ليس في مقدور أي جهة أن تفوز بكل شيء كل الوقت. لم يحصل هذا سابقاً، وما من مؤشر على إمكان توقّعه قريباً. لا يعود ذلك الى عدم قدرة أي قوة سياسية أو شعبية على استيعاب الفوز كاملاً، بل لأن الطموحات الحقيقية تفرض أولويات، تتيح لك الفوز بما خسرت من أجله أشياء أخرى. وفي حال المقاومة، القائمة والمستمرة ضد إسرائيل، وضد الاستعمار الاميركي والغربي لبلادنا، ليس ممكناً الفوز بحمل راية المقاومة وراية السلطة في اليد نفسها.

ليس في هذا أي دعوة لمن يقاوم الى ترك الحصاد لغيره. لكنه موجّه الى من لا يزال في قلب المعركة، في أولها أو وسطها أو حتى على باب المرحلة الاخيرة. وقبل إنجاز التحرير الكامل، ما من مقاومة قادرة على دخول بازار السلطة المقيتة.

في لبنان، فرض الانسحاب السوري على مقاومة حزب الله التورط في اللعبة الداخلية. منذ ذاك، اضطر الحزب إلى القيام بأمور كثيرة من أجل حماية المقاومة. لكن الاكلاف كانت باهظة، ليس أقلها صورة غير دقيقة عن إجماع وطني حول المقاومة، وليس أكثرها تحميله مسؤولية حروب إسرائيل التي لا تستأذن الضحية قبل جلدها. ومع كل ما مرّ، لا يبدو حزب الله في موقع القادر على تحمل أعباء السلطة الفعلية. وكل نفوذ له اليوم، برغبته أو من دونها، لا يفيده بأكثر من حماية المقاومة، وإذا ما فكّر الحزب أو قيادته في البحث عن مكاسب السلطة وحصار المقاومة، ولم تكن القضية واجهت حقيقتها، فسوف تنكسر المقاومة.

 

المشكلة الأصعب اليوم هي التي تواجه حركة المقاومة الاسلامية في فلسطين. هذه الحركة التي خرجت من رحم الإخوان المسلمين، وانتزعت موقعاً سياسياً وشعبياً ــــ محلياً وإقليمياً ودولياً ــــ بسبب تضحيات شبابها وقياداتها وأولادها في مواجهة الاحتلال. وما نطقت يوماً باسم الحق، إلا عندما كانت دماء أبنائها تسفك في مواجهة العدو. وكان الاختبار الأصعب الذي واجه «حماس» هو قدرتها على الخروج من العباءة التنظيمية لجماعة «الإخوان المسلمين»، وتحمّل وزر خطوة جعلتها محل نقد بقية أخواتها في التنظيم الدولي، بسبب قرارها خوض معركة المقاومة قبل أي شيء آخر، مع ما استدعى هذا الخيار من خطوات تعبوية، وشعارات سياسية، وتحالفات محلية وإقليمية ودولية، وبنى تنظيمية خاصة. وكل ذلك لم يكن ليحصل، لو ظلت الحركة أسيرة بنية فكرية وتنظيمية هرمة لأعرق التنظيمات الإسلامية العربية.

 

مشروع المقاومة وأولويات التنظيم

 

لكن ثمة ما حصل قبل عامين، عندما نجح أبناء هذا التنظيم العالمي في الوصول الى مواقع السلطة الرئيسية في عدد من الدول العربية، ولا سيما مصر. التحول بدأ هنا، وليس عندما اندلعت الازمة السورية، لأن «حماس» قرّرت، فجأة، التصرف مثل الابن الضال، فعادت ورمت نفسها في أحضان التنظيم الدولي، والتزمت خططه وأفكاره وأولوياته وتحالفاته وأهدافه المرحلية. في هذه النقطة، وقعت «حماس» في الفخ عندما وافقت على رهن مشروع المقاومة بأولوية تنظيم الإخوان المتمثلة في تثبيت وجوده في الحكم في مصر وتونس وليبيا، والسعي الى انتزاع الحكم في سوريا والاردن واليمن والمغرب، وهي أولوية تفرض على «حماس» الانخراط ليس في السياق السياسي، بل حتى في الحراك المباشر. هذه هي حقيقة موقف «حماس» مما يجري في سوريا، وفي بقية العالم العربي، ومن التعامل مع المسألة الوطنية الفلسطينية. هذه الاستراتيجية جعلت «حماس» تعيد النظر في تحالفاتها السياسية محلياً وإقليمياً، وأخرجتها من سوريا الى قطر، وأبقت على توترها مع السعودية، وحازت رضا آخرين من دول الخليج. وهي الاستراتيجية التي جعلت علاقة الحركة مع إيران تدخل مرحلة البرودة، وصولاً الى نوع من القطيعة، وما رافق ذلك من توتر. نعم توتر في العلاقة مع حزب الله في لبنان، ومع فصائل لبنانية وفلسطينية على علاقة قوية مع حزب الله وسوريا وإيران.

المشكلة لا تكمن فقط في تبنّي الاولويات الجديدة لتنظيم الإخوان المسلمين، بل أيضاً في الانخراط في تحقيق أهداف هذا التنظيم في كل الدول العربية والاسلامية. وهو ما جعل موقف الحركة السياسي من أزمات البلاد العربية مطابقاً لموقف المحور الذي تشرف على إدارته الولايات المتحدة. وهو المكان الذي كان على قيادة «حماس» وكوادرها وجمهورها رفع الصوت أمامه، لأن ليس بين هؤلاء من يحتاج الى شرح أن أميركا هي التي تحمي إسرائيل، العدو الأول لـ«حماس».

لكن ما استجد لا يقتصر على تحمّل أعباء التنظيم العالمي للإخوان ـــ الذي كشف عن عقلية إقصائية لم تسبقه إليها الا الديكتاتوريات المشكو منها ــــ بل تورّط الحركة في موقف سياسي له انعكاسات على جمهور الحركة وتنظيمها إزاء ما يجري في سوريا ولبنان على وجه الخصوص، من دون الغوص في نتائج المواجهة المصرية اليوم، خصوصاً، حيث يُخشى أن يتهور من يريد تنفيذ وصية التنظيم الدولي بأولوية إعادة الرئيس محمد مرسي الى الحكم على أي هدف آخر، بما في ذلك تحرير فلسطين.

في ملف سوريا، أعلنت قيادة «حماس» أن من قتل من عناصرها في سوريا كانوا ممن تركوا التنظيم، أو انهم أنصار أو مؤيدون لا علاقة لها بما قاموا به. ومع أنها تنفي التدخل في الازمة السورية، إلا أن الفلسطينيين، المؤيدين أو المعارضين لها في مخيمات سوريا، يتحدثون بالأسماء والوقائع والعناوين عن مشاركة يصرّون على أنها ما كانت لتحصل بهذا الشكل لولا مباركة الحركة أو دعم قيادات فيها.

في لبنان، تميّزت «حماس»، على الدوام، ببقائها خارج الصراعات القائمة وخارج اللعبة الداخلية. لم يظهر اسمها أبداً في صراعات المخيمات الفلسطينية، ولا في الحروب اللبنانية. وحتى في ما خص أعمال المقاومة ضد الاحتلال الاسرائيلي، ظلت مشاركتها قائمة خلف الستارة، بمعزل عن حجمها أو فعاليتها.

وما استجدّ، أخيراً، لم يكن في سياق الأزمة اللبنانية الداخلية، بل في سياق ترددات ما يجري في سوريا. وهو أمر يترافق مع تبدلات بطيئة، وربما غير مرصودة من قبل الإعلام، أو ليست محل تظهير من الجهات المعنية. لكن في مناخات «حماس»، وبين قياداتها من أي صف كانوا، من وضع نفسه في قلب المعركة المتعلقة بالأزمة السورية. وهذا يعني، بصراحة، أن هناك أموراً كثيرة حصلت، ضد المقاومة في لبنان، وضد حزب الله على وجه الخصوص.

لكن الى أين تسير حماس اليوم؟

ربما، بدل الغوص في ملفات أو تحليلات أو أمور أخرى، يمكن الاكتفاء بأسئلة تفيد في شرح الموقف، ربطاً بالحوادث التي تعرضت لها الضاحية الجنوبية لبيروت في الفترة الماضية، ولا سيما عملية القصف بالصواريخ.

الكل بات يعرف أن الفلسطيني أحمد طه، المشتبه فيه الرئيسي في قضية إطلاق الصواريخ على الضاحية الجنوبية، تعاون مع آخرين، من بينهم فلسطيني يدعى علاء الدين ياسين، وهو من مخيم الرشيدية جنوب صور، وأحد كوادر «حماس» البارزين في المخيم.

وقد طلبت مديرية الاستخبارات في الجيش اللبناني من قيادة الحركة المساعدة في متابعة هذا الملف، فتعاونت الحركة في ما خص طه وأفراداً من عائلته، لكنها، في ما يتعلق بياسين، أجابت بأنه غير موجود، ونفت أن يكون عنوانه معروفاً، وذهبت الى حدّ القول إنه غادر المخيم على الأرجح.

هذه الأجوبة لم تقنع استخبارات الجيش، خصوصاً أن عملية المتابعة من قبل الجيش، والمعلومات التي ساعدت جهات فلسطينية في توفيرها، تؤكد أن الرجل لم يخرج من المخيم، بل قال نافذون إن «حماس» تواجه أزمة إن هي سلّمته، وإنها تتهرب من الأمر. وإذا لم تبادر الى خطوات عملية وواضحة وصريحة في هذا الملف، وفي ملفات مرتبطة، فستجد نفسها أمام وقائع مختلفة، وهو ما يوجب طرح أسئلة:

ــــ ألا تدرك «حماس» أن عدم مسارعتها الى القيام بخطوات عملية يعني أنها تعمل على تبرئة أفراد منها، وأنها ستتحمل هي، كحركة، مسؤولية الاعتداء على الضاحية الجنوبية؟

ــــ من أي شيء تخشى «حماس»؟ وألا ترى أنه يمكنها أن تفعل كما فعل حزب الله، عندما امتلك جرأة الإعلان، بلسان أمينه العام، عن وجود اختراقات أمنية من أجهزة معادية في صفوف الحزب؟

ــــ ألا تدرك الحركة أنها تحمي متهمين يعملون على النيل من الضاحية التي تمثل شعبياً وسياسياً أبرز عنصر داعم للمقاومة في فلسطين؟

ــــ ألا تدرك حماس أنها تحرج الجيش بعدم تعاونها معه في قضية تخص الأمن القومي اللبناني، وهي التي تدّعي نظرياً الحرص على أمن لبنان من دون أن تفعل شيئاً؟

ــــ ألا تخشى حماس، أم هي غير مهتمة، بخسارة كل الدعم المعلن وغير المعلن الذي تحصل عليه من الجيش ومن استخباراته ومن بقية الأجهزة الأمنية اللبنانية، من تسهيلات خاصة في أمكنة كثيرة داخل لبنان، وعلى أبواب المخيمات وعلى نقاط العبور من لبنان وإليه؟

ــــ كيف ستتصرف «حماس» مع حزب الله، المستهدف الأول في هذه القضية، وهو الذي لم يتوقف يوماً عن دعم الحركة (كما يعرف قادتها بالتفصيل)، ومنع التعرض لأي من عناصرها أو كوادرها في لبنان وفي أمكنة كثيرة من العالم؟

ــــ ألا تعير الحركة اهتماماً لموقف جمهور المقاومة منها، في لبنان وفي العالم العربي أيضاً، وهي التي تعرف أنها استفادت، نعم استفادت، بقوة من هذا الجمهور ودعمه ومساعدته ومساندته في أصعب الظروف وبصمت؟

ــــ هل تفكر حماس في أي تصنيف سيكون موقعها مع جمهور المقاومة، بعدما صنّف خروجها غير العادي من سوريا على أنه تنكّر وتجاهل لكل الجميل الذي قدمه نظام بشار الأسد للحركة وكوادرها وقيادتها ومقاومتها، وهي التي تعرف، بالتجربة، أنها لا يمكن أن تحصل على 10 في المئة منه في أي مكان آخر في العالم؟

ــــ هل تفكر في أي تصنيف سيكون موقعها لدى جمهور المقاومة، ومع خصومها قبل داعميها، وهي التي سقطت وتورطت في الأزمة المصرية، واعتبر موقفها استجابة عمياء لمطالب قيادة التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وهي التي تعي تماماً موقع مصر بالنسبة إلى القضية الفلسطينية وإلى قطاع غزة على وجه التحديد؟

ــــ ألا تعرف «حماس» أنها ستصنف في خانة من سهّل أو ساهم أو تكتّم على معلومات أو أشخاص يشاركون في أعمال إرهابية ضد المدنيين من جمهور المقاومة، أو ضد المقاومة في لبنان مباشرة، وأن ذلك سيتطور نحو خسارة هذه البيئة وهذه الجهة التي لن يكون في العالم من يحل محلها في توفير ما تحتاج إليه مقاومة فلسطين، عدا عمّا قدمته مقاومة لبنان لـ«حماس» نفسها، وتحمّلت عبء الخلاف مع قسم من الشعب الفلسطيني من أجلها؟

ــــ ألا تعرف «حماس» أن إيران التي لا تريد ترك الحركة، باعتبارها قوة مقاومة رئيسية ضد إسرائيل، ستتأثر بنحو أو بآخر بموقف «حماس» من مسألة الإرهاب الذي يتعرض له حليف طهران الأول في بلاد الشام؟

ــــ ألا تفكر «حماس» في أن سؤالاً كبيراً سيرسم حولها كحركة مقاومة، وأن ألدّ الأعداء سينظرون إليها بطريقة مشينة، وهم يرون كيف تصرفت مع أهم داعميها؟

 

نقاش داخلي

 

اليوم، هناك نقاش قوي داخل حركة «حماس» ما من داع للخوض في تفاصيله، لكن هناك ممن يحملون البندقية في فلسطين من لا يوافق على ما تقوم به قيادة الحركة في الخارج، وهو نقاش سيصل الى نتيجة في وقت ما، قريب أو قريب جداً. ورغم الخشية من انعكاس هذا النقاش على وحدة هذه الحركة، صار أمراً إجبارياً أمام انتقال الخشية على مستقبل المقاومة، من حلفاء «حماس» التاريخيين، الى قلب الذراع المقاومة في كتائب عزالدين القسام.

على «حماس» إجابة نفسها وجمهورها قبل إجابة الآخرين، وكل مكابرة تعني إهمالاً، وستعني مع الوقت تخاذلاً، وربما أكثر من ذلك. وكل تذرع بأولويات أخرى تتقدم على قضية فلسطين، يعني ذهاب الحركة نحو نهايتها كقوة القضية.

  • فريق ماسة
  • 2013-08-25
  • 8440
  • من الأرشيف

رسالة إلى مقاومي حماس: من يقبل منكم المسّ بحزب الله؟

ليس في مقدور أي جهة أن تفوز بكل شيء كل الوقت. لم يحصل هذا سابقاً، وما من مؤشر على إمكان توقّعه قريباً. لا يعود ذلك الى عدم قدرة أي قوة سياسية أو شعبية على استيعاب الفوز كاملاً، بل لأن الطموحات الحقيقية تفرض أولويات، تتيح لك الفوز بما خسرت من أجله أشياء أخرى. وفي حال المقاومة، القائمة والمستمرة ضد إسرائيل، وضد الاستعمار الاميركي والغربي لبلادنا، ليس ممكناً الفوز بحمل راية المقاومة وراية السلطة في اليد نفسها. ليس في هذا أي دعوة لمن يقاوم الى ترك الحصاد لغيره. لكنه موجّه الى من لا يزال في قلب المعركة، في أولها أو وسطها أو حتى على باب المرحلة الاخيرة. وقبل إنجاز التحرير الكامل، ما من مقاومة قادرة على دخول بازار السلطة المقيتة. في لبنان، فرض الانسحاب السوري على مقاومة حزب الله التورط في اللعبة الداخلية. منذ ذاك، اضطر الحزب إلى القيام بأمور كثيرة من أجل حماية المقاومة. لكن الاكلاف كانت باهظة، ليس أقلها صورة غير دقيقة عن إجماع وطني حول المقاومة، وليس أكثرها تحميله مسؤولية حروب إسرائيل التي لا تستأذن الضحية قبل جلدها. ومع كل ما مرّ، لا يبدو حزب الله في موقع القادر على تحمل أعباء السلطة الفعلية. وكل نفوذ له اليوم، برغبته أو من دونها، لا يفيده بأكثر من حماية المقاومة، وإذا ما فكّر الحزب أو قيادته في البحث عن مكاسب السلطة وحصار المقاومة، ولم تكن القضية واجهت حقيقتها، فسوف تنكسر المقاومة.   المشكلة الأصعب اليوم هي التي تواجه حركة المقاومة الاسلامية في فلسطين. هذه الحركة التي خرجت من رحم الإخوان المسلمين، وانتزعت موقعاً سياسياً وشعبياً ــــ محلياً وإقليمياً ودولياً ــــ بسبب تضحيات شبابها وقياداتها وأولادها في مواجهة الاحتلال. وما نطقت يوماً باسم الحق، إلا عندما كانت دماء أبنائها تسفك في مواجهة العدو. وكان الاختبار الأصعب الذي واجه «حماس» هو قدرتها على الخروج من العباءة التنظيمية لجماعة «الإخوان المسلمين»، وتحمّل وزر خطوة جعلتها محل نقد بقية أخواتها في التنظيم الدولي، بسبب قرارها خوض معركة المقاومة قبل أي شيء آخر، مع ما استدعى هذا الخيار من خطوات تعبوية، وشعارات سياسية، وتحالفات محلية وإقليمية ودولية، وبنى تنظيمية خاصة. وكل ذلك لم يكن ليحصل، لو ظلت الحركة أسيرة بنية فكرية وتنظيمية هرمة لأعرق التنظيمات الإسلامية العربية.   مشروع المقاومة وأولويات التنظيم   لكن ثمة ما حصل قبل عامين، عندما نجح أبناء هذا التنظيم العالمي في الوصول الى مواقع السلطة الرئيسية في عدد من الدول العربية، ولا سيما مصر. التحول بدأ هنا، وليس عندما اندلعت الازمة السورية، لأن «حماس» قرّرت، فجأة، التصرف مثل الابن الضال، فعادت ورمت نفسها في أحضان التنظيم الدولي، والتزمت خططه وأفكاره وأولوياته وتحالفاته وأهدافه المرحلية. في هذه النقطة، وقعت «حماس» في الفخ عندما وافقت على رهن مشروع المقاومة بأولوية تنظيم الإخوان المتمثلة في تثبيت وجوده في الحكم في مصر وتونس وليبيا، والسعي الى انتزاع الحكم في سوريا والاردن واليمن والمغرب، وهي أولوية تفرض على «حماس» الانخراط ليس في السياق السياسي، بل حتى في الحراك المباشر. هذه هي حقيقة موقف «حماس» مما يجري في سوريا، وفي بقية العالم العربي، ومن التعامل مع المسألة الوطنية الفلسطينية. هذه الاستراتيجية جعلت «حماس» تعيد النظر في تحالفاتها السياسية محلياً وإقليمياً، وأخرجتها من سوريا الى قطر، وأبقت على توترها مع السعودية، وحازت رضا آخرين من دول الخليج. وهي الاستراتيجية التي جعلت علاقة الحركة مع إيران تدخل مرحلة البرودة، وصولاً الى نوع من القطيعة، وما رافق ذلك من توتر. نعم توتر في العلاقة مع حزب الله في لبنان، ومع فصائل لبنانية وفلسطينية على علاقة قوية مع حزب الله وسوريا وإيران. المشكلة لا تكمن فقط في تبنّي الاولويات الجديدة لتنظيم الإخوان المسلمين، بل أيضاً في الانخراط في تحقيق أهداف هذا التنظيم في كل الدول العربية والاسلامية. وهو ما جعل موقف الحركة السياسي من أزمات البلاد العربية مطابقاً لموقف المحور الذي تشرف على إدارته الولايات المتحدة. وهو المكان الذي كان على قيادة «حماس» وكوادرها وجمهورها رفع الصوت أمامه، لأن ليس بين هؤلاء من يحتاج الى شرح أن أميركا هي التي تحمي إسرائيل، العدو الأول لـ«حماس». لكن ما استجد لا يقتصر على تحمّل أعباء التنظيم العالمي للإخوان ـــ الذي كشف عن عقلية إقصائية لم تسبقه إليها الا الديكتاتوريات المشكو منها ــــ بل تورّط الحركة في موقف سياسي له انعكاسات على جمهور الحركة وتنظيمها إزاء ما يجري في سوريا ولبنان على وجه الخصوص، من دون الغوص في نتائج المواجهة المصرية اليوم، خصوصاً، حيث يُخشى أن يتهور من يريد تنفيذ وصية التنظيم الدولي بأولوية إعادة الرئيس محمد مرسي الى الحكم على أي هدف آخر، بما في ذلك تحرير فلسطين. في ملف سوريا، أعلنت قيادة «حماس» أن من قتل من عناصرها في سوريا كانوا ممن تركوا التنظيم، أو انهم أنصار أو مؤيدون لا علاقة لها بما قاموا به. ومع أنها تنفي التدخل في الازمة السورية، إلا أن الفلسطينيين، المؤيدين أو المعارضين لها في مخيمات سوريا، يتحدثون بالأسماء والوقائع والعناوين عن مشاركة يصرّون على أنها ما كانت لتحصل بهذا الشكل لولا مباركة الحركة أو دعم قيادات فيها. في لبنان، تميّزت «حماس»، على الدوام، ببقائها خارج الصراعات القائمة وخارج اللعبة الداخلية. لم يظهر اسمها أبداً في صراعات المخيمات الفلسطينية، ولا في الحروب اللبنانية. وحتى في ما خص أعمال المقاومة ضد الاحتلال الاسرائيلي، ظلت مشاركتها قائمة خلف الستارة، بمعزل عن حجمها أو فعاليتها. وما استجدّ، أخيراً، لم يكن في سياق الأزمة اللبنانية الداخلية، بل في سياق ترددات ما يجري في سوريا. وهو أمر يترافق مع تبدلات بطيئة، وربما غير مرصودة من قبل الإعلام، أو ليست محل تظهير من الجهات المعنية. لكن في مناخات «حماس»، وبين قياداتها من أي صف كانوا، من وضع نفسه في قلب المعركة المتعلقة بالأزمة السورية. وهذا يعني، بصراحة، أن هناك أموراً كثيرة حصلت، ضد المقاومة في لبنان، وضد حزب الله على وجه الخصوص. لكن الى أين تسير حماس اليوم؟ ربما، بدل الغوص في ملفات أو تحليلات أو أمور أخرى، يمكن الاكتفاء بأسئلة تفيد في شرح الموقف، ربطاً بالحوادث التي تعرضت لها الضاحية الجنوبية لبيروت في الفترة الماضية، ولا سيما عملية القصف بالصواريخ. الكل بات يعرف أن الفلسطيني أحمد طه، المشتبه فيه الرئيسي في قضية إطلاق الصواريخ على الضاحية الجنوبية، تعاون مع آخرين، من بينهم فلسطيني يدعى علاء الدين ياسين، وهو من مخيم الرشيدية جنوب صور، وأحد كوادر «حماس» البارزين في المخيم. وقد طلبت مديرية الاستخبارات في الجيش اللبناني من قيادة الحركة المساعدة في متابعة هذا الملف، فتعاونت الحركة في ما خص طه وأفراداً من عائلته، لكنها، في ما يتعلق بياسين، أجابت بأنه غير موجود، ونفت أن يكون عنوانه معروفاً، وذهبت الى حدّ القول إنه غادر المخيم على الأرجح. هذه الأجوبة لم تقنع استخبارات الجيش، خصوصاً أن عملية المتابعة من قبل الجيش، والمعلومات التي ساعدت جهات فلسطينية في توفيرها، تؤكد أن الرجل لم يخرج من المخيم، بل قال نافذون إن «حماس» تواجه أزمة إن هي سلّمته، وإنها تتهرب من الأمر. وإذا لم تبادر الى خطوات عملية وواضحة وصريحة في هذا الملف، وفي ملفات مرتبطة، فستجد نفسها أمام وقائع مختلفة، وهو ما يوجب طرح أسئلة: ــــ ألا تدرك «حماس» أن عدم مسارعتها الى القيام بخطوات عملية يعني أنها تعمل على تبرئة أفراد منها، وأنها ستتحمل هي، كحركة، مسؤولية الاعتداء على الضاحية الجنوبية؟ ــــ من أي شيء تخشى «حماس»؟ وألا ترى أنه يمكنها أن تفعل كما فعل حزب الله، عندما امتلك جرأة الإعلان، بلسان أمينه العام، عن وجود اختراقات أمنية من أجهزة معادية في صفوف الحزب؟ ــــ ألا تدرك الحركة أنها تحمي متهمين يعملون على النيل من الضاحية التي تمثل شعبياً وسياسياً أبرز عنصر داعم للمقاومة في فلسطين؟ ــــ ألا تدرك حماس أنها تحرج الجيش بعدم تعاونها معه في قضية تخص الأمن القومي اللبناني، وهي التي تدّعي نظرياً الحرص على أمن لبنان من دون أن تفعل شيئاً؟ ــــ ألا تخشى حماس، أم هي غير مهتمة، بخسارة كل الدعم المعلن وغير المعلن الذي تحصل عليه من الجيش ومن استخباراته ومن بقية الأجهزة الأمنية اللبنانية، من تسهيلات خاصة في أمكنة كثيرة داخل لبنان، وعلى أبواب المخيمات وعلى نقاط العبور من لبنان وإليه؟ ــــ كيف ستتصرف «حماس» مع حزب الله، المستهدف الأول في هذه القضية، وهو الذي لم يتوقف يوماً عن دعم الحركة (كما يعرف قادتها بالتفصيل)، ومنع التعرض لأي من عناصرها أو كوادرها في لبنان وفي أمكنة كثيرة من العالم؟ ــــ ألا تعير الحركة اهتماماً لموقف جمهور المقاومة منها، في لبنان وفي العالم العربي أيضاً، وهي التي تعرف أنها استفادت، نعم استفادت، بقوة من هذا الجمهور ودعمه ومساعدته ومساندته في أصعب الظروف وبصمت؟ ــــ هل تفكر حماس في أي تصنيف سيكون موقعها مع جمهور المقاومة، بعدما صنّف خروجها غير العادي من سوريا على أنه تنكّر وتجاهل لكل الجميل الذي قدمه نظام بشار الأسد للحركة وكوادرها وقيادتها ومقاومتها، وهي التي تعرف، بالتجربة، أنها لا يمكن أن تحصل على 10 في المئة منه في أي مكان آخر في العالم؟ ــــ هل تفكر في أي تصنيف سيكون موقعها لدى جمهور المقاومة، ومع خصومها قبل داعميها، وهي التي سقطت وتورطت في الأزمة المصرية، واعتبر موقفها استجابة عمياء لمطالب قيادة التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وهي التي تعي تماماً موقع مصر بالنسبة إلى القضية الفلسطينية وإلى قطاع غزة على وجه التحديد؟ ــــ ألا تعرف «حماس» أنها ستصنف في خانة من سهّل أو ساهم أو تكتّم على معلومات أو أشخاص يشاركون في أعمال إرهابية ضد المدنيين من جمهور المقاومة، أو ضد المقاومة في لبنان مباشرة، وأن ذلك سيتطور نحو خسارة هذه البيئة وهذه الجهة التي لن يكون في العالم من يحل محلها في توفير ما تحتاج إليه مقاومة فلسطين، عدا عمّا قدمته مقاومة لبنان لـ«حماس» نفسها، وتحمّلت عبء الخلاف مع قسم من الشعب الفلسطيني من أجلها؟ ــــ ألا تعرف «حماس» أن إيران التي لا تريد ترك الحركة، باعتبارها قوة مقاومة رئيسية ضد إسرائيل، ستتأثر بنحو أو بآخر بموقف «حماس» من مسألة الإرهاب الذي يتعرض له حليف طهران الأول في بلاد الشام؟ ــــ ألا تفكر «حماس» في أن سؤالاً كبيراً سيرسم حولها كحركة مقاومة، وأن ألدّ الأعداء سينظرون إليها بطريقة مشينة، وهم يرون كيف تصرفت مع أهم داعميها؟   نقاش داخلي   اليوم، هناك نقاش قوي داخل حركة «حماس» ما من داع للخوض في تفاصيله، لكن هناك ممن يحملون البندقية في فلسطين من لا يوافق على ما تقوم به قيادة الحركة في الخارج، وهو نقاش سيصل الى نتيجة في وقت ما، قريب أو قريب جداً. ورغم الخشية من انعكاس هذا النقاش على وحدة هذه الحركة، صار أمراً إجبارياً أمام انتقال الخشية على مستقبل المقاومة، من حلفاء «حماس» التاريخيين، الى قلب الذراع المقاومة في كتائب عزالدين القسام. على «حماس» إجابة نفسها وجمهورها قبل إجابة الآخرين، وكل مكابرة تعني إهمالاً، وستعني مع الوقت تخاذلاً، وربما أكثر من ذلك. وكل تذرع بأولويات أخرى تتقدم على قضية فلسطين، يعني ذهاب الحركة نحو نهايتها كقوة القضية.

المصدر : الأخبار / ابراهيم الأمين


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة