سطّري طريقاً مورداً، وإن كان للشوك مكان، سيري فالألم يجعلك أقوى وأبقى، وإن رحلت يوماً، بكتك كل مَن في الأرض والسماء» هكذا، قال نضال سيجري (1965ــــــ 2013) لإحدى الممثلات اللبنانيات وهو يعلّمها ما الذي ينبغي لها فعله كي تجيد فنّ التمثيل وفنّ زرع المحبة في قلوب الناس. كأنّه كان يعلم بأنّ الجميع سيبكي فراقه كما حصل أمس.

بشكل غير مفاجئ، رحل النجم السوري بعدما أتعبه المرض والحال المزرية التي بلغتها بلاده. هكذا، عجز عن مواصلة المشوار وسوريا يتوغّل فيها الانقسام، ويأكل أبناؤها قلوب بعضهم بعضاً! لم يستسغ إكمال حياته الفنية بدور الأخرس وهو الأكثر أحقيةً في الكلام. كيف لا وهو مَن تحدث بجرأة كبيرة أمام الرئيس السوري بحضور 35 فناناً سورياً عن ضرورة أن يضع النظام يده بيد المعارضين الشرفاء لتصل البلاد إلى ضفاف الأمان؟  اضطر الممثل البارع لإجراء عملية استئصال حنجرة بعد إصابته بالمرض، فاستعاض عنها بواحدة الكترونية كانت تجعله يعتذر لمن يكلّمه لعدم وضوح صوته. ليست غريبة تلك الأخلاق عن الكوميديان السوري وهو الوريث الشرعي لأسامة بن منقذ (1095ــــ 1188) الشاعر، والأديب، والفارس الذي ولد في قلعة شيزر في منطقة محردة (اللاذقيّة). على مقربة من تلك القلعة المطلّة على البحر، ولد «أسعد». قرّر منذ الطفولة جعل البحر صديقه، يفضي إليه أسراره، ويخبره بأحلامه. في حديث سابق لنجم «الانتظار» مع «الأخبار»، قال: «من البحر تعلَّمت أول الدروس السُّرانيَّة، وما زلت حتى اليوم أؤمن بأهمية السرّ». تلك كانت المحطة الأولى التي قضاها برفقة البحر، وعاش بين أفراد عائلة بسيطة خبر فيها الديموقراطية عندما تربّى مع شقيقين وشقيقتين، ولم يكن الأبوان يميّزان بينهم أو يطلقان سطوة الذكور على الإناث. بدأ طالباً مشاغباً في المدرسة الابتدائية من دون أن يسكنه هاجس التفوق، بل كان يشعر بالشفقة على زملائه المتفوقين كون سياط الدرجات تلاحقهم أينما حلّوا. هكذا، تعلّم طعم الحرية عندما مارس اختلافه من دون أن يؤذي أحداً. من هناك بدأت الرحلة والمشوار الصعب الذي توِّج بنجاح ساحق وشهرة واسعة وإجماع على موهبة استثنائية ومحبة كبيرة لدى الجميع. جَيّر طاقاته لصالح كرة القدم في طفولته المبكرة ثم لصالح المسرح الطلائعي. عندها، كانت الكوميديا تسير في دمه من دون أن ينتبه. مرة، أُغرم بعريفة المدرسة وكانت تكبره بعامين، فذهب إلى صديقه وأخبره أنّ عليهما جمع عمرهما معاً، فيصبحا أكبر منها ويتسنّى لهما أن يعشقاها معاً. كان الرجل يحلم بالسفر الدائم. لذا كان يأمل أن يصبح بحاراً أو سائق شاحنة، علّه يسافر ويستكشف الحياة. لكن عندما تقدم لامتحانات “المعهد العالي للفنون المسرحية” بعد هجرته من الساحل إلى دمشق، اكتشف أنّه صار في إمكانه أن يكون رباناً وسائقاً وكثيراً من الأشياء الأخرى، خصوصاً أنّه تتلمذ على يد المسرحي السوري الكبير فواز الساجر الذي ترك رحيله فراغاً كبيراً في حياة التلميذ النجيب الذي تألق على خشبة المسرح منذ بداياته في «ميديا وجيسون» إلى «كاليغولا»، و«أواكس»، و«سفر برلك» ومسرحيات أخرى بلغت 35 تمثيلاً وإخراجاً ومنها «حمام بغدادي» بشراكة فايز قزق ممثلاً وجواد الأسدي مخرجاً. بين فترة وأخرى، كان يعود ليمارس لعبته الأثيرة على الخشبة مع الهواة وفرق المسرح الجامعي. وعندما عهد إليه منصب مدير المسرح القومي في سوريا، كتب استقالته ووضعها في الدرج منذ اليوم الأول، ولم يطل الاقامة، فقد هزمته حينها قوانين البيروقراطية والفساد الإداري. أما في التلفزيون، فقد اختار أدواره بعناية وعرف كيف يضع قدمه بين نجوم الصف الأول، ماشياً على مبدأ المعلّم ستانسلافسكي عندما قال: «ليس هناك دور صغير وآخر كبير. هناك ممثل صغير وممثل كبير». قدم نضال سيجري أدواراً هامةً في مسلسلات «بقعة ضوء» و«الانتظار» و«أبناء القهر» وحقق نجاحاً استثنائياً في «ضيعة ضايعة» (2008) لممدوح حمادة والليث حجو. بهذا العمل، صنع سيجري (بشخصية أسعد الدرويش والطيب) مع شريكه باسم ياخور ثنائياً قيل إنّه يصلح ليكون خلفاً لدريد لحام ونهاد قلعي.

أسدل سيجري الستار ليظلّ وليم (8 سنوات) وآدم (6 سنوات) يفخران برحلة والدهما القصيرة، فبلاده المجروحة ستبقى تذكره طويلاً رغم ازدحام الموت اليومي.

-----------------------------------------------

يشيَّع اليوم من منزله في اللاذقية، ليزور جثمانه المسرح القومي في المدينة، وليصلى

عليه عقب صلاة الجمعة في مسجد «ياسين» في مشروع الأوقاف، ثم ليوارى ثرى مقبرة الروضة.

»سنعود بعد قليل«

منذ ثلاث سنوات، علم نضال سيجري أنّه مصاب بسرطان الحنجرة. قاتله بكل ما يملك من معنويات، فظل يضحك ويوزع الأمل أينما حلّ. في افتتاح فيلمه التلفزيوني اليتيم «طعم الليمون» الذي قدم حكاية جميلة عن لاجئين جولانيين وفلسطينيين في مخيم جرمانا في ريف دمشق، سألناه عن سبب الفرح في عينيه، فكتب لنا على ورقة إنّه «الكيماوي يصنع منك رجلاً أجمل». واصل العمل مع الليث حجو كمتعاون فني في مسلسل «خربة» حيث قدم أيضاً دور رجل لا يتكلم، إضافة إلى تعاونه في مسلسل «سنعود بعد قليل» الذي يُعرض حالياً. بذل جهوداً حثيثة لتجنيب بلاده الانقسام لكنّ كل نداءاته لم تفلح في ذلك.
  • فريق ماسة
  • 2013-07-11
  • 12410
  • من الأرشيف

نضال سيجري: أسعد الطيب حمل «ضيعته» ومضى..

سطّري طريقاً مورداً، وإن كان للشوك مكان، سيري فالألم يجعلك أقوى وأبقى، وإن رحلت يوماً، بكتك كل مَن في الأرض والسماء» هكذا، قال نضال سيجري (1965ــــــ 2013) لإحدى الممثلات اللبنانيات وهو يعلّمها ما الذي ينبغي لها فعله كي تجيد فنّ التمثيل وفنّ زرع المحبة في قلوب الناس. كأنّه كان يعلم بأنّ الجميع سيبكي فراقه كما حصل أمس. بشكل غير مفاجئ، رحل النجم السوري بعدما أتعبه المرض والحال المزرية التي بلغتها بلاده. هكذا، عجز عن مواصلة المشوار وسوريا يتوغّل فيها الانقسام، ويأكل أبناؤها قلوب بعضهم بعضاً! لم يستسغ إكمال حياته الفنية بدور الأخرس وهو الأكثر أحقيةً في الكلام. كيف لا وهو مَن تحدث بجرأة كبيرة أمام الرئيس السوري بحضور 35 فناناً سورياً عن ضرورة أن يضع النظام يده بيد المعارضين الشرفاء لتصل البلاد إلى ضفاف الأمان؟  اضطر الممثل البارع لإجراء عملية استئصال حنجرة بعد إصابته بالمرض، فاستعاض عنها بواحدة الكترونية كانت تجعله يعتذر لمن يكلّمه لعدم وضوح صوته. ليست غريبة تلك الأخلاق عن الكوميديان السوري وهو الوريث الشرعي لأسامة بن منقذ (1095ــــ 1188) الشاعر، والأديب، والفارس الذي ولد في قلعة شيزر في منطقة محردة (اللاذقيّة). على مقربة من تلك القلعة المطلّة على البحر، ولد «أسعد». قرّر منذ الطفولة جعل البحر صديقه، يفضي إليه أسراره، ويخبره بأحلامه. في حديث سابق لنجم «الانتظار» مع «الأخبار»، قال: «من البحر تعلَّمت أول الدروس السُّرانيَّة، وما زلت حتى اليوم أؤمن بأهمية السرّ». تلك كانت المحطة الأولى التي قضاها برفقة البحر، وعاش بين أفراد عائلة بسيطة خبر فيها الديموقراطية عندما تربّى مع شقيقين وشقيقتين، ولم يكن الأبوان يميّزان بينهم أو يطلقان سطوة الذكور على الإناث. بدأ طالباً مشاغباً في المدرسة الابتدائية من دون أن يسكنه هاجس التفوق، بل كان يشعر بالشفقة على زملائه المتفوقين كون سياط الدرجات تلاحقهم أينما حلّوا. هكذا، تعلّم طعم الحرية عندما مارس اختلافه من دون أن يؤذي أحداً. من هناك بدأت الرحلة والمشوار الصعب الذي توِّج بنجاح ساحق وشهرة واسعة وإجماع على موهبة استثنائية ومحبة كبيرة لدى الجميع. جَيّر طاقاته لصالح كرة القدم في طفولته المبكرة ثم لصالح المسرح الطلائعي. عندها، كانت الكوميديا تسير في دمه من دون أن ينتبه. مرة، أُغرم بعريفة المدرسة وكانت تكبره بعامين، فذهب إلى صديقه وأخبره أنّ عليهما جمع عمرهما معاً، فيصبحا أكبر منها ويتسنّى لهما أن يعشقاها معاً. كان الرجل يحلم بالسفر الدائم. لذا كان يأمل أن يصبح بحاراً أو سائق شاحنة، علّه يسافر ويستكشف الحياة. لكن عندما تقدم لامتحانات “المعهد العالي للفنون المسرحية” بعد هجرته من الساحل إلى دمشق، اكتشف أنّه صار في إمكانه أن يكون رباناً وسائقاً وكثيراً من الأشياء الأخرى، خصوصاً أنّه تتلمذ على يد المسرحي السوري الكبير فواز الساجر الذي ترك رحيله فراغاً كبيراً في حياة التلميذ النجيب الذي تألق على خشبة المسرح منذ بداياته في «ميديا وجيسون» إلى «كاليغولا»، و«أواكس»، و«سفر برلك» ومسرحيات أخرى بلغت 35 تمثيلاً وإخراجاً ومنها «حمام بغدادي» بشراكة فايز قزق ممثلاً وجواد الأسدي مخرجاً. بين فترة وأخرى، كان يعود ليمارس لعبته الأثيرة على الخشبة مع الهواة وفرق المسرح الجامعي. وعندما عهد إليه منصب مدير المسرح القومي في سوريا، كتب استقالته ووضعها في الدرج منذ اليوم الأول، ولم يطل الاقامة، فقد هزمته حينها قوانين البيروقراطية والفساد الإداري. أما في التلفزيون، فقد اختار أدواره بعناية وعرف كيف يضع قدمه بين نجوم الصف الأول، ماشياً على مبدأ المعلّم ستانسلافسكي عندما قال: «ليس هناك دور صغير وآخر كبير. هناك ممثل صغير وممثل كبير». قدم نضال سيجري أدواراً هامةً في مسلسلات «بقعة ضوء» و«الانتظار» و«أبناء القهر» وحقق نجاحاً استثنائياً في «ضيعة ضايعة» (2008) لممدوح حمادة والليث حجو. بهذا العمل، صنع سيجري (بشخصية أسعد الدرويش والطيب) مع شريكه باسم ياخور ثنائياً قيل إنّه يصلح ليكون خلفاً لدريد لحام ونهاد قلعي. أسدل سيجري الستار ليظلّ وليم (8 سنوات) وآدم (6 سنوات) يفخران برحلة والدهما القصيرة، فبلاده المجروحة ستبقى تذكره طويلاً رغم ازدحام الموت اليومي. ----------------------------------------------- يشيَّع اليوم من منزله في اللاذقية، ليزور جثمانه المسرح القومي في المدينة، وليصلى عليه عقب صلاة الجمعة في مسجد «ياسين» في مشروع الأوقاف، ثم ليوارى ثرى مقبرة الروضة. »سنعود بعد قليل« منذ ثلاث سنوات، علم نضال سيجري أنّه مصاب بسرطان الحنجرة. قاتله بكل ما يملك من معنويات، فظل يضحك ويوزع الأمل أينما حلّ. في افتتاح فيلمه التلفزيوني اليتيم «طعم الليمون» الذي قدم حكاية جميلة عن لاجئين جولانيين وفلسطينيين في مخيم جرمانا في ريف دمشق، سألناه عن سبب الفرح في عينيه، فكتب لنا على ورقة إنّه «الكيماوي يصنع منك رجلاً أجمل». واصل العمل مع الليث حجو كمتعاون فني في مسلسل «خربة» حيث قدم أيضاً دور رجل لا يتكلم، إضافة إلى تعاونه في مسلسل «سنعود بعد قليل» الذي يُعرض حالياً. بذل جهوداً حثيثة لتجنيب بلاده الانقسام لكنّ كل نداءاته لم تفلح في ذلك.

المصدر : الأخبار/ وسام كنعان


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة