مطار منغ العسكري، الذي يبعدُ عن الحدود التركيّة (المفتوحة على كلّ عبث) قرابة 10 كيلومترات فحسب، سجّل نصراً عسكريّاً غير مسبوق على امتداد سنتين، كما يفهمه الجنود، وكما يراه مؤيدو «منطق الدولة» في ريف حلب الشمالي بأسره، حيث استطاع أن يصمد أمام هجمات الآلاف من المسلحين.

 للمطار قيمة معنويّة تمثّلها هذه النقطة المتقدّمة لوجود الدولة، لا سيما أنّ دوره العملّي تمّ تحييده منذ فترة طويلة، حين لم تعد الطوافات قادرة على الاستفادة من هذه البقعة المحاطة بالمضادات الجويّة المحمولة.

بعض من كان يتواصل مع الجنود داخل مطار منّغ قالوا إنهم كانوا يتضاحكون في المنطقة التي يدفنون فيها شهداءهم، ويتنافسون مرحاً لاختيار مساحة قبر بجانب صديق أو أخ فارقهم منذ أيّام. وكثيراً ما كانوا يحوزونها بالفعل..

طوال شهور تعرّض المطار لهجمات غاية في الضراوة و«البدائيّة»، حيث تهجم أعداد كبيرة من المقاتلين دفعة واحدة (يتجاوز عددها الألفي مقاتل في بعض الحالات).

يُفتتح الهجوم بـ«مدرعة انتحارية»، أو قصف عشوائي.. تزحف بعده المجموعات بفوضوية، ونداءاتها المتداخلة كما تظهرها بعض التسجيلات على الإنترنت. تخوم المطار حرم منيع، والدفاعات المستميتة لمقاتليه تحصد من المهاجمين أعدادا مخيفة.

المعركة الأخيرة

عندما اشتدّ الحصار وأصبح سقوط المطار أمراً واقعاً، لم يكن من مصلحة في إعطاء المسلحين انتصارا جديا بقتل أفراد الحماية، لذا كان قرار الانسحاب. وهو ما شرحه بالتفصيل أحد الضباط المنسحبين، كالتالي:

توزع الجنود على ثلاث مجموعات رئيسية (على رأس كل مجموعة دبابتان)، واتفقت الدولة مع «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي واللجان الشعبية في نبل والزهراء على تأمين انسحاب جنودها، على أن يؤدي الطيران الجزء الأكبر من المهمة، ويقوم مقاتلون على الأرض بالمساعدة ميدانيا في تأمين مسرب أو اثنين (وصولاً إلى أقرب المناطق الموالية).

تحرّكت المجموعة الأولى مع أذان المغرب تماماً، حيث بدأ الطيران يمهد مسار تحركها وجانبيه، ومع اشتباكات عنيفة وتغطية من قبل الأكراد، تمكنت هذه المجموعة من الوصول إلى «بصلحايا» بصعوبة.

أمّا المجموعة الثانية (وكانت تتضمن 51 عسكرياً) فقد فتحت لنفسها بالقوة طريقاً إلى منطقة «دير جمال»، وبجهد نوعي من المقاتلين الاكراد على الجانب الآخر، لتصل كاملة إلى هناك.

في حين كان الأمر بتحرك المجموعة الثالثة (التي كانت مكلفة بحماية ظهر المجموعتين السابقتين) عند منتصف الليل تماماً، وكانوا قد أطلقوا عليها اسم «مجموعة الاستشهاديين».

كانت الاشتباكات في أوج عنفها، وعبثاً حاولت هذه المجموعة سلوك طريق المجموعة الأولى، من دون جدوى، فقام العناصر بتدمير ما تبقى في المطار من أسلحة وذخائر، وغيروا كل الاحتمالات حين انسحبوا عبر الطريق العام، باتجاه منطقة كفر جنّة الكردية، في حين كان الطيران الحربي يقصف جوانب الطريق بشكل مكثف، إلى أن جاوزوا دائرة الخطر ووصلوا إلى المنطقة المحددة (التوفيق الإلهي حالفهم مراراً، وخصوصاً بعد أن أضاعوا الطريق مرات عدة).

كما توجهت بعض المجموعات الصغيرة تحت جنح الفوضى العارمة إلى مدينتي نبّل والزهراء المحاصرتين، وقامت مجموعات من الدفاع الوطني بمساعدتها للوصول بسلام.

أحد الذين استقبلوا هؤلاء الجنود كان متفاجئاً للغاية، وقال انه لم يكن يتوقع أن يراهم على هذه الشاكلة: «شعورهم ولحاهم الطويلة ، ولباسهم الممزق، توحي بأيام قاسية جدا».

سقط مطار منّغ، وقد يعود قريبا.. غير أن معركة الإرادات الخارجية لن تنتهي قريباً كما تُفصح الأحداث الأخيرة، وتصاعدها المطرد لا ينبئ بالحكمة أو الحوار.. الحسم سيد الاحتمالات.

  • فريق ماسة
  • 2013-08-15
  • 11418
  • من الأرشيف

حكاية أخيرة من مطار منغ

مطار منغ العسكري، الذي يبعدُ عن الحدود التركيّة (المفتوحة على كلّ عبث) قرابة 10 كيلومترات فحسب، سجّل نصراً عسكريّاً غير مسبوق على امتداد سنتين، كما يفهمه الجنود، وكما يراه مؤيدو «منطق الدولة» في ريف حلب الشمالي بأسره، حيث استطاع أن يصمد أمام هجمات الآلاف من المسلحين.  للمطار قيمة معنويّة تمثّلها هذه النقطة المتقدّمة لوجود الدولة، لا سيما أنّ دوره العملّي تمّ تحييده منذ فترة طويلة، حين لم تعد الطوافات قادرة على الاستفادة من هذه البقعة المحاطة بالمضادات الجويّة المحمولة. بعض من كان يتواصل مع الجنود داخل مطار منّغ قالوا إنهم كانوا يتضاحكون في المنطقة التي يدفنون فيها شهداءهم، ويتنافسون مرحاً لاختيار مساحة قبر بجانب صديق أو أخ فارقهم منذ أيّام. وكثيراً ما كانوا يحوزونها بالفعل.. طوال شهور تعرّض المطار لهجمات غاية في الضراوة و«البدائيّة»، حيث تهجم أعداد كبيرة من المقاتلين دفعة واحدة (يتجاوز عددها الألفي مقاتل في بعض الحالات). يُفتتح الهجوم بـ«مدرعة انتحارية»، أو قصف عشوائي.. تزحف بعده المجموعات بفوضوية، ونداءاتها المتداخلة كما تظهرها بعض التسجيلات على الإنترنت. تخوم المطار حرم منيع، والدفاعات المستميتة لمقاتليه تحصد من المهاجمين أعدادا مخيفة. المعركة الأخيرة عندما اشتدّ الحصار وأصبح سقوط المطار أمراً واقعاً، لم يكن من مصلحة في إعطاء المسلحين انتصارا جديا بقتل أفراد الحماية، لذا كان قرار الانسحاب. وهو ما شرحه بالتفصيل أحد الضباط المنسحبين، كالتالي: توزع الجنود على ثلاث مجموعات رئيسية (على رأس كل مجموعة دبابتان)، واتفقت الدولة مع «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي واللجان الشعبية في نبل والزهراء على تأمين انسحاب جنودها، على أن يؤدي الطيران الجزء الأكبر من المهمة، ويقوم مقاتلون على الأرض بالمساعدة ميدانيا في تأمين مسرب أو اثنين (وصولاً إلى أقرب المناطق الموالية). تحرّكت المجموعة الأولى مع أذان المغرب تماماً، حيث بدأ الطيران يمهد مسار تحركها وجانبيه، ومع اشتباكات عنيفة وتغطية من قبل الأكراد، تمكنت هذه المجموعة من الوصول إلى «بصلحايا» بصعوبة. أمّا المجموعة الثانية (وكانت تتضمن 51 عسكرياً) فقد فتحت لنفسها بالقوة طريقاً إلى منطقة «دير جمال»، وبجهد نوعي من المقاتلين الاكراد على الجانب الآخر، لتصل كاملة إلى هناك. في حين كان الأمر بتحرك المجموعة الثالثة (التي كانت مكلفة بحماية ظهر المجموعتين السابقتين) عند منتصف الليل تماماً، وكانوا قد أطلقوا عليها اسم «مجموعة الاستشهاديين». كانت الاشتباكات في أوج عنفها، وعبثاً حاولت هذه المجموعة سلوك طريق المجموعة الأولى، من دون جدوى، فقام العناصر بتدمير ما تبقى في المطار من أسلحة وذخائر، وغيروا كل الاحتمالات حين انسحبوا عبر الطريق العام، باتجاه منطقة كفر جنّة الكردية، في حين كان الطيران الحربي يقصف جوانب الطريق بشكل مكثف، إلى أن جاوزوا دائرة الخطر ووصلوا إلى المنطقة المحددة (التوفيق الإلهي حالفهم مراراً، وخصوصاً بعد أن أضاعوا الطريق مرات عدة). كما توجهت بعض المجموعات الصغيرة تحت جنح الفوضى العارمة إلى مدينتي نبّل والزهراء المحاصرتين، وقامت مجموعات من الدفاع الوطني بمساعدتها للوصول بسلام. أحد الذين استقبلوا هؤلاء الجنود كان متفاجئاً للغاية، وقال انه لم يكن يتوقع أن يراهم على هذه الشاكلة: «شعورهم ولحاهم الطويلة ، ولباسهم الممزق، توحي بأيام قاسية جدا». سقط مطار منّغ، وقد يعود قريبا.. غير أن معركة الإرادات الخارجية لن تنتهي قريباً كما تُفصح الأحداث الأخيرة، وتصاعدها المطرد لا ينبئ بالحكمة أو الحوار.. الحسم سيد الاحتمالات.

المصدر : السفير/ علي عبدا لمجيد


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة