تختصر الأزمة السورية أزمة المنطقة العربية برمتها، وهي أزمة فكرية قبل كل شيئ، بدأ العالم العربي يتخبط بها منذ بداية الخمسينات من القرن الفائت، وتجلت بوضوح في مصر التي شكلت وما تزال الرئة التي تتنفس من خلالها العروبة، فيما تشكل سوريا القلب النابض لهذه العروبة، وقد اصيب الجسم العربي بالهزال عند خروج مصر عن ثوابتها من خلال توقيعها لاتفاقية كامب ديفيد، فضعفت سوريا، إلاّ ان لهذه الازمة الفكرية في العالم العربي اسباب عدة، منها داخلية ومنها خارجية، تجلّت عواملها بعدما فشلت الأفكار القومية والعلمانية التي عصفت بالعالم العربي خلال الخمسينات والتي تمّ تبنيها من قبل نظامي مصر وسوريا، في تحقيق تطلعات شعوبها في بناء دول مستقلة ومزدهرة، ركيزتها الحريات العامة والعدالة الاجتماعية، وتجربتا الزعيم جمال عبد الناصر والرئيس حافظ الأسد خير دليل على نهضة أجهضت قبل ولادتها.

تميّزت منطقة المشرق أو ما يعرف بالشرق الأوسط، ومنذ فجر التاريخ، بتعدد الحضارات والثقافات، وهي منبع الديانات السماوية وغير السماوية، ثمّ جاء الإسلام ليضاف إلى الثقافات الأخرى السابقة له تاريخياً، ونتيجة التحولات الديمغرافية والاجتماعية والاقتصادية التي مرت بها منطقة المشرق والعالم، اتخذت المنطقة طابع الاسلام الذي شكّل جزءا اساسيا من التكوين المجتمعي المتعدد، ولكنها حافظت في الوقت نفسه على توازنها الديمغرافي، وشكّل هذا التنوع من الثقافات التي تفاعلت فيما بينها على مدى آلاف السنين، فسيفساء جميلة، طبعت المشرق بمبادئ التسامح والانفتاح وتقبل الاختلاف، وقد شكّل الاسلام في مرحلة ما بعد استقلال دول المشرق عاملا وحدويا في ما بين شعوب المنطقة، وتمّ البناء على فكرة العروبة لحماية هذا التنوع والحفاظ على الخصوصية الاثنية والدينية من جهة، ولتقوية الدول التي يتشكل منها هذا المشرق، من جهة أخرى.

هذه التجربة الحضارية الفريدة في العالم، والتي اثبتت نجاحها لفترة من الزمن لم ترق للمستعمر الذي رأى في كل نزعة وحدوية تهديدا مباشرا لمصالحه في الهيمنة على المنطقة وخيراتها وخطرا على بقائه فيها، ما دفعه الى اللعب على هذه التركيبة التي يدرك جيدا مفاصلها ونقاط ضعفها، وضرب مكامن القوة لديها، وهو استحضر لتحقيق ذلك الفكر الوهابي من شبه الجزيرة العربية، في وقتٍ كان مؤسس هذا الفكر ابن تيمية منبوذ من معظم الحركات والتيارات الاسلامية في المنطقة، هذا الاستحضار ترجمه تنظيم الاخوان المسلمين الذي نشأ في مصر لينتقل لاحقا الى تركيا ومن ثمّ الى سوريا، وهو تجسّد في ما سمي بالربيع العربي وتظهر أبشع صوره في سوريا، وهذا التنظيم كشّر عن أنيابه في صراعه مع حكم عبد الناصر ومن بعده السادات في مصر، ويساهم اليوم انطلاقا من حكم حزب العدالة والتنمية لتركيا في زعزعة أنظمة الحكم في جميع الدول العربية، لكنه وكما فشل في مصر مع الرئيس المعزول محمد مرسي وينازع راهنا في سوريا، كذلك هو يتجه نحو الأفول في تركيا، فالعروبة التي ارتبطت بالاسلام لتضفي استقرارا وتوازنا بين مختلف الشرائح التي تشكلت منها هذه المنطقة، يحاول الأخوان المسلمون فصلها عن الدين الاسلامي، وجعل العروبة مناقضة له، في مخطط سيؤدي في حال نجاحه الى تفتيت الدول العربية وتجزئتها الى كيانات مذهبية متصارعة على الدوام، ما سيؤدي الى تفجير المجتمعات العربية من داخلها، ومن دون تدخّل المخطط الغربي مباشرة، وهو ما فشل حتى الآن بسبب صمود سوريا، وهذا المشروع في المحصلة، سيدفن الى غير رجعة، في التراب السوري.

إنّ المفصل التاريخي والاستثنائي الذي يمر به المشرق راهنا، والذي سيقرّر بنتيجته مصير دول المنطقة وشعوبها، لا بل مصير العالم، يحتاج الى قادة إستثنائيين، والجهة التي ستدون التاريخ في المستقبل هي التي تصنع الحاضر الذي انتهت فيه الأحادية القطبية التي مثلتها الولايات المتحدة لعقدين من الزمن، ويتشكل النظام العالمي الجديد راهنا من تعددية الأقطاب، من التنين الآسيوي الى دول البريكس مرورا بدول الممانعة وصولا الى دول الألبا، ومن بين هؤلاء القادة الاستثنائيين الذين يصنعون الحاضر، الى جانب القيصر الروسي فلاديمير بوتين، الرئيس السوري بشار الاسد.

هي أقوال العارف والواثق من النصر، تلك التي أدلى بها الرئيس السوري بشار الأسد مع الاعلامي غسان بن جدو على قناة الميادين، منذ يومين، فالأسد هو رجل استثنائي في مرحلة إستثنائية، جريئ وحازم، صبور ورؤيوي، ثابت على مواقفه بصدق في مقابل براغماتية تستند الى منطق وتحليل، قرأ جيدا التحولات الدولية الحاصلة، ثمّر الأحداث التي تعصف بوطنه لتحسين شعبيته وإيقاذ الروح الوطنية العالية التي يملكها الشعب السوري والتي ظهرت خلال هذه الأحداث، هذا الشعب وكما يملك في صفوفه الإنتهازيين والمتطرفين والذين استفادوا من قبضة نظام البعث سابقا لتحقيق مصالحهم، والذين انشقوا في بداية الأزمة السورية بعدما بدأ يتجه النظام في منحى أكثر ديمقراطية، يضمّ الشعب السوري كذلك في صفوفه الوطنيين الثابتين على مبادئ العروبة والمنخرطون بقناعة في مبدأ المقاومة، وهؤلاء مع القيادة السورية، هم من سيحكمون سوريا في المستقبل، ليعيدوا العروبة الى نهجها الصحيح وبعدها الحضاري، وليحموا المنطقة من الخطر التكفيري الذي كاد أن ينجح في تدمير سوريا والمشرق العربي برمته.

  • فريق ماسة
  • 2013-10-23
  • 11935
  • من الأرشيف

انتصار سورية سيعيد للعروبة بعدها الحضاري

تختصر الأزمة السورية أزمة المنطقة العربية برمتها، وهي أزمة فكرية قبل كل شيئ، بدأ العالم العربي يتخبط بها منذ بداية الخمسينات من القرن الفائت، وتجلت بوضوح في مصر التي شكلت وما تزال الرئة التي تتنفس من خلالها العروبة، فيما تشكل سوريا القلب النابض لهذه العروبة، وقد اصيب الجسم العربي بالهزال عند خروج مصر عن ثوابتها من خلال توقيعها لاتفاقية كامب ديفيد، فضعفت سوريا، إلاّ ان لهذه الازمة الفكرية في العالم العربي اسباب عدة، منها داخلية ومنها خارجية، تجلّت عواملها بعدما فشلت الأفكار القومية والعلمانية التي عصفت بالعالم العربي خلال الخمسينات والتي تمّ تبنيها من قبل نظامي مصر وسوريا، في تحقيق تطلعات شعوبها في بناء دول مستقلة ومزدهرة، ركيزتها الحريات العامة والعدالة الاجتماعية، وتجربتا الزعيم جمال عبد الناصر والرئيس حافظ الأسد خير دليل على نهضة أجهضت قبل ولادتها. تميّزت منطقة المشرق أو ما يعرف بالشرق الأوسط، ومنذ فجر التاريخ، بتعدد الحضارات والثقافات، وهي منبع الديانات السماوية وغير السماوية، ثمّ جاء الإسلام ليضاف إلى الثقافات الأخرى السابقة له تاريخياً، ونتيجة التحولات الديمغرافية والاجتماعية والاقتصادية التي مرت بها منطقة المشرق والعالم، اتخذت المنطقة طابع الاسلام الذي شكّل جزءا اساسيا من التكوين المجتمعي المتعدد، ولكنها حافظت في الوقت نفسه على توازنها الديمغرافي، وشكّل هذا التنوع من الثقافات التي تفاعلت فيما بينها على مدى آلاف السنين، فسيفساء جميلة، طبعت المشرق بمبادئ التسامح والانفتاح وتقبل الاختلاف، وقد شكّل الاسلام في مرحلة ما بعد استقلال دول المشرق عاملا وحدويا في ما بين شعوب المنطقة، وتمّ البناء على فكرة العروبة لحماية هذا التنوع والحفاظ على الخصوصية الاثنية والدينية من جهة، ولتقوية الدول التي يتشكل منها هذا المشرق، من جهة أخرى. هذه التجربة الحضارية الفريدة في العالم، والتي اثبتت نجاحها لفترة من الزمن لم ترق للمستعمر الذي رأى في كل نزعة وحدوية تهديدا مباشرا لمصالحه في الهيمنة على المنطقة وخيراتها وخطرا على بقائه فيها، ما دفعه الى اللعب على هذه التركيبة التي يدرك جيدا مفاصلها ونقاط ضعفها، وضرب مكامن القوة لديها، وهو استحضر لتحقيق ذلك الفكر الوهابي من شبه الجزيرة العربية، في وقتٍ كان مؤسس هذا الفكر ابن تيمية منبوذ من معظم الحركات والتيارات الاسلامية في المنطقة، هذا الاستحضار ترجمه تنظيم الاخوان المسلمين الذي نشأ في مصر لينتقل لاحقا الى تركيا ومن ثمّ الى سوريا، وهو تجسّد في ما سمي بالربيع العربي وتظهر أبشع صوره في سوريا، وهذا التنظيم كشّر عن أنيابه في صراعه مع حكم عبد الناصر ومن بعده السادات في مصر، ويساهم اليوم انطلاقا من حكم حزب العدالة والتنمية لتركيا في زعزعة أنظمة الحكم في جميع الدول العربية، لكنه وكما فشل في مصر مع الرئيس المعزول محمد مرسي وينازع راهنا في سوريا، كذلك هو يتجه نحو الأفول في تركيا، فالعروبة التي ارتبطت بالاسلام لتضفي استقرارا وتوازنا بين مختلف الشرائح التي تشكلت منها هذه المنطقة، يحاول الأخوان المسلمون فصلها عن الدين الاسلامي، وجعل العروبة مناقضة له، في مخطط سيؤدي في حال نجاحه الى تفتيت الدول العربية وتجزئتها الى كيانات مذهبية متصارعة على الدوام، ما سيؤدي الى تفجير المجتمعات العربية من داخلها، ومن دون تدخّل المخطط الغربي مباشرة، وهو ما فشل حتى الآن بسبب صمود سوريا، وهذا المشروع في المحصلة، سيدفن الى غير رجعة، في التراب السوري. إنّ المفصل التاريخي والاستثنائي الذي يمر به المشرق راهنا، والذي سيقرّر بنتيجته مصير دول المنطقة وشعوبها، لا بل مصير العالم، يحتاج الى قادة إستثنائيين، والجهة التي ستدون التاريخ في المستقبل هي التي تصنع الحاضر الذي انتهت فيه الأحادية القطبية التي مثلتها الولايات المتحدة لعقدين من الزمن، ويتشكل النظام العالمي الجديد راهنا من تعددية الأقطاب، من التنين الآسيوي الى دول البريكس مرورا بدول الممانعة وصولا الى دول الألبا، ومن بين هؤلاء القادة الاستثنائيين الذين يصنعون الحاضر، الى جانب القيصر الروسي فلاديمير بوتين، الرئيس السوري بشار الاسد. هي أقوال العارف والواثق من النصر، تلك التي أدلى بها الرئيس السوري بشار الأسد مع الاعلامي غسان بن جدو على قناة الميادين، منذ يومين، فالأسد هو رجل استثنائي في مرحلة إستثنائية، جريئ وحازم، صبور ورؤيوي، ثابت على مواقفه بصدق في مقابل براغماتية تستند الى منطق وتحليل، قرأ جيدا التحولات الدولية الحاصلة، ثمّر الأحداث التي تعصف بوطنه لتحسين شعبيته وإيقاذ الروح الوطنية العالية التي يملكها الشعب السوري والتي ظهرت خلال هذه الأحداث، هذا الشعب وكما يملك في صفوفه الإنتهازيين والمتطرفين والذين استفادوا من قبضة نظام البعث سابقا لتحقيق مصالحهم، والذين انشقوا في بداية الأزمة السورية بعدما بدأ يتجه النظام في منحى أكثر ديمقراطية، يضمّ الشعب السوري كذلك في صفوفه الوطنيين الثابتين على مبادئ العروبة والمنخرطون بقناعة في مبدأ المقاومة، وهؤلاء مع القيادة السورية، هم من سيحكمون سوريا في المستقبل، ليعيدوا العروبة الى نهجها الصحيح وبعدها الحضاري، وليحموا المنطقة من الخطر التكفيري الذي كاد أن ينجح في تدمير سوريا والمشرق العربي برمته.

المصدر : نسيم بو سمرا -التيارالحر


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة