السعودية تقود حرباً علنية لتغيير النظام في سورية، وتغذي وتشجع التمرد في العراق لتغيير الحكومة بأي ثمن! وتدعم الجيش في مصر ماليا وسياسيا لإسقاط رئيس "إخواني" بدلا من اصلاح ذات البين ورأب الصدع في اكبر بلد عربي،

وتشجع على اسقاط حكومة تقودها حركة النهضة في تونس، وتمنع تأليف حكومة ذات طابع سياسي في لبنان. كل ذلك يُحدث وضعاً مأزوماً في المنطقة العربية.

لم نعتدْ من الحكومة السعودية خلال العقود الاخيرة على مثل هذا الدور الهجومي الشامل، فعلام تخشى الحكومة السعودية، وما هي رؤيتها للوضع العربي الممزق؟ وهل يَصلح هذا الوضع بتغذية الانقسامات والانقلابات والتمرد المسلح والجماعات التي تفتقر لرؤية اسلامية عصرية هنا وهناك، ومن دون النظر الى الثمن الباهظ ؟

القلق منبع الدور المتعاظم:

بات واضحا ان السعودية تعيش قلقا عميقا من التغيرات التي أفرزها ما سمي "الربيع العربي" والذي كان فرصة لجماعات الاخوان المسلمين للصعود الى قمة السلطة في بعض البلدان العربية. النظام في السعودية بخلفيته السياسية التقليدية البعيدة عن عالم المؤسسات يجد من الصعوبة بمكان تقبل نجاح انظمة ذات بعد اسلامي يختلف عن الاطار الفكري والسياسي الذي يستند اليه الحكم السعودي. ولهذا شعرت المملكة بقلق شديد من التغيرات حولها وسعت لإنشاء مظلة حماية تقيها "شر" التغيرات:

اولاً من خلال توفير الدعم للانظمة الملكية التي تعيش اوضاعا غير مستقرة في كل من سلطنة عُمان والبحرين والمغرب والاردن.

وثانيا: من خلال ركوب موجة تغيير النظام في سورية لكسب تأييد يقوم على قاعدة مذهبية سلفية في الداخل وفي المحيط ثم لتعزيز موقعها الاقليمي وتسجيل انتصار افتقدته سياساتها على مدى العقود الماضية.

وثالثا: من خلال تقويض الانظمة العربية التي لا تدور في فلكها بل يمكن ان تترك أثرا على البيئة الداخلية السعودية التي تشهد حراكا وتتوق الى تغيير يخرج من عهدة الوصاية الأبوية.

القلق السعودي من صعود حركات الاخوان المسلمين في تونس وليبيا والمغرب ووجود حاضنة تركية لها أمر مفهوم، في ضوء التعاطف الذي بدأ يظهر في الداخل السعودي وفي عموم دول الخليج لا سيما في الكويت والامارات حيال جماعة الاخوان. ومن المؤسف ان السعودية لا تجد وسيلة للتعامل مع التغيرات غير محاربتها سرا وعلنا، حتى لو ادى ذلك الى عدم الاستقرار في تلك البلدان، ولا ادري كيف يمكن ان ينام المرء وبيت جاره يشتعل، خاصة اذا كان يشارك في صب الوقود على هذا الحريق ظناً منه ان ذلك سيخلصه من جار مزعج او سيكثر من المنافع التي تنجم عن غياب جار منافس.

شخصيا، لست متعاطفا مع جماعة الاخوان المسلمين وتجربتها المريرة في مصر، خاصة بسبب سياستها التي قامت احيانا على ارضاء الجماعات المتطرفة وتصعيد الخطاب المنافي لأبسط حقوق المواطنة مع من يختلفون. لقد بنى الاخوان تجربتهم على سياسة الاسترضاء: للجيش وللقوى السلفية ومداهنة دول الخليج وأميركا... ، واتبعوا سياسات غير توافقية مع قوى مجتمعية حية في الداخل اعتقاداً منهم ان نسبة 51 بالمئة من اصوات الناخبين تخولهم ادارة البلد بطريقة فئوية. ثم ماذا كانت النتيجة: لقد لفظت كل هذه القوى جماعة الاخوان وأبعدتها عن موقعها في السلطة، لأن الوضع العربي الذي تقوده الشقيقة الخليجية الكبرى لا يحتمل وجود منافسة من جماعة "الاخوان المسلمين".

تدخلات وعداوات بالجملة:

غير ان ذلك كله لا يبرر الموقف السعودي من مصر، وقد كان بإمكان الرياض ان تلعب دوراً وسيطاً في هذا البلد يمكن ان يسهم في لجم تدهور الموقف. أما لماذا اختارت القيادة السعودية "التورط" في الازمة المصرية بوقوفها المباشر والعلني الى جانب أحد الطرفين، فلأن الحسابات السعودية لا تسأل عن الثمن عندما يتعلق الامر بتثبيت قواعد اركانها الداخلية وهي التي لم تكد تخرج بعد من الصدام مع التيار "السلفي الجهادي" الذي نزع الشرعية عن الحكم السعودي. نتذكر جيدا كيف ان العاهل السعودي رفض محاورة انصار هذا التيار بعد عمليات التفجير في السعودية عام 2003 وأطلق مقولة : "ليس بيننا وبينهم الا السيف". وها هي الآن لا ترى غير السيف للتعامل مع غرمائها وهم كثر: من الاخوان المسلمين، الى السلفيين الجهاديين، الى ايران، الى سوريا، الى حزب الله، والقائمة غير محصورة.

الرياض تبيح لنفسها ما لا تجيزه لسواها. فهي تتدخل في العديد من الدول العربية: البحرين (عسكريا )، اليمن ( سياسيا وماليا وغير ذلك)، مصر (سياسيا وماليا)، سوريا (تسليحيا لطرف متمرد وسياسيا)، الخ ... . هي لا تكتفي بأن تأخذ موقفاً مع او ضد، بل انها تتصرف كولي أمر هذه الشعوب قاطبة، فتقرر ما يصلح لهذا الشعب وذاك، وتستخدم نفوذها المالي وعلاقاتها الدولية لتجييرها الى جانب طرف دون آخر.

الاستقرار المهدد و"الربيع" الذي انتهى مبكرا:

لقد اصبح ما أسمي "الربيع العربي" اسير المصالح والحسابات الاقليمية بالوكالة عن القوى الدولية وفي طليعتها اميركا، وخرجت الرياض صراحة لتفصح عن هواجسها بإجهاض ثورة البحرين، وترتيب شؤون الخلافة في اليمن بما لا يخرج عن طوعها، وحفظ استقرار الممالك والامارات من المحيط الى الخليج، وتقويض نفوذ قوى صاعدة في مصر وتونس حتى لو كان الثمن حكماً عسكرياً صريحاً او موارباً او حتى عدم استقرار سياسي. ولا ادري كيف تتحدث الرياض عن ضرورة الوقوف الى جانب استقرار مصر "وحقها الشرعي في ردع كل عابث أو مضلل" (التعبير للملك السعودي)، في حين انها توجه الكثير من امكانياتها لدعم جماعات مسلحة تنال من استقرار سورية وتنشر الموت والشرذمة في طول ارضها وعرضها.

لقد انكشف مرة اخرى ان القوى التقليدية العربية تمثل عبئا كبيرا على الحراك الشعبي العربي، حتى لو اتخذت مؤقتا دور الخيّر الذي يبذل أمواله للمساعدة ( كما في حال مصر الآن)، وهو في الحقيقة لا يساعد الا نفسه وله حساباته الخاصة التي تـُبنى على فرضية ان الحراك الشعبي يمثل خطرا داهما على الاطار التقليدي للحكم المشيخي العربي. هذا الحكم الذي يجذف بعكس التيار، معتقدا ان بإمكانه ان يصادر تطلعات الجماهير لأطول زمن ممكن.

إن أي قراءة للواقع العربي اليوم لا تلحظ الدور السلبي الذي تلعبه الرياض في محاولة وضع اليد على الحراكات الشعبية بالقمع او الاستمالة بالمال والرعاية السياسية وما شاكل، لن تلحظ مخاطر ذلك والتي ستتمظهر في المستقبل مزيدا من الشرذمة وحضورا معززا للقوى المتشددة التي لا تبتعد عن الحضن السعودي الا قليلا.

 

 

  • فريق ماسة
  • 2013-08-22
  • 10783
  • من الأرشيف

عن الدور السعودي : هل هي الخاتمة المأساوية لـ"الربيع العربي"؟

السعودية تقود حرباً علنية لتغيير النظام في سورية، وتغذي وتشجع التمرد في العراق لتغيير الحكومة بأي ثمن! وتدعم الجيش في مصر ماليا وسياسيا لإسقاط رئيس "إخواني" بدلا من اصلاح ذات البين ورأب الصدع في اكبر بلد عربي، وتشجع على اسقاط حكومة تقودها حركة النهضة في تونس، وتمنع تأليف حكومة ذات طابع سياسي في لبنان. كل ذلك يُحدث وضعاً مأزوماً في المنطقة العربية. لم نعتدْ من الحكومة السعودية خلال العقود الاخيرة على مثل هذا الدور الهجومي الشامل، فعلام تخشى الحكومة السعودية، وما هي رؤيتها للوضع العربي الممزق؟ وهل يَصلح هذا الوضع بتغذية الانقسامات والانقلابات والتمرد المسلح والجماعات التي تفتقر لرؤية اسلامية عصرية هنا وهناك، ومن دون النظر الى الثمن الباهظ ؟ القلق منبع الدور المتعاظم: بات واضحا ان السعودية تعيش قلقا عميقا من التغيرات التي أفرزها ما سمي "الربيع العربي" والذي كان فرصة لجماعات الاخوان المسلمين للصعود الى قمة السلطة في بعض البلدان العربية. النظام في السعودية بخلفيته السياسية التقليدية البعيدة عن عالم المؤسسات يجد من الصعوبة بمكان تقبل نجاح انظمة ذات بعد اسلامي يختلف عن الاطار الفكري والسياسي الذي يستند اليه الحكم السعودي. ولهذا شعرت المملكة بقلق شديد من التغيرات حولها وسعت لإنشاء مظلة حماية تقيها "شر" التغيرات: اولاً من خلال توفير الدعم للانظمة الملكية التي تعيش اوضاعا غير مستقرة في كل من سلطنة عُمان والبحرين والمغرب والاردن. وثانيا: من خلال ركوب موجة تغيير النظام في سورية لكسب تأييد يقوم على قاعدة مذهبية سلفية في الداخل وفي المحيط ثم لتعزيز موقعها الاقليمي وتسجيل انتصار افتقدته سياساتها على مدى العقود الماضية. وثالثا: من خلال تقويض الانظمة العربية التي لا تدور في فلكها بل يمكن ان تترك أثرا على البيئة الداخلية السعودية التي تشهد حراكا وتتوق الى تغيير يخرج من عهدة الوصاية الأبوية. القلق السعودي من صعود حركات الاخوان المسلمين في تونس وليبيا والمغرب ووجود حاضنة تركية لها أمر مفهوم، في ضوء التعاطف الذي بدأ يظهر في الداخل السعودي وفي عموم دول الخليج لا سيما في الكويت والامارات حيال جماعة الاخوان. ومن المؤسف ان السعودية لا تجد وسيلة للتعامل مع التغيرات غير محاربتها سرا وعلنا، حتى لو ادى ذلك الى عدم الاستقرار في تلك البلدان، ولا ادري كيف يمكن ان ينام المرء وبيت جاره يشتعل، خاصة اذا كان يشارك في صب الوقود على هذا الحريق ظناً منه ان ذلك سيخلصه من جار مزعج او سيكثر من المنافع التي تنجم عن غياب جار منافس. شخصيا، لست متعاطفا مع جماعة الاخوان المسلمين وتجربتها المريرة في مصر، خاصة بسبب سياستها التي قامت احيانا على ارضاء الجماعات المتطرفة وتصعيد الخطاب المنافي لأبسط حقوق المواطنة مع من يختلفون. لقد بنى الاخوان تجربتهم على سياسة الاسترضاء: للجيش وللقوى السلفية ومداهنة دول الخليج وأميركا... ، واتبعوا سياسات غير توافقية مع قوى مجتمعية حية في الداخل اعتقاداً منهم ان نسبة 51 بالمئة من اصوات الناخبين تخولهم ادارة البلد بطريقة فئوية. ثم ماذا كانت النتيجة: لقد لفظت كل هذه القوى جماعة الاخوان وأبعدتها عن موقعها في السلطة، لأن الوضع العربي الذي تقوده الشقيقة الخليجية الكبرى لا يحتمل وجود منافسة من جماعة "الاخوان المسلمين". تدخلات وعداوات بالجملة: غير ان ذلك كله لا يبرر الموقف السعودي من مصر، وقد كان بإمكان الرياض ان تلعب دوراً وسيطاً في هذا البلد يمكن ان يسهم في لجم تدهور الموقف. أما لماذا اختارت القيادة السعودية "التورط" في الازمة المصرية بوقوفها المباشر والعلني الى جانب أحد الطرفين، فلأن الحسابات السعودية لا تسأل عن الثمن عندما يتعلق الامر بتثبيت قواعد اركانها الداخلية وهي التي لم تكد تخرج بعد من الصدام مع التيار "السلفي الجهادي" الذي نزع الشرعية عن الحكم السعودي. نتذكر جيدا كيف ان العاهل السعودي رفض محاورة انصار هذا التيار بعد عمليات التفجير في السعودية عام 2003 وأطلق مقولة : "ليس بيننا وبينهم الا السيف". وها هي الآن لا ترى غير السيف للتعامل مع غرمائها وهم كثر: من الاخوان المسلمين، الى السلفيين الجهاديين، الى ايران، الى سوريا، الى حزب الله، والقائمة غير محصورة. الرياض تبيح لنفسها ما لا تجيزه لسواها. فهي تتدخل في العديد من الدول العربية: البحرين (عسكريا )، اليمن ( سياسيا وماليا وغير ذلك)، مصر (سياسيا وماليا)، سوريا (تسليحيا لطرف متمرد وسياسيا)، الخ ... . هي لا تكتفي بأن تأخذ موقفاً مع او ضد، بل انها تتصرف كولي أمر هذه الشعوب قاطبة، فتقرر ما يصلح لهذا الشعب وذاك، وتستخدم نفوذها المالي وعلاقاتها الدولية لتجييرها الى جانب طرف دون آخر. الاستقرار المهدد و"الربيع" الذي انتهى مبكرا: لقد اصبح ما أسمي "الربيع العربي" اسير المصالح والحسابات الاقليمية بالوكالة عن القوى الدولية وفي طليعتها اميركا، وخرجت الرياض صراحة لتفصح عن هواجسها بإجهاض ثورة البحرين، وترتيب شؤون الخلافة في اليمن بما لا يخرج عن طوعها، وحفظ استقرار الممالك والامارات من المحيط الى الخليج، وتقويض نفوذ قوى صاعدة في مصر وتونس حتى لو كان الثمن حكماً عسكرياً صريحاً او موارباً او حتى عدم استقرار سياسي. ولا ادري كيف تتحدث الرياض عن ضرورة الوقوف الى جانب استقرار مصر "وحقها الشرعي في ردع كل عابث أو مضلل" (التعبير للملك السعودي)، في حين انها توجه الكثير من امكانياتها لدعم جماعات مسلحة تنال من استقرار سورية وتنشر الموت والشرذمة في طول ارضها وعرضها. لقد انكشف مرة اخرى ان القوى التقليدية العربية تمثل عبئا كبيرا على الحراك الشعبي العربي، حتى لو اتخذت مؤقتا دور الخيّر الذي يبذل أمواله للمساعدة ( كما في حال مصر الآن)، وهو في الحقيقة لا يساعد الا نفسه وله حساباته الخاصة التي تـُبنى على فرضية ان الحراك الشعبي يمثل خطرا داهما على الاطار التقليدي للحكم المشيخي العربي. هذا الحكم الذي يجذف بعكس التيار، معتقدا ان بإمكانه ان يصادر تطلعات الجماهير لأطول زمن ممكن. إن أي قراءة للواقع العربي اليوم لا تلحظ الدور السلبي الذي تلعبه الرياض في محاولة وضع اليد على الحراكات الشعبية بالقمع او الاستمالة بالمال والرعاية السياسية وما شاكل، لن تلحظ مخاطر ذلك والتي ستتمظهر في المستقبل مزيدا من الشرذمة وحضورا معززا للقوى المتشددة التي لا تبتعد عن الحضن السعودي الا قليلا.    

المصدر : علي محمود


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة