في الطريق إلى الشام، تُطالعك أعلام سورية وحواجز أمنية وأعمدة موت ودخان ترتفع في الأفق البعيد ناسجة ألف قصة وقصة. أمّا في قلب العاصمة، فأسوار حصينة رُفعت، وأجهزة أمنية استُنفرت وإصبع جاهزة على الزناد.

لم تتغيّر دمشق. شبح الحرب لم يمحُ معالمها. لا تزال على حالها، لا بل أكثر جاذبية لما تختزنُه من حضارة وتاريخ. عاصمة الأمويين تبدو هذه الأيام، رغم جراحها، أكثر صلابة. الحياة هنا شبه عادية وزحمة المارة تبدو طبيعية. لا صحّة لمعظم ما يتردد عن توتّرات أمنية، باستثناء أعمدة الدخان المتصاعدة في الأفق، وصدى انفجارات يخرق هدوءها بين حين وآخر، لكنه لا يُعكّر صفوَ قاطنيها. إذ يبدو هؤلاء، لوهلة، كمن اعتادت أسماعهم أصواتها، فصرت تخالها خلفية موسيقية ترافق إيقاع حياتهم اليومي.

لم نكن قد دخلنا الأراضي السورية رسمياً، لكن في أراضي «NO MAN›S LAND»،. أمّا بين المصنع والمزة، فتلك قصّةٌ أُخرى. هناك تكون قد أصبحت فعلاً في الأراضي السورية. تجتاز ثمانية حواجز أمنية، لا يُغادر عناصرها كبيرة ولا صغيرة. يُفتّشون جميع سيارات المارّة ويُدقّقون في هويات راكبيها. لا مفرّ إلا لأصحاب «الخط العسكري» الذي يُجنّبهم الانتظار في زحمة السير أحياناً. وأحياناً أُخرى يكون بلا جدوى لدى حاجزٍ أراد شاغله أن يطمئن قلبه فقرر تفتيش الجميع من دون استثناء. الحواجز الممتدة على طول الطريق المؤدي إلى العاصمة، لا تُشبه تلك الموجودة داخلها. يُحكى عن أكثر من ألفي حاجز أمني حوّلوا دمشق إلى ثكنة عسكرية. عند كلّ مفترق طُرق وفي كل زاوية في الشام، يُطالعك حاجزٌ عسكري. يشغله أربعة أو خمسة عناصر. يُدققون في الهوية ويُفتّشون السيارات. كل سيّارة. وأحياناً كثيرة يتفحّصون وجهك أكثر من تفحّصهم أوراقك الثبوتية. كثافة الحواجز المنتشرة هنا تولّد لديك قناعة بأنّ «دخول دمشق لو كان شبه ممكن، فبالتأكيد سيكون الخروج منها أكثر من مستحيل». ولدى الاستفسار عن الأخبار التي جرى تداولها عن اشتباكات وقعت في غربي المالكي أو باب توما وغيرها من مناطق الشام، والتي أُرفقت بمعلومات عن تمكّن مسلحين من السيطرة على حواجز أمنية فيها، فيؤكّدها مرافقنا الذي يحكي عن خلايا نائمة ومجموعات مسلّحة كانت تتسلل من أحد المباني لتُهاجم حاجزاً معيناً وتقتل عناصره، لكنّ أفرادها لا يلبثون أن يُقتلوا بأجمعهم. يتحدّث مرافقنا عن «أكثر من هجوم وقع داخل الشام وتكرر بالأسلوب نفسه، لكنّ منفّذيه لاقوا الحتف نفسه». يكشف الرجل أن «هذه الحوادث خلقت توتراً وحالة من الهلع في صفوف المدنيين»، لكنّه يشير إلى أنّها «توقّفت منذ أكثر من شهرين بعد تمكن الأجهزة الأمنية من القضاء على معظم الخلايا النائمة».

لا تُشبه الشام نفسها ليلاً. زحمة النهار يمحوها الليل، لكنّها لا تنعدم. فمقولة «الشام لا تنام» لا تزال تصحّ هنا. لا تزال المقاهي تعجّ بروّادها، لكن يغلب عليها العنصر الذكوري. في الطريق إلى كفرسوسة التي تقع على تماس مع داريا، تقترب من رائحة الموت. فالمنطقة هناك شهدت أقسى المواجهات قبل أن يُسيطر النظام على معظمها. أما شارع الحمرا المسمّى «قلب الشام النابض»، فيسكت ليلاً. هنا أكثر من موقع شهد «تفجيراً إرهابياً»، لكن يستحيل أن تلاحظ أمراً غير طبيعي. «المتحلّق» الجنوبي لدمشق، جامع الإيمان، شارع القنوات المؤدي إلى قيادة الشرطة، ساحة السبع بحرات ومركز أمن الدولة في كفرسوسة، جميعها بقعٌ سبق أن استُهدفت، لكنها نفضت عنها ركام التفجير لتعود كما كانت. تفجيرات لن يلحظ الزائر أثراً لها، لكنّ أهل المدينة صاروا يتجنّبون مراكز الأمن هنا للحؤول دون تضررهم إن أُعيد استهدافها. أمّا طريق المطار فقصة أُخرى. ينتفض مرافقنا بنحو مفاجئ لتنبيهنا من سلوكه. يُخبرنا أنّه عُرضة للقنص أحياناً، مطلقاً على مسامعنا تسمية «طريق الموت». هنا بوابة الميدان، معقل الثورة في بدايتها. المنطقة التي «كان تُجّارها يذبحون الجمال لرئيس الجمهورية، لكنّ بعض أهلها بين ليلة وضُحاها انقلب عليه».

ليس صحيحاً كل ما يُحكى عن ارتفاع في الأسعار. أما أكثر ما يشد انتباهك، فهو تسمّر معظم المواطنين لمتابعة البرنامج الفنّي «Arab Idol» أو مباراة في كرة القدم. قلّما تجد هنا مطعماً يُتابع محطّة إخبارية. تطلب في أحد المطاعم تغيير القناة، فيعتذر إليك المدير «منعاً لإثارة الحساسيات»، لكن يبقى الاستماع إلى خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في سورية له نكهة خاصّة. يُخبرنا مرافقنا أن سماء دمشق ستشتعل بالرصاص عند بدء «القائد» خطابه، علماً أن «القائد» هنا حمّالة أوجه، فتُستعمل أحياناً للإشارة إلى الرئيس الأسد وأحياناً أُخرى للسيد نصر الله. وبالفعل، لا يكاد يُنهي الرجل كلمته حتى تسمع دوي إطلاق الرصاص. تعلم أن «معظم مطلقي النار هم من شاغلي الحواجز الأمنية». يُخبرنا أن هناك «أمراً عسكرياً بتجنّب إطلاق النار منعاً لتوتير المدينة»، لكنه يشير إلى أنّ «بعض العناصر تحيّي بعضها وتُعذر استثنائياً ما دامت أرادت الابتهاج بخطاب القائد».

ميدانياً، ما يصحّ في الشام لا يصحّ في ريفها. لم يتمكن الجيش السوري من فرض سيطرته الكاملة بعد على مناطقه. لا يزال هناك اشتباكات مسلّحة في معظم المناطق المحاذية لدمشق. خطوط التماس هنا عديدة. كفرسوسة اللوّان وداريا وحرستا ودُمّر والهامة وقُدسية. ورغم ذلك، تؤكد المصادر الأمنية أنّ «الغوطة الشرقية في يد النظام، باستثناء بعض الجيوب الواقعة بين فكي كمّاشة». وتشير المصادر إلى أنّ «القرار لم يُتّخذ بتنظيفها بعد. ويؤخر من ذلك عديد الجيش السوري الذي لا يمكّنه من أن يكون موجوداً على كافة الجبهات في وقت واحد». وهنا أيضاً بساتين برزة التي تشهد مواجهات عنيفة بين مسلّحي المعارضة والجيش السوري. يشدّ انتباهك هنا جرأة وحماسة ضابط قل نظيرها. فالرجل الذي يقود المعارك هنا تعرّض للإصابة وبُترت أطراف يده، لكنّه أبى أن ينسحب من المعركة. ضمّد الممرّض يده، ثم التحق مجدداً ليُكمل القتال. المعركة هنا تحوّلت شخصية. دافع الضابط هذا لا يُشبه دوافع كثير من الضباط السوريين الذين باعوا أنفسهم لمن يدفع أكثر. «نُدافع عن المعلّم الكبير وسوريا. هما أغلى من أرواحنا». و«المعلّم الكبير» هنا هو الرئيس الأسد. يُخبرنا المرافق أن الضابط المذكور سبق أن أصيب في معارك داريا برصاصة في قدمه، لكنّه رفض الانسحاب وكاد يُقتل لولا أن شُحط شحطاً من الميدان».

  • فريق ماسة
  • 2013-05-29
  • 9406
  • من الأرشيف

دمشق تستعيد حــياتها... وسط البنادق

في الطريق إلى الشام، تُطالعك أعلام سورية وحواجز أمنية وأعمدة موت ودخان ترتفع في الأفق البعيد ناسجة ألف قصة وقصة. أمّا في قلب العاصمة، فأسوار حصينة رُفعت، وأجهزة أمنية استُنفرت وإصبع جاهزة على الزناد. لم تتغيّر دمشق. شبح الحرب لم يمحُ معالمها. لا تزال على حالها، لا بل أكثر جاذبية لما تختزنُه من حضارة وتاريخ. عاصمة الأمويين تبدو هذه الأيام، رغم جراحها، أكثر صلابة. الحياة هنا شبه عادية وزحمة المارة تبدو طبيعية. لا صحّة لمعظم ما يتردد عن توتّرات أمنية، باستثناء أعمدة الدخان المتصاعدة في الأفق، وصدى انفجارات يخرق هدوءها بين حين وآخر، لكنه لا يُعكّر صفوَ قاطنيها. إذ يبدو هؤلاء، لوهلة، كمن اعتادت أسماعهم أصواتها، فصرت تخالها خلفية موسيقية ترافق إيقاع حياتهم اليومي. لم نكن قد دخلنا الأراضي السورية رسمياً، لكن في أراضي «NO MAN›S LAND»،. أمّا بين المصنع والمزة، فتلك قصّةٌ أُخرى. هناك تكون قد أصبحت فعلاً في الأراضي السورية. تجتاز ثمانية حواجز أمنية، لا يُغادر عناصرها كبيرة ولا صغيرة. يُفتّشون جميع سيارات المارّة ويُدقّقون في هويات راكبيها. لا مفرّ إلا لأصحاب «الخط العسكري» الذي يُجنّبهم الانتظار في زحمة السير أحياناً. وأحياناً أُخرى يكون بلا جدوى لدى حاجزٍ أراد شاغله أن يطمئن قلبه فقرر تفتيش الجميع من دون استثناء. الحواجز الممتدة على طول الطريق المؤدي إلى العاصمة، لا تُشبه تلك الموجودة داخلها. يُحكى عن أكثر من ألفي حاجز أمني حوّلوا دمشق إلى ثكنة عسكرية. عند كلّ مفترق طُرق وفي كل زاوية في الشام، يُطالعك حاجزٌ عسكري. يشغله أربعة أو خمسة عناصر. يُدققون في الهوية ويُفتّشون السيارات. كل سيّارة. وأحياناً كثيرة يتفحّصون وجهك أكثر من تفحّصهم أوراقك الثبوتية. كثافة الحواجز المنتشرة هنا تولّد لديك قناعة بأنّ «دخول دمشق لو كان شبه ممكن، فبالتأكيد سيكون الخروج منها أكثر من مستحيل». ولدى الاستفسار عن الأخبار التي جرى تداولها عن اشتباكات وقعت في غربي المالكي أو باب توما وغيرها من مناطق الشام، والتي أُرفقت بمعلومات عن تمكّن مسلحين من السيطرة على حواجز أمنية فيها، فيؤكّدها مرافقنا الذي يحكي عن خلايا نائمة ومجموعات مسلّحة كانت تتسلل من أحد المباني لتُهاجم حاجزاً معيناً وتقتل عناصره، لكنّ أفرادها لا يلبثون أن يُقتلوا بأجمعهم. يتحدّث مرافقنا عن «أكثر من هجوم وقع داخل الشام وتكرر بالأسلوب نفسه، لكنّ منفّذيه لاقوا الحتف نفسه». يكشف الرجل أن «هذه الحوادث خلقت توتراً وحالة من الهلع في صفوف المدنيين»، لكنّه يشير إلى أنّها «توقّفت منذ أكثر من شهرين بعد تمكن الأجهزة الأمنية من القضاء على معظم الخلايا النائمة». لا تُشبه الشام نفسها ليلاً. زحمة النهار يمحوها الليل، لكنّها لا تنعدم. فمقولة «الشام لا تنام» لا تزال تصحّ هنا. لا تزال المقاهي تعجّ بروّادها، لكن يغلب عليها العنصر الذكوري. في الطريق إلى كفرسوسة التي تقع على تماس مع داريا، تقترب من رائحة الموت. فالمنطقة هناك شهدت أقسى المواجهات قبل أن يُسيطر النظام على معظمها. أما شارع الحمرا المسمّى «قلب الشام النابض»، فيسكت ليلاً. هنا أكثر من موقع شهد «تفجيراً إرهابياً»، لكن يستحيل أن تلاحظ أمراً غير طبيعي. «المتحلّق» الجنوبي لدمشق، جامع الإيمان، شارع القنوات المؤدي إلى قيادة الشرطة، ساحة السبع بحرات ومركز أمن الدولة في كفرسوسة، جميعها بقعٌ سبق أن استُهدفت، لكنها نفضت عنها ركام التفجير لتعود كما كانت. تفجيرات لن يلحظ الزائر أثراً لها، لكنّ أهل المدينة صاروا يتجنّبون مراكز الأمن هنا للحؤول دون تضررهم إن أُعيد استهدافها. أمّا طريق المطار فقصة أُخرى. ينتفض مرافقنا بنحو مفاجئ لتنبيهنا من سلوكه. يُخبرنا أنّه عُرضة للقنص أحياناً، مطلقاً على مسامعنا تسمية «طريق الموت». هنا بوابة الميدان، معقل الثورة في بدايتها. المنطقة التي «كان تُجّارها يذبحون الجمال لرئيس الجمهورية، لكنّ بعض أهلها بين ليلة وضُحاها انقلب عليه». ليس صحيحاً كل ما يُحكى عن ارتفاع في الأسعار. أما أكثر ما يشد انتباهك، فهو تسمّر معظم المواطنين لمتابعة البرنامج الفنّي «Arab Idol» أو مباراة في كرة القدم. قلّما تجد هنا مطعماً يُتابع محطّة إخبارية. تطلب في أحد المطاعم تغيير القناة، فيعتذر إليك المدير «منعاً لإثارة الحساسيات»، لكن يبقى الاستماع إلى خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في سورية له نكهة خاصّة. يُخبرنا مرافقنا أن سماء دمشق ستشتعل بالرصاص عند بدء «القائد» خطابه، علماً أن «القائد» هنا حمّالة أوجه، فتُستعمل أحياناً للإشارة إلى الرئيس الأسد وأحياناً أُخرى للسيد نصر الله. وبالفعل، لا يكاد يُنهي الرجل كلمته حتى تسمع دوي إطلاق الرصاص. تعلم أن «معظم مطلقي النار هم من شاغلي الحواجز الأمنية». يُخبرنا أن هناك «أمراً عسكرياً بتجنّب إطلاق النار منعاً لتوتير المدينة»، لكنه يشير إلى أنّ «بعض العناصر تحيّي بعضها وتُعذر استثنائياً ما دامت أرادت الابتهاج بخطاب القائد». ميدانياً، ما يصحّ في الشام لا يصحّ في ريفها. لم يتمكن الجيش السوري من فرض سيطرته الكاملة بعد على مناطقه. لا يزال هناك اشتباكات مسلّحة في معظم المناطق المحاذية لدمشق. خطوط التماس هنا عديدة. كفرسوسة اللوّان وداريا وحرستا ودُمّر والهامة وقُدسية. ورغم ذلك، تؤكد المصادر الأمنية أنّ «الغوطة الشرقية في يد النظام، باستثناء بعض الجيوب الواقعة بين فكي كمّاشة». وتشير المصادر إلى أنّ «القرار لم يُتّخذ بتنظيفها بعد. ويؤخر من ذلك عديد الجيش السوري الذي لا يمكّنه من أن يكون موجوداً على كافة الجبهات في وقت واحد». وهنا أيضاً بساتين برزة التي تشهد مواجهات عنيفة بين مسلّحي المعارضة والجيش السوري. يشدّ انتباهك هنا جرأة وحماسة ضابط قل نظيرها. فالرجل الذي يقود المعارك هنا تعرّض للإصابة وبُترت أطراف يده، لكنّه أبى أن ينسحب من المعركة. ضمّد الممرّض يده، ثم التحق مجدداً ليُكمل القتال. المعركة هنا تحوّلت شخصية. دافع الضابط هذا لا يُشبه دوافع كثير من الضباط السوريين الذين باعوا أنفسهم لمن يدفع أكثر. «نُدافع عن المعلّم الكبير وسوريا. هما أغلى من أرواحنا». و«المعلّم الكبير» هنا هو الرئيس الأسد. يُخبرنا المرافق أن الضابط المذكور سبق أن أصيب في معارك داريا برصاصة في قدمه، لكنّه رفض الانسحاب وكاد يُقتل لولا أن شُحط شحطاً من الميدان».

المصدر : الماسة السورية/ رضوان مرتضى


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة