دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
منطقي جداً أن يعبّر انصار النظام في سوريا عن فرحتهم بسقوط حكم المرشد في مصر. قد لا يهتم هؤلاء لحيثيات عملية الاسقاط التي جرت، ولا للتهنئة السريعة من قبل ملك المملكة الوهابية عبد الله بن عبد العزيز للحاكم الجديد. وقد لا يعير هؤلاء اهتماماً كبيراً لما صدر من ردود فعل من جانب اسرائيل وبعض دول الغرب وبعض العرب، حكومات ومعارضة. المهم بالنسبة إلى أهل الحكم في الشام أن خصماً، لم يطلب احد ودّه أو خصومته، قد سقط. والاهم، بالنسبة الى اهل الشام، ما سربته مصادر عسكرية لوكالة رويترز قبل يومين، من أن القوات المسلحة المصرية حسمت موقفها ضد حكم المرشد، بعدما أعلن الرئيس محمد مرسي الحرب على النظام في سوريا، قاطعاً العلاقات الدبلوماسية مع دمشق وفاتحاً باب الجهاد ضد الحكم فيها.
في مكان ما من الازمة، هناك فصل سيحكى عنه الكثير، في مصر ودول الخليج وتركيا ولبنان وفلسطين، عنوانه «لعنة الشام». وهذا صحيح، لأن غالبية ساذجة من الناس، ومعها قسم كبير من النخب، تصرّ على التعامل مع الحدث السوري على انه امر منفصل عما يجري في الاقليم، ويكتفي هؤلاء بالقول ان شعباً مقهوراً ثار على نظام مستبد، والباقي التفاصيل!
28 شهرا مرّت على الازمة السورية. عشرات الالوف قتلوا. ملايين نزحوا او هربوا. فوضى كبيرة تعم البلاد وسط حال حرب حقيقية تشهدها المدن والقرى والارياف. حشد غير مسبوق من المتسلحين، من مجموعات شعبية صغيرة الى قوى منظمة وأجهزة استخبارات، الى لجان شعبية قريبة من الحكم. هؤلاء كلهم ينخرطون في حرب لا تلوح نهاية قريبة لها، ولن تقود الى انتصار مبين لهذا الطرف او ذاك. بل ستكون نتيجتها التدمير الممنهج لأقدم عاصمة في التاريخ.
هل من دروس للتجربة المصرية الجديدة؟
بالنسبة إلى الرئيس بشار الاسد، ثمة اشارات قوية، تشبه تلك التي اطلقت اثر اندلاع ثورة 25 يناير. يومها، استبعد الاسد اعتبار ما يجري في مصر، وما سبقه في تونس وليبيا، امراً قابلاً لأن يتكرّر في سوريا. ربط موقف الشعب من النظام بالمسألة الوطنية فقط، وتصرف على اساس ان موقف الحكم في سوريا من المسألة الوطنية والقومية، يكفي لمنحه فترات سماح متتالية. لكنه فوجئ بأن قوى داخلية، من تلقاء نفسها او بتحريض من الخارج ــ لم يعد الامر مهما ــ قد انطلقت في حراك سرعان ما تطور خلال أشهر قليلة الى تمرد عسكري فتح جرحا كبيراً في جسد الشام. ولأن خلاصات المراجعة السورية، في حينه، اقتصرت على بند التآمر، فإن الخطوات العملانية اقتصرت على معالجات امنية، ترافقت مع علاجات سياسية من النوع الذي لم يشعر به الناس حقيقة، أو لم يُرد لهم أن يشعروا بها. فرغم بعض القرارات التي اتخذها النظام، والتي ربما لم تكن ترقى الى مستوى الطموحات، بتعديل الدستور وإلغاء حالة الطوارئ وتعديل المادة الثامنة وفتح الباب امام واقع سياسي وحزبي واعلامي مختلف، نجحت المعارضة التي لم يكن قد طغى عليها الخارج المتآمر تماماً، في الحصول على مزيد من الاحتضان الشعبي. ويمكن القول، مع بعض السذاجة، أنه لو بُذلت جهود مضنية يومها، لربما كان يمكن الوصول الى تسويات تعرقل جهود المتآمرين.
اما قوى المعارضة البائسة، فقد اكتفت بمشاهدة «برنامج السقوط المفتوح» من على شاشة «الجزيرة»، واعتقدت لوهلة بأن سقوط الاسد وفريقه مسألة وقت فقط، ووقت قصير ايضاً، فراحت ترسم مشاريع سيطرتها على الحكم، وخاضت معركة توزيع المغانم. واستعجل التيار الاسلامي من المعارضة ابراز الجانب الوقح والقذر من وجهه، فدعم عمليات تسلح عشوائية بحجة مقاومة عنف النظام، وتولى تغطية جرائم قامت على تمييز سياسي وطائفي وعرقي، وأدّت الى مقتل عشرات الألوف من عناصر الجيش ومن موظفي الدولة ومؤيدي النظام (تشير احصائية غير نهائية موجودة لدى جهة دولية الى ان 43 في المئة من القتلى في سوريا من انصار النظام). وقدمت قيادات معارضة صورة بشعة عن الانتهازيين المستعدين لبيع بلادهم مقابل منصب. وترك هؤلاء امر قيادتهم، سياسيا وميدانيا، للخارج المعادي لسوريا شعبا ودولة ومؤسسات، حتى وصل الامر الى حدود الفوضى الشاملة، التي جعلت من هذا الصنف من المعارضين في مصاف المجرمين الذين يجب محاكمتهم فردا فردا، اليوم او بعد حين.
اليوم، أمام السوريين فرصة جديدة للهدوء. يمكنهم، جميعا، العودة الى الخلف قليلا، ومراجعة عامين ونصف عام من المواجهات الدموية، علهم يستخلصون عبر الثورة المصرية المتجددة، وهو امر يتطلب خطوات متلازمة من الجانبين ولو من دون توافق:
ماذا بمقدور النظام؟
• في مقدور الرئيس الاسد مراجعة آليات ادارة الحوار الوطني، والدفع نحو صيغة تتضمن اشارات عملانية الى تغيير حقيقي، وتترافق مع اطلاق ورشة تقود الى اعادة الحرية لعشرات الالوف من المعتقلين، والعمل في اماكن كثيرة من سوريا، من اجل اجراء انتخابات محلية، مهمتها الوحيدة ادارة المصالحات الوطنية المحلية.
• يمكن الاسد اختيار شخصية وطنية سورية، ومن دون انتظار موافقة اي جهة اخرى، لتتولى رئاسة حكومة انقاذ. وكلنا يعرف انه يمكن اختيار شخصية يقبل بها الناس ولا تحتاج الى مصادقة مرجعيات او قوى سياسية. واذا ما منحت هذه الحكومة صلاحيات حقيقية، فهي قادرة على تحقيق تحولات تربك الفاسدين في كلتا الجهتين، وتسرّع في خطوات المصالحة واعادة الاستقرار، وادارة خطة اعادة المهجرين الى المناطق التي اخرجت السلطة المسلحين منها، وبين هؤلاء قسم كبير من النازحين الى خارج سوريا والذين يتعرضون لابشع انواع الاستغلال. ووضع استراتيجية جديدة لاعمار وانماء الريف انطلاقا من مبدأ الاقتصاد المتوازن لا الانماء المتوازن الذي خبرناه في لبنان كذبة سمجة.
• في مقدور الرئيس السوري اتخاذ قرار جريء بإلغاء وزارة الاعلام في سوريا، وباعادة تنظيم الحريات الاعلامية في اطار مقبول، تشرف عليه شخصية موثوق بها من اوساط ثقافية وفكرية واعلامية، مثل الدكتورة نجاح العطار، تسمح باعادة الاعتبار الى الحوار العاقل في سوريا، وبدور رقابي للناس لمواجهة امراء الحرب المسيطرين، ليس على دماء الناس فقط، بل على قوتهم، وهؤلاء يشكلون اليوم المافيا الاكثر خطورة على شعب سوريا.
• يمكن الاسد اشعار غالبية شعبه بأن التغيير ليس شعارا فقط، وان الخشية هي من خارج متآمر، ومن بعض الداخل الذي صار مكشوفا، وان يبادر الى علاج يؤمن شراكة مع الآخرين في ادارة البلاد، والتعامل مع المعارضين كما هم وليس كما يريد النظام لهم ان يكونوا. والنجاحات الكبيرة التي حققها النظام في مواجهات المجموعات المسلحة مؤخرا، تساعده على خطوات من هذا النوع. كما دلت الاخفاقات على ترهل وفساد في اجهزة الدولة السياسية والامنية والعسكرية كافة، ما يساعده على اطلاق ورشة تنظيف تقود الى اخراج من لم يخرج بالانشقاق فقط.
• بمقدور الاسد طلب مساعدة حشد عدد غير صغير من اصدقاء سوريا، ليس بمده بالسلاح والمال فقط، بل بالقدرة على انتاج قوة ضغط تساعد سوريا على مواجهة العزلة المفروضة عليها في الاقليم والعالم، وعلى اطلاق عملية تواصل مع شعوب وجماعات في هذه الدول، قادرة على فرض متغيرات على سياسات حكوماتها، آخذاً في الاعتبار ومستفيدا من كون هذه الدول تواجه، وستواجه اكثر، صعوبات كبيرة بسبب الجرائم التي وقفت هذه الحكومات خلفها، سواء في سوريا او خارجها.
ماذا عن المعارضة؟
ــــ هي لحظة الحقيقة لهذه المجموعات التي قادت جمهورها من فشل الى فشل، وتسببت بجرائم لن يغفرها لها احد. ويمكن الممسكين بالناس على الارض المبادرة الى خطوة، هي الوحيدة المقبولة اليوم، تقوم على مبدأ القاء السلاح بصورة تامة ونهائية، واعلان موقف رافض لمبدأ العسكرة لاي احتجاجات ضد الحكم وسياساته، والانخراط مباشرة في عملية المصالحة الوطنية، والاستفادة من مناخات الاحتجاج والتمرد، للامساك بورقة ضغط من دون نار، في حال تطلب الامر ذلك.
ــــ يمكن هذه القوى المبادرة الى طرد (نعم طرد) كل شخص غير سوري، جاء حاملا السلاح او المال بحجة نصرة المعارضة، والغاء كل مظاهر الاستبداد التي تسود مناطق سيطرة المعارضين اليوم، سواء باسم الثورة او باسم الدين. وهي خطوة الزامية ستجد انصاراً لها من قبل غالبية شعبية، بدأت تعبر عن تعبها من هذه الثورة المجنونة التي اظهرت انها اقل اخلاقا من بعض النظام المنتفضة عليه.
ــــ يمكن المعارضة اجراء مراجعة مرتبطة بنتائج عامين ونصف عام من التبعية لعواصم عربية وغربية لا تريد الا الدمار لسوريا، والتعلم من درس مركزي، يقول ان الخارج لا يهتم الا لمصالحه المتقاطعة اليوم عند بند واحد هو تدمير سوريا. وان تتصرف هذه المعارضة بواقعية مع كون الانقسام السياسي والطائفي والعرقي حرمها من فرصة ادعاء تمثيل كل الشعب السوري. وان تتصرف بواقعية اكبر، مع كونها لم تقدم اي نموذج في السياسة والادارة والكرامة الوطنية، وتنصرف الى رفع مستوى الجهود لتحقيق مصالحات اهلية، والتحول الى قوى ضغط لالزام النظام بكل خطوات التغيير الضرورية اقتصاديا وسياسيا واداريا.
سيخرج من يرفض مبدأ هذا النقاش، وسيقول مناصرون للنظام ان الزمن هو زمننا، واننا نسير نحو تحقيق الانتصار الشامل على المرتزقة، وان سادتهم في الخارج يتهاوون بينما رئيس سوريا صامد في مكتبه. وسيخرج معارضون يدعون الى عدم التوقف عن مسيرة قطعت اشواطا في نزع الشرعية الشعبية والخارجية عن «النظام المستبد»، وانه لم يعد هناك من ثقة تتيح التعامل مع الحكم او مؤسساته. وسيخرج من يعتبر الكلام سهلا من بعيد... كل هذا ممكن. لكن الاكيد، ان دروس الثورة المصرية المتجددة، لا تتصل فقط بالقوة الثورية الموجودة لدى الناس ولدى الشباب، بل في الحكمة الواقعية التي تميز بها المعارضون الذين وجدوا، في لحظة مصيرية، مؤسسة وطنية جامعة اسمها الجيش، قادرة على تولي مرحلة انتقالية ضرورية، بمعزل عما سيتحقق في المستقبل القريب. اما اصرار السوريين على حالة الحرب والعداء، فلن تعطي سوى المزيد من الدروس في القتل والهمجية والتكاره والتدمير، ولن يكون بمقدور احد، لا اليوم ولا غدا، فرض وقائع مخالفة لسياق التاريخ الذي يصنعه الناس، لا حاكم يتبدل ولا معارض يتخيل.
المصدر :
الاخبار/ابراهيم الأمين
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة