المجزرة الأخيرة في الغوطة الشرقية يميزها الحديث عن «الكيميائي»، الذي يعطيها قيمة مضافة، وبعداً سياسياً، ويستفيد من عدد الضحايا.

لكن تصريحات السياسيين والناشطين هي تكرار لتصريحات واستغاثات سابقة خلال العامين الماضيين بشكل من الصعب حصره. نظرة إلى الخلف، ولو باعتذار لا قيمة له من أهالي الغوطة وأطفالهم، يمكنها أن ترسخ القناعة القديمة بأن الدم الذي يسيل لا يغير شيئا في مجرى المعادلات القائمة.

من دون ذاكرة لا يستقيم حكمه. تذكر قصة «الطفل» حمزة الخطيب الذي قيل إن قوات الأمن قتلته في درعا خلال «تظاهرة سلمية»، في ربيع العام 2011، ومقارنتها بصورة الطفلين اللذين أعدمتهما مجموعة معارضة في حلب منذ أسبوعين إلى تعقيدات هذه الصورة الملتبسة. الصورة التي هي صورة العالم لا الشرق فقط. صورة البشرية التي لم يعد إدراكها لإنسانيتها هو ذاته.

أين حصل التحول التاريخي؟ ربما في 11 أيلول، أو تسونامي اندونيسيا وبعدها اليابان. ربما، أو أن إدراكنا له تطلب صدمات متلاحقة؟ في الحرب السورية مشاهد مماثلة لمشاهد أمس الأول، مرت على عمر الأزمة التي يقترب عمرها رويدا من 3 سنوات. ذات الإحساس بالغثيان والالتصاق بالأرض أصاب معنوياتنا جميعا بعد مجزرة الحولة في ربيع العام 2012. لكن الشعور كان سبق له أن تمرن في مجزرتين سابقتين قبل أشهر، في كل من كرم اللوز وكرم الزيتون.

هل ما جرى لاحقا أو سابقا كان مختلفا؟

يمكن العودة إنسانيا للوراء إن شاء البعض. في حرب العام 2006 ودون اللجوء لصور مجزرة قانا الرهيبة (بتوصيف تلك الأيام)، يمكن تذكر ضحايا مجزرة القاع من الأكراد السوريين الذين قتلوا في يوم صيفي، فيما كانوا يتناولون غداء الاستراحة في أحد المشاريع الزراعية. قتل حوالي 30 شخصا، لا علاقة لهم بطرفي الصراع، بقذيفة إسرائيلية، خاطئة، دون أن يجر ذلك وراءه من حدث يذكر.

حاملو الجثامين أمس الأول في الغوطة، لم يكن شعورهم مختلفا كثيرا عن حافري القبور في ريف اللاذقية، ولا المتأهبين حول أكياس الرمل من الأكراد في شمال البلاد. يقدر عدد المخطوفين من الأكراد الآن من قبل كتائب المعارضة المسلحة، ولا سيما المتشددة منها، بـ500. يمكن للمتفائلين اعتبار ثلثهم ميتا.

في الغوطة تحفر المقابر للمئات، فيما تحتل صور الأطفال المسجاة على الأرض الأماكن والمواقع الافتراضية. تجف الأنفاس أمام صورة الطفلة التي حاول أحدهم إسعافها بتنشيقها البصل، فيما عيونها معلقة بسقف المكان، ويرتعش القلب لتلك التي أيقنت بعد غيبوبة أنها حية.

سجلت الكاميرا المشهد بكل حرفية. جمعت جثث الأطفال في غرفة واحدة، وصورت من زوايا مختلفة بظروف إضاءة جيدة. المشهد ذاته من دون حرفية تذكر تكرر في ريف اللاذقية. قام أهالي بعض قرى الريف التي عايشت «بروفة» قصيرة لاحتلال المعارضة للساحل بدفن 123 شخصا كلهم من المدنيين قتلوا بعد المعركة التي لم تتجاوز أسبوعا. يبقى 150 مختطفين، ويتزامن الدفن الذي بالكاد تذكره أحد مع اكتشاف مقبرتين جماعيتين بالقرب من قرية نباته.

ضحايا المجزرة الأولى خلال اليومين الماضيين قضوا بسلاح كيميائي، وفقا للروايات المتداولة، وعلى مسافة 10 كيلومترات عن مقر إقامة اللجنة الدولية للتحقيق في استخدام الأسلحة الكيميائية. المجزرة الثانية قضى أهلها ذبحاً في معظمهم، تخلله إمعان في النحر وصل حد قطع الرأس. المجزرة الثانية وقعت في بيئة تكاد تكون أرضية السلطة الحاضنة والمدافع الأشرس عنها.

المجزرتان، تضيفان رقما لسلّم المجازر التي تقع في سوريا. تلك التي نعلم بها، لأن ثمة غاية سياسية يمكن تحقيقها، أو ربما يمكن تحقيقها، وأخرى لا نعرفها لأن أحدا لا يهتم. على سبيل المثال، قيام الطيران الحربي بخبر موثق من «سانا» في ربيع هذا العام بتدمير 42 سيارة محملة بالمقاتلين كانت تحاول الهجوم على أحد المطارات المهمة في صحراء تدمر. التقدير بأن كل عربة حملت ثمانية مقاتلين، ما يعني أن رقم القتلى تجاوز 300 قتيل في عدة ساعات. هجوم آخر تبعه بأسبوع، في المنطقة ذاتها، سقط فيه 700 مقاتل للمعارضة.

من يرغب في توسيع صورة أمس الأول واليوم الذي سبقه، يمكنه العودة لصور الحرب الأهلية اللبنانية، أو البوسنة، وحتى الحرب الأهلية الاسبانية. قراءة التاريخ تفيد دوماً، لأن سجلاته تخبرك بأنه سبق لهذا أن حصل، واستمرت الحياة من بعده، أحيانا من دون تغيير يذكر. عار على البشرية صحيح. الإنسانية في أقتم صورها وأكثرها قذارة؟ لا. صورة الاتفاق على أكوام القتلى أشد إيلاماً، لكنها ضرورة، لا مفر منها. هكذا تثبت الأيام. عدا ذلك هو مزيد من الضحايا، الموثقين وغير الموثقين. إلا أن هذا كله، الآن، بالنسبة للمتقاتلين ليس سوى ثرثرة تسبق معركة الفجر.

 

  • فريق ماسة
  • 2013-08-22
  • 7568
  • من الأرشيف

الصراع في سورية : ما بعد المجزرة.. أخرى

المجزرة الأخيرة في الغوطة الشرقية يميزها الحديث عن «الكيميائي»، الذي يعطيها قيمة مضافة، وبعداً سياسياً، ويستفيد من عدد الضحايا. لكن تصريحات السياسيين والناشطين هي تكرار لتصريحات واستغاثات سابقة خلال العامين الماضيين بشكل من الصعب حصره. نظرة إلى الخلف، ولو باعتذار لا قيمة له من أهالي الغوطة وأطفالهم، يمكنها أن ترسخ القناعة القديمة بأن الدم الذي يسيل لا يغير شيئا في مجرى المعادلات القائمة. من دون ذاكرة لا يستقيم حكمه. تذكر قصة «الطفل» حمزة الخطيب الذي قيل إن قوات الأمن قتلته في درعا خلال «تظاهرة سلمية»، في ربيع العام 2011، ومقارنتها بصورة الطفلين اللذين أعدمتهما مجموعة معارضة في حلب منذ أسبوعين إلى تعقيدات هذه الصورة الملتبسة. الصورة التي هي صورة العالم لا الشرق فقط. صورة البشرية التي لم يعد إدراكها لإنسانيتها هو ذاته. أين حصل التحول التاريخي؟ ربما في 11 أيلول، أو تسونامي اندونيسيا وبعدها اليابان. ربما، أو أن إدراكنا له تطلب صدمات متلاحقة؟ في الحرب السورية مشاهد مماثلة لمشاهد أمس الأول، مرت على عمر الأزمة التي يقترب عمرها رويدا من 3 سنوات. ذات الإحساس بالغثيان والالتصاق بالأرض أصاب معنوياتنا جميعا بعد مجزرة الحولة في ربيع العام 2012. لكن الشعور كان سبق له أن تمرن في مجزرتين سابقتين قبل أشهر، في كل من كرم اللوز وكرم الزيتون. هل ما جرى لاحقا أو سابقا كان مختلفا؟ يمكن العودة إنسانيا للوراء إن شاء البعض. في حرب العام 2006 ودون اللجوء لصور مجزرة قانا الرهيبة (بتوصيف تلك الأيام)، يمكن تذكر ضحايا مجزرة القاع من الأكراد السوريين الذين قتلوا في يوم صيفي، فيما كانوا يتناولون غداء الاستراحة في أحد المشاريع الزراعية. قتل حوالي 30 شخصا، لا علاقة لهم بطرفي الصراع، بقذيفة إسرائيلية، خاطئة، دون أن يجر ذلك وراءه من حدث يذكر. حاملو الجثامين أمس الأول في الغوطة، لم يكن شعورهم مختلفا كثيرا عن حافري القبور في ريف اللاذقية، ولا المتأهبين حول أكياس الرمل من الأكراد في شمال البلاد. يقدر عدد المخطوفين من الأكراد الآن من قبل كتائب المعارضة المسلحة، ولا سيما المتشددة منها، بـ500. يمكن للمتفائلين اعتبار ثلثهم ميتا. في الغوطة تحفر المقابر للمئات، فيما تحتل صور الأطفال المسجاة على الأرض الأماكن والمواقع الافتراضية. تجف الأنفاس أمام صورة الطفلة التي حاول أحدهم إسعافها بتنشيقها البصل، فيما عيونها معلقة بسقف المكان، ويرتعش القلب لتلك التي أيقنت بعد غيبوبة أنها حية. سجلت الكاميرا المشهد بكل حرفية. جمعت جثث الأطفال في غرفة واحدة، وصورت من زوايا مختلفة بظروف إضاءة جيدة. المشهد ذاته من دون حرفية تذكر تكرر في ريف اللاذقية. قام أهالي بعض قرى الريف التي عايشت «بروفة» قصيرة لاحتلال المعارضة للساحل بدفن 123 شخصا كلهم من المدنيين قتلوا بعد المعركة التي لم تتجاوز أسبوعا. يبقى 150 مختطفين، ويتزامن الدفن الذي بالكاد تذكره أحد مع اكتشاف مقبرتين جماعيتين بالقرب من قرية نباته. ضحايا المجزرة الأولى خلال اليومين الماضيين قضوا بسلاح كيميائي، وفقا للروايات المتداولة، وعلى مسافة 10 كيلومترات عن مقر إقامة اللجنة الدولية للتحقيق في استخدام الأسلحة الكيميائية. المجزرة الثانية قضى أهلها ذبحاً في معظمهم، تخلله إمعان في النحر وصل حد قطع الرأس. المجزرة الثانية وقعت في بيئة تكاد تكون أرضية السلطة الحاضنة والمدافع الأشرس عنها. المجزرتان، تضيفان رقما لسلّم المجازر التي تقع في سوريا. تلك التي نعلم بها، لأن ثمة غاية سياسية يمكن تحقيقها، أو ربما يمكن تحقيقها، وأخرى لا نعرفها لأن أحدا لا يهتم. على سبيل المثال، قيام الطيران الحربي بخبر موثق من «سانا» في ربيع هذا العام بتدمير 42 سيارة محملة بالمقاتلين كانت تحاول الهجوم على أحد المطارات المهمة في صحراء تدمر. التقدير بأن كل عربة حملت ثمانية مقاتلين، ما يعني أن رقم القتلى تجاوز 300 قتيل في عدة ساعات. هجوم آخر تبعه بأسبوع، في المنطقة ذاتها، سقط فيه 700 مقاتل للمعارضة. من يرغب في توسيع صورة أمس الأول واليوم الذي سبقه، يمكنه العودة لصور الحرب الأهلية اللبنانية، أو البوسنة، وحتى الحرب الأهلية الاسبانية. قراءة التاريخ تفيد دوماً، لأن سجلاته تخبرك بأنه سبق لهذا أن حصل، واستمرت الحياة من بعده، أحيانا من دون تغيير يذكر. عار على البشرية صحيح. الإنسانية في أقتم صورها وأكثرها قذارة؟ لا. صورة الاتفاق على أكوام القتلى أشد إيلاماً، لكنها ضرورة، لا مفر منها. هكذا تثبت الأيام. عدا ذلك هو مزيد من الضحايا، الموثقين وغير الموثقين. إلا أن هذا كله، الآن، بالنسبة للمتقاتلين ليس سوى ثرثرة تسبق معركة الفجر.  

المصدر : زياد حيدر/ السفير


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة