على ضوء مجريات الأحداث التي شهدتها بعض المناطق اللبنانية، انطلاقاً من البقاع مروراً بعكار وطرابلس في الشمال، وصولاً الى الطريق الجديدة في بيروت وليس انتهاء في صيدا تأثراً بالأزمة السورية التي ترخي بظلالها على الداخل اللبناني وتزيد من انقسامه السياسي بين قواه السياسية الموزعة على معسكري «8 و 14 آذار»، لا بد للناظر من بعيد، وخصوصا عقلاء لبنان، ان يستخلص التالي:

لن يتمكن اللبنانيون، لا في القريب ولا في البعيد، من وقف تداعيات وتأثيرات الأزمة السورية على الداخل عندهم، لأن من كان يدعوه الرئيس نبيه بري بالـ «سين ـ سين» (اي سورية والسعودية) لرمي مظلتهما ورعايتهما السياسية على لبنان، اصبحا بحاجة الى من يرعاهما ويرمي مظلته عليهما ليحمي نظامهما واستقرارهما وديمومة شعبهما.

السين الأولى، اي سورية فقدت بريقها ودورها الاقليمي على الساحة اللبنانية وفي المنطقة، منذ خروج جيشها من لبنان عام 2005، ولولا انتصار المقاومة في حرب تموز عام 2006 لما فكت العزلة الدولية عنها. اما السين الثانية اي السعودية، فحدث ولا حرج. فهذا البلد الذي كان يطرح نفسه مرجعية عامة للمسلمين، بجميع طوائفهم ومذاهبهم على مساحة العالمين العربي والاسلامي، وينظر اليه كحكم، اصبح بحاجة لمن يشكل له مرجعاً يلجأ اليه ويتفيأ ظله، بعدما خسر مرجعيته وأصبح مثله مثل اي بلد في المنطقة.

وقد ساهم قصر نظر مسؤوليه بتعاطيهم بالشأنين العام والسياسي، في تراجع موقع السعودية كمرجعية وكحكم في العالمين العربي والاسلامي، وذلك للأسباب التالية:

1. تحويل السعودية نفسها طرفاً في النزاع الدائر في البحرين بين النظام ومعارضيه، مما اثر على مصداقيتها واحترامها كمرجعية وكحكم.

2. استمرار السعودية في تجاهل معارضي نظامها، سواءً من سكان المناطق الشرقية الغنية بالنفط ذي الغالبية الشيعية، او سواءً المطالبين بإصلاحات جذرية من الشباب السعودي في مناطق الرياض وجدة، وفي بعض الجامعات السعودية، وبعض الجمعيات التي تطالب بحق المرأة في قيادة السيارة والمشاركة في التصويت والعمل والاختلاط مع الرجال في الأماكن العامة(..).

3. سماح مسؤوليها، من دون ادراك، لمفتي السعودية عبد العزيز آل الشيخ بالتطاول على بعض دول مجلس التعاون الخليجي، كالكويت ودولة الامارات والبحرين وقطر، لإنشائها كنائس على اراضيها، مصدراً فتوى يدعو فيها الى تدمير هذه الكنائس في الدول المذكورة لأنها تروّج لدين غير دين الاسلام، ما دفع ببعض مسؤولي هذه الدول وأبرزهم قائد شرطة دبي ضاحي خلفان الى التنديد علناً بهذه الفتوى، وهاجم بجرأة ولأول مرة النظام الوهابي، معتبراً ان هذا النظام لا يصدر الا الفتاوى الشاذة على اهل الخليج والمنطقة.

4. انكفاء السعودية عن الساحة العراقية، وعجزها عن ايجاد موطئ قدم لها هناك، رغم دعمها لبعض الرموز والقيادات العراقية.

5. عجز السعودية عن ايجاد تفاهم حقيقي مع الجمهورية الاسلامية الايرانية، فبدل ان تجعل من ايران دولة مساندة لمرجعيتها الإسلامية وسنداً لها كحكم، جعلت منها خصماً وعدواً، مما دفع بإمام مسجد طهران احمد خاتمي في إحدى خطب الجمعة قبل اشهر الى اتهام آل سعود جهاراً بتصدير الفتنة الى دول المنطقة.

6. اندفاع السعودية عبر وزير خارجيتها سعود الفيصل لتكون رأس حربة في مواجهة النظام في سوريا، مما افقد سعود الفيصل (كما يقول سليم الحص) مكانته كديبلوماسي عريق، وجعل من السعودية منظّراً للمواجهة العسكرية مع النظام في سوريا، بدلا من ان تكون راعية للسلام وللحل بين النظام ومعارضيه، من اجل حماية سوريا من الفتنة والاقتتال بين ابنائها ومنع تدخل الغير في شؤونها.

7. وفي لبنان اخطأت السعودية على اربعة محاور:

- المحور الأول: تمثل في دعمها لقسم من المسلمين السنة وخاصمت واهملت قسماً آخر، فالرؤساء سليم الحص وعمر كرامي ونجيب ميقاتي والوزير محمد الصفدي وعبد الرحيم مراد وأسامة سعد(..) ليسوا اقل سنية من الرئيسين فؤاد السنيورة وسعد الحريري.

- المحور الثاني: تمثل في مخاصمتها غير المفهوم للقيادات الشيعية في البلد، فالرئيس نبيه بري (المعتدل) ومعه السيد حسن نصر الله وما يمثلان على الساحة اللبنانية لا يقلون إسلامية عن القيادات السنية التابعة لها.

- المحور الثالث: تمثل في دعمها اطرافاً مسيحية في 14 آذار على حساب اطراف مسيحية في 8 آذار.

- المحور الرابع: وكان بمثابة صاعقة للأغلبية الصامتة والعاقلة من الشعب اللبناني، تمثل في دعم السعودية لقوى أعطى ظهورها النافر والعلني والمفاجئ على الساحة اللبنانية صورة بشعة عن السعودية، مغايرة للصورة التي طبعت في مخيلة اللبنانيين خلال السنوات الماضية.

امام هذه الصورة الواقعية لكل من «السينين» معاً (سوريا والسعودية) لا بدّ للناظر اليهما من بعيد ان يشفق على حالهما، فالأولى ما تزال تعتقد نفسها قادرة على تخطي ازمتها لمجرد انها مدعومة بالفيتو الروسي والصيني، والثانية ما تزال تتصرف بـ«غرور قوة المال»، غير آبهة بأخطاء سياستها وعيوب نظامها، ظناً منها ان الدعم الأميركي لها سيقيها من خطر الأزمات، وسيبعد عنها رياح التغيير التي تعصف في المنطقة. لكنهما نسيا معاً ان كلاً منهما اصبح من دون سقف، وانهما كغيرهما من الدول التي قرارها ليس بيدها، سيكونان ضحية تقاسم المغانم والمصالح بين السلاطين الثلاثة الكبار في العالم، اميركا من جهة وروسيا والصين من جهة اخرى.
  • فريق ماسة
  • 2013-07-12
  • 11933
  • من الأرشيف

من يرعى الـ«سين ـ سين» ؟!

على ضوء مجريات الأحداث التي شهدتها بعض المناطق اللبنانية، انطلاقاً من البقاع مروراً بعكار وطرابلس في الشمال، وصولاً الى الطريق الجديدة في بيروت وليس انتهاء في صيدا تأثراً بالأزمة السورية التي ترخي بظلالها على الداخل اللبناني وتزيد من انقسامه السياسي بين قواه السياسية الموزعة على معسكري «8 و 14 آذار»، لا بد للناظر من بعيد، وخصوصا عقلاء لبنان، ان يستخلص التالي: لن يتمكن اللبنانيون، لا في القريب ولا في البعيد، من وقف تداعيات وتأثيرات الأزمة السورية على الداخل عندهم، لأن من كان يدعوه الرئيس نبيه بري بالـ «سين ـ سين» (اي سورية والسعودية) لرمي مظلتهما ورعايتهما السياسية على لبنان، اصبحا بحاجة الى من يرعاهما ويرمي مظلته عليهما ليحمي نظامهما واستقرارهما وديمومة شعبهما. السين الأولى، اي سورية فقدت بريقها ودورها الاقليمي على الساحة اللبنانية وفي المنطقة، منذ خروج جيشها من لبنان عام 2005، ولولا انتصار المقاومة في حرب تموز عام 2006 لما فكت العزلة الدولية عنها. اما السين الثانية اي السعودية، فحدث ولا حرج. فهذا البلد الذي كان يطرح نفسه مرجعية عامة للمسلمين، بجميع طوائفهم ومذاهبهم على مساحة العالمين العربي والاسلامي، وينظر اليه كحكم، اصبح بحاجة لمن يشكل له مرجعاً يلجأ اليه ويتفيأ ظله، بعدما خسر مرجعيته وأصبح مثله مثل اي بلد في المنطقة. وقد ساهم قصر نظر مسؤوليه بتعاطيهم بالشأنين العام والسياسي، في تراجع موقع السعودية كمرجعية وكحكم في العالمين العربي والاسلامي، وذلك للأسباب التالية: 1. تحويل السعودية نفسها طرفاً في النزاع الدائر في البحرين بين النظام ومعارضيه، مما اثر على مصداقيتها واحترامها كمرجعية وكحكم. 2. استمرار السعودية في تجاهل معارضي نظامها، سواءً من سكان المناطق الشرقية الغنية بالنفط ذي الغالبية الشيعية، او سواءً المطالبين بإصلاحات جذرية من الشباب السعودي في مناطق الرياض وجدة، وفي بعض الجامعات السعودية، وبعض الجمعيات التي تطالب بحق المرأة في قيادة السيارة والمشاركة في التصويت والعمل والاختلاط مع الرجال في الأماكن العامة(..). 3. سماح مسؤوليها، من دون ادراك، لمفتي السعودية عبد العزيز آل الشيخ بالتطاول على بعض دول مجلس التعاون الخليجي، كالكويت ودولة الامارات والبحرين وقطر، لإنشائها كنائس على اراضيها، مصدراً فتوى يدعو فيها الى تدمير هذه الكنائس في الدول المذكورة لأنها تروّج لدين غير دين الاسلام، ما دفع ببعض مسؤولي هذه الدول وأبرزهم قائد شرطة دبي ضاحي خلفان الى التنديد علناً بهذه الفتوى، وهاجم بجرأة ولأول مرة النظام الوهابي، معتبراً ان هذا النظام لا يصدر الا الفتاوى الشاذة على اهل الخليج والمنطقة. 4. انكفاء السعودية عن الساحة العراقية، وعجزها عن ايجاد موطئ قدم لها هناك، رغم دعمها لبعض الرموز والقيادات العراقية. 5. عجز السعودية عن ايجاد تفاهم حقيقي مع الجمهورية الاسلامية الايرانية، فبدل ان تجعل من ايران دولة مساندة لمرجعيتها الإسلامية وسنداً لها كحكم، جعلت منها خصماً وعدواً، مما دفع بإمام مسجد طهران احمد خاتمي في إحدى خطب الجمعة قبل اشهر الى اتهام آل سعود جهاراً بتصدير الفتنة الى دول المنطقة. 6. اندفاع السعودية عبر وزير خارجيتها سعود الفيصل لتكون رأس حربة في مواجهة النظام في سوريا، مما افقد سعود الفيصل (كما يقول سليم الحص) مكانته كديبلوماسي عريق، وجعل من السعودية منظّراً للمواجهة العسكرية مع النظام في سوريا، بدلا من ان تكون راعية للسلام وللحل بين النظام ومعارضيه، من اجل حماية سوريا من الفتنة والاقتتال بين ابنائها ومنع تدخل الغير في شؤونها. 7. وفي لبنان اخطأت السعودية على اربعة محاور: - المحور الأول: تمثل في دعمها لقسم من المسلمين السنة وخاصمت واهملت قسماً آخر، فالرؤساء سليم الحص وعمر كرامي ونجيب ميقاتي والوزير محمد الصفدي وعبد الرحيم مراد وأسامة سعد(..) ليسوا اقل سنية من الرئيسين فؤاد السنيورة وسعد الحريري. - المحور الثاني: تمثل في مخاصمتها غير المفهوم للقيادات الشيعية في البلد، فالرئيس نبيه بري (المعتدل) ومعه السيد حسن نصر الله وما يمثلان على الساحة اللبنانية لا يقلون إسلامية عن القيادات السنية التابعة لها. - المحور الثالث: تمثل في دعمها اطرافاً مسيحية في 14 آذار على حساب اطراف مسيحية في 8 آذار. - المحور الرابع: وكان بمثابة صاعقة للأغلبية الصامتة والعاقلة من الشعب اللبناني، تمثل في دعم السعودية لقوى أعطى ظهورها النافر والعلني والمفاجئ على الساحة اللبنانية صورة بشعة عن السعودية، مغايرة للصورة التي طبعت في مخيلة اللبنانيين خلال السنوات الماضية. امام هذه الصورة الواقعية لكل من «السينين» معاً (سوريا والسعودية) لا بدّ للناظر اليهما من بعيد ان يشفق على حالهما، فالأولى ما تزال تعتقد نفسها قادرة على تخطي ازمتها لمجرد انها مدعومة بالفيتو الروسي والصيني، والثانية ما تزال تتصرف بـ«غرور قوة المال»، غير آبهة بأخطاء سياستها وعيوب نظامها، ظناً منها ان الدعم الأميركي لها سيقيها من خطر الأزمات، وسيبعد عنها رياح التغيير التي تعصف في المنطقة. لكنهما نسيا معاً ان كلاً منهما اصبح من دون سقف، وانهما كغيرهما من الدول التي قرارها ليس بيدها، سيكونان ضحية تقاسم المغانم والمصالح بين السلاطين الثلاثة الكبار في العالم، اميركا من جهة وروسيا والصين من جهة اخرى.

المصدر : السفير/ داوود رمال


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة