي يبحث شراء صواريخ منها، ولا ننسى تقاربه المفاجيء مع بغداد وطهران، وارسال ثعلب سياسته الخارجية (داوود اوغلو) الى العاصمتين بحثا عن كل وسيلة ممكنة لاعادة ترميم العلاقات مجددا. ومن المفارقة ان السيد اردوغان يصل بعد يوم من زيارة بنيامين نتنياهو رئيس وزراء اسرائيل الى العاصمة الروسية، للاسباب نفسها، مضافا اليها سبب آخر وهو محاولة تعطيل الاتفاق المتوقع بين ايران والدول الست العظمى، حول برنامجها النووي سيؤدي الى تخفيف تدريجي للعقوبات. *** انه موسم الحجيج الى الكرملين من قبل حلفاء واشنطن القدامى واليتامى، وسواء كان هذا الحجيج من قبيل “المناكفة” لاستفزاز واشنطن واثارة غيرتها وساكن وبيتها الابيض، او انعكاسا لتحول حقيقي في الاستراتيجيات، فانه يؤكد صعودا قويا لروسيا كقوة عظمى تستعيد مكانتها ونفوذها في المسرح الدولي واعترافا بانتصارها وسياساتها في الشرق وسورية على وجه الخصوص. لا بد ان الرئيس السوري بشار الاسد يفرك يديه فرحا وهو يتابع هذا الحجيج، خاصة انه شمل وفدا من الائتلاف المعارض، وقبل هذا وذاك الامير بندر بن سلطان رئيس الاستخبارات السعودية الذي يوصف بانه اكثر الغاضبين على الرئيس اوباما وادارته بين يتامى واشنطن.   روسيا انتصرت لحلفائها الذين راهنوا عليها ونصرتهم (حتى الآن) اما حلفاء واشنطن الذين اعتمدوا عليها فلم يحصدوا غير الخذلان والاحتقار، فالسياسة مصالح تحتل الاخلاق فيها مكانة متأخرة على سلم اولوياتها، وهذا للاسف ما لم يدركه الكثير من الزعماء العرب، المطاح بهم، او الذين ما زالوا يحتلون مقاعد السلطة. اردوغان رجل براغماتي واقعي، يوجه بوصلته حيث مصالح بلاده، ومستعد ان يغير دفة مسيرته في لحظات معدودة انطلاقا من هذا المبدأ، وهذا ما يفسر زيارته الى موسكو، وقبلها الى ديار بكر، مستقبلا الزعيم الكردي مسعود البرازاني، سعيا من اجل سلام مع الاكراد ينهي او يخفف من تمردهم ويحافظ على اسقرار تركيا ويحقن دماء ابنائها، ولا نستغرب اذا ما ارسل وزير خارجيته احمد داوود اوغلو الى دمشق في اي يوم من الايام المقبلة للقاء الرئيس الاسد، ووصل ما نقطع من حبال الود!

المصدر : راي اليوم/عبد الباري عطوان


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة