دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
ليس مما يبشّر بالمستقبل العربي الأفضل أن تتولى المملكة العربية السعودية الدور القيادي في هذه المرحلة من تاريخ النضال العربي بكل ما تحمله من بشائر بالغد الأفضل، ولو في قلب الصعوبة.
فلقد عوّدتنا هذه المملكة المذهّبة أن تكون سياساتها أكثر انسجاماً مع طبيعة نظامها المحافظ بل المغلق في وجه التغيير في الداخل والمقاوم للثورة، أية ثورة وفي أي قطر عربي.
لذلك كان مباغتاً، و«من خارج النص» أن نرى وزير خارجية المملكة التي تعتمد سياسة «الصمت الأبيض»، واقفاً أمام القصور الرئاسية في أوروبا يدافع عن الحراك الثوري في مصر، ويواجه الاعتراضات أو التحفظات ـ وبغض النظر عن صدق النيات ـ التي شهرها العالم الغربي عموماً، وإن اختلفت درجة الحدة بين دولة وأخرى، في وجه الانتفاضة الشعبية في مصر التي أسقطت حكم الإخوان..
لا يكفي العداء المنهجي لحركة الإخوان المسلمين ووصولهم إلى السلطة في تبرير الخروج على السياسة الدائمة للمملكة والتي طالما واجهت حركات التغيير في الوطن العربي عموماً بالصمت، اعتراضاً، بل وبمحاولات تدجينها أو التواطؤ عليها، فإن عجزت عن إفشالها أقفلت أبواب سورها العالي في وجهها وتركتها تواجه مصيرها، معتمدة سياسة «استضافة» أهل النظام المخلوع، والذين قد تساعدهم على العودة، ذات يوم، إذا ما وجدت الريح مؤاتية.
ومن هنا تزايدت الأسئلة مستولدة المزيد من أسباب الريبة: هل كان للمملكة يد في التحرك لإسقاط حكم الإخوان في مصر؟ ولكن التحرك كان طوفاناً من الجماهير الغاضبة التي خرجت بملايينها في الثلاثين من حزيران 2013 في مشهد عز نظيره في التاريخ... ولم يُعرف عن المملكة ترحيبها أو حتى قبولها «بالشارع» صاحب رأي، فكيف وقد بات صاحب قرار، يخلع الحاكم الفاشل ويكشح مخاطر الحرب الأهلية، ويستعيد حقه في أن يقرّر النظام القادر على تلبية احتياجاته وتمكينه من حقوقه في وطنه، ومن التقدم به إلى حيث تستحق مصر المحروسة التي من حقها أن تقود ومن واجبها أن ترفض أن تُقاد.
.. وهل تمكّنت المملكة المذهّبة من «اختراق» الجيش فأغوت قيادته بالسلطة لتدفعه إلى تصدّر حركة الغضب الشعبي العارم عبر إعلان تبنيه لمطالبه ثم اندفاعه إلى قيادة هذا التحرك إلى حد إقدامه على سجن الرئيس المنتخب ومواجهة أنصاره من الإخوان ومَن والاهم وهم أكبر تنظيم شعبي في الوطن العربي؟!
وهل تستطيع المملكة المذهّبة التي ترى نفسها «الحليف الثاني» ـ بعد إسرائيل طبعاً ـ للولايات المتحدة الأميركية أن تسبق واشنطن إلى القرار «بتبني» الثورة في مصر، وأن تحرج أوروبا ـ المحرجة أصلاً ـ برفع راية الدفاع عن الديموقراطية في «المحروسة»؟!
لقد بادرت المملكة، التي لم يشتهر حكمها المحافظ بالمبادرات، منذ الأيام الأولى للانتفاضة على حكم الإخوان، إلى تحويل المليارات إلى الحكم الجديد في مصر، موحية بل طالبة من دول الذهب الأسود في الخليج أن تحذو حذوها فلم تكن تملك أن ترفض أمرها، خصوصاً إذا ما تضمن الطلب تطميناً بأن مصر ما بعد الإخوان ستكون عنصر استقرار في المنطقة عموماً... مع الأخذ بالاعتبار أن إيران «متورطة» في التحالف مع الإخوان، وبالتالي فإن كسب مصر ـ الثورة (الآن) يعزز «الجبهة» في وجه إيران ومشاريعها «لتصدير الثورة» أو للمشاغبة واستيلاد المصاعب لمعسكر «المحافظين العرب» في تبني حركات الكفاح المسلح، كما في غزة فلسطين، ناهيك بالرصيد الإضافي الذي وفره لها «حزب الله» عبر انتصاره الباهر على الحرب الإسرائيلية في مثل هذه الأيام من العام 2006؟!
يمكن الاستمرار في طرح الأسئلة والتساؤلات وإن لم تتوفر، في هذه اللحظة، أجوبة كاملة عليها... حتى لو تذكرنا أن السعودية ومنذ وقت ليس قصيراً قد «خلعت» القيادة القطرية للحرب في سورية وعليها لتتولى الإمرة مباشرة... ثم أوفدت خبيرها الدولي في التفاوض الأمير بندر بن سلطان حاملاً عروضاً لا يمكن رفضها لإخراج روسيا من موقعها ومن موقفها كحليف وقوة إسناد مؤثر على موازين القوى للنظام في سوريا... ومع ذلك رفضت القيادة الروسية هذه العروض وأصرت على المضي قدماً في دعم من تعتبره «الحليف الاستراتيجي» المهم بموقعه الجيوغرافي، كما رفضت أن تفك تحالفها الاستراتيجي مع الصديق الكبير الذي كان عدواً تاريخياً: إيران.
إن الموقف السعودي يضيف مجموعة من التعقيدات على المشهد العربي: أن تدعم المملكة المذهّبة ثورة شعبية مجيدة ونادرة المثال في التاريخ الإنساني، وأن تذهب لتروّج لها وتطلب مساندتها وفي رأس شعاراتها بناء نظام ديموقراطي في مصر، بين أبسط نتائجه أن يعيد مصر إلى دورها القيادي في محيطها العربي وفي مدى نفوذها الأفريقي، والآسيوي إلى حد ما.
ثم أن تظهر هذا السخاء غير المألوف في دعم الاقتصاد المصري المهزوز،
إن المملكة المذهّبة تخرج على جاري عاداتها فتذهب إلى ما يشبه «الحرب» دفاعاً عن التغيير.. بالثورة!
في أي حال، وكائناً ما كان الغرض، فلا بد أن نعتبر هذا التحول في سلوك المملكة، ومعها إمارات الخليج، من مواجهة الثورات إلى محاولة تبنيها ولو من أجل تدجينها واحتوائها، من ثمار الانتفاضات الشعبية التي لما تعط بعد كل ما تختزنه وتعد به، والتي ستفاجئنا بتأثيرها على مسار التطورات في الوطن العربي عموماً.
ومع أن التاريخ يعلّمنا أن الثورات قد تنتكس أو تقصر عن أهدافها إلا أن مواجهة عملية التغيير تحتاج إلى أكثر من الذهب، خصوصاً إذا ما ظل الشعب في الشارع يحرس ثورته ويتابع نضاله من أجل إيصالها إلى أهدافه منها.
المصدر :
السفير/ طلال سلمان
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة