الجنوب مجدداً في ظلال «شهداء حزب الله». تنتشر صورهم في كل مدينة وقرية. إذا أردت معرفة الصوت المعارض لمشاركة الحزب في معارك سوريا، فعليك البحث عنه. أما الغالبية فهي مع المعركة، لأنها تعتبرها معركة دفاع عن الوجود، لكن هذه المرة على الأرض السورية.

جميع الذين جرت مقابلتهم في هذا التحقيق، تم اختيارهم عشوائياً، وبالصدفة، سواء في المنازل أو في السوق، أو في أماكن العمل، باستثناء منازل «شهداء الحزب» التي دخلتها «السفير» للمرة الأولى، منذ قرار الحزب دخول أرض المعركة.

في منازل «الشهداء»، تستعيد حرب تموز، في الهدف الذي يحددونه وهو حماية المقاومة، كما في إعلان الفداء للسيد حسن نصر الله، وفي الاستعداد لتقديم المزيد من الأبناء، كأنها أرض لا تحيا ولا تبقى.. إلا بالدماء.تنطلق من صيدا في اتجاه إقليم التفاح، فتجد في كل قرية تقريبا «شهيداً». في منزل أشرف حسن عياد من بلدة كفرحتى، يفاجأ الجميع بوجود الصحافة، يمتنعون عن الكلام، ثم تأتي الموافقة تباعاً. «استشهد أشرف في سوريا يوم الاثنين الماضي»، تقول شقيقته إن «معركتنا الأولى مع الإسرائيليين، واليوم معركتنا دفاعاً عن الإمام الحسين والسيدة زينب». ويعني ذلك في العقيدة الشيعية أنها المعركة الأكبر والأهم. تضيف: «إن الذين يقاتلهم شبابنا في سوريا هم ضد فلسطين، وضد مقدساتنا، ولن نسكت إزاء تهديداتهم. معركتنا هي معركة دفاع عن المقدسات، وليس عن الرئيس السوري بشار الأسد».

يرفض عدد من سكان كفرحتى الحديث في موضوع معارك سوريا، قبل أن يقرر أبو عبد الله صاحب احد المحال الحديث، فيقول إن «رجال حزب الله يقاتلون في سوريا عملاء إسرائيل، والعميل أشد عداوة من العدو المباشر والواضح. هؤلاء يريدون القضاء على المقاومة والقضية الفلسطينية، ونحن عقيدتنا الوصول إلى القدس والصلاة فيها». ترد زوجته: «ما يهمنا هو العيش بسلام في بلدنا، واتفاق الناس مع بعضهم، فكما يأتي الغرباء إلى عندنا، نحن لدينا أبناء في الغربة، ويهمنا السلم والتوافق».

في كفرملكي يرى الشاب حسن حمدان أن «معارك سوريا لا بد منها، لأنهم عندما ينتهون من سوريا سيأتون إلى لبنان، هناك خطة مرسومة ومجهزة منذ وقت طويل، للقضاء على سوريا ومن ثم لبنان». يقر بأنه كان لدى السوريين مشكلة في حرية التعبير، لكن في المقابل، «تؤمن الدولة لهم التعليم والطبابة مجاناً». ويردف مازحا: «أنا على استعداد للامتناع عن حرية التعبير، إذا تم تأمين التعليم والطبابة لأفراد أسرتي». يتابع: «البطالة التي يواجهها السوريون موجودة في كل بلاد العالم». ثم يستدرك: «النظام السوري ليس ملاكا، لكنه أفضل من كثير من الأنظمة، وعلينا عدم النسيان أن سوريا ليست بلدا أوروبيا، وإنما هي في قلب الصراع مع إسرائيل، ولا يمكن اللعب بأمنها».

ويرى صديقه أن «الحزب يدافع عن سوريا في وجه القرار الدولي بإضعاف المقاومة، وتفتيت سوريا، وهناك المقامات الدينية، من المستحيل التخلي عنها». ويوضح أن «من يقاتل في سوريا حاليا هم من المرتزقة والسلفيين الذين جرى تجميعهم من دول عدة، بالإضافة إلى الجيش السوري الحر، وقد فهم الشعب السوري اللعبة، وأصبح 80 في المئة منه ضد المعارك».

يتابع: «إذا لم يكن الشعب السوري مؤيداً لبشار الأسد، فلماذا لم ينقسم الجيش السوري؟ ويجيب: السوريون مع الحرية، ولكن ليس بهذه الطريقة».

 

الحرية

 

في جباع، يقول طبيب إن «العمل السياسي دَين ووفاء بالدين. لقد ساعدت سوريا المقاومة وهي حالياً في المأزق، إذاً سترد لها المقاومة الجميل. أما إذا نظرنا إلى الأمر من زاوية أكثر اتساعا فإن المعركة في سوريا حالياً هي معركة دولية بين محورين». يضيف: «بالتأكيد يوجد في سوريا مظلومون، لكن موقع النظام في سوريا بالنسبة إلى أهالي الجنوب يختلف عما يراه المعارضون له، لقد ساعدنا ضد إسرائيل، عليهم أن يفهموا علينا. الثورة من حق الشعوب ولكن ليس إلى حد ذهاب الضحايا».

ويرى حسان محيي الدين من جباع أن «الناس العاديين لا يعرفون ما يحصل في الشرق الأوسط. هناك مشروع دولي لتقسيم سوريا، وما يحصل فيها استمرار لحرب تموز». ويعتبر «أن جزءا من المعارضة السورية يريد تغيير نهج النظام والحصول على الحرية والديموقراطية». وقد أعطى بشار الأسد برأيه الحرية للسوريين عبر فتح المجال لوجود الانترنت، وإصدار عفو عن الإخوان المسلمين، كما يمكن السماح بتشكيل الأحزاب السياسية ضمن ضوابط، لأننا في حالة صراع مع إسرائيل. «لكن جزءا آخر من المعارضة لا يريد الحرية، وإنما يريد رأس بشار الأسد. وكما يوجد في لبنان طائفية، تجري المحاولات لجعل سوريا كيانات طائفية».

وتنقل سيدة ما يتردد من كلام عن هجوم التكفيريين على لبنان، ثم ترد قائلة: «فشروا». وتضيف: «والله أعطينا أواعينا للنازحين السوريين، تقصد ملابس وأغطية، نحن معهم، ولكننا ضد المتآمرين منهم. السوريون أنفسهم أصبحوا يخافون بعضهم بعضاً، كما يخافون اللبنانيين».

وتروي السيدة أن ناطورا سورياً كان يعمل لدى ابن سلفها في حراسة كاراج لبيع قطع غيار السيارات، لكنه ترك المحل تاركا خلفه ورقة كتب عليها: «أعتذر منك، لم أرد سرقتك، ولكني تعرضت للضغط من أشخاص آخرين، وسرق بضاعة بقيمة ثلاثة آلاف دولار».

ويقول بائع من هونين في سوق جباع الأسبوعي إن الشعب السوري يريد الحرية، لكن ليس بهذه الطريقة، «لقد خدعوا الشعب السوري»، وهو يقاتل من أجل الذين يتآمرون على بلده، وكل سوري ألتقيه أقول له ذلك من دون خجل.

في منزل عباس محمد فرحات في عربصاليم، تقول والدته إن «ولدي استشهد دفاعا عن الأمة كلها». وتروي أنه مقيم مع عائلته في بلدته، وكل مرة كان يذهب فيها إلى الخدمة يودعها. وقد رأته «آخر مرة قبل استشهاده بأربعة أيام»، ذهب إليها وودعها قائلا لها: «ادعي لي بالشهادة يا أمي»، فردت: «روح الله يرضى عليك، نحن فداء أهل البيت». تضيف والدة فرحات: «لقد عدنا نجدد كربلاء، والسيدة زينب لن تسبى مرة ثانية، سندافع عن آل بيت النبي حتى آخر قطرة دم فينا، هنيئا لابني على شهادته».

وترى جارتها أن المعركة في سوريا لم تعد ضد النظام السوري، وإنما أصبحت ضد من يقاوم إسرائيل. وكل من يستشهد من المقاومين في سوريا، كأنه استشهد ضد إسرائيل.

 

أبرز الوصايا

 

في حاروف، «استشهد» حسين عبد المنعم جرادي، منذ ثلاثة أسابيع، وفي جارتها جبشيت «استشهد» حسن نصر الدين، ثم عبد حسن عيسى. وقد كتب على مدخل بلدة حاروف، لافتة كبيرة جاء فيها: حاروف تشاطر جبشيت في عرس شهيدها حسن نصر الدين.

يبلغ عبد من العمر ثلاثة وثلاثين عاما، زوجته واسمها حلوة، فلسطينية سورية، لكن أمها لبنانية من جبشيت. تقول حلوة بكلمات قليلة وصوت مبحوح إنها تعرفت إلى عبد لدى زيارتها جدتها لأمها. كان ذلك منذ أحد عشر عاماً، التقت به لدى زيارته شقيقته جارة جدتها، ولحق بها إلى الطريق العام عصر ذلك اليوم، عندما كانت تتمشى مع شقيقتها. قدم لها علبة علكة فأخذتها منه، وبدأت قصة حب، انتهت بالزواج. لديها منه ثلاثة أطفال، أكبرهم علي في التاسعة، وأوسطهم طفلة في الرابعة من العمر، مشت في جنازة والدها، وأخذت تلوح له بيدها الصغيرة، وتقول: «باي يا بابا»، وتبكي الجموع. أما أصغرهم فطفلة عمرها سنة وثمانية أشهر، فطمتها أمها، بسبب حزنها.

تذهب حلوة كل يوم إلى ضريح زوجها، وتحدثه بما يحصل معها. توضح أن المرة الأخيرة التي اتصل فيها كانت عند السابعة والثلث من صباح الاثنين الماضي، وقال لها: «ديري بالك على الأولاد»، فشعرت بأن أمراً ما يحصل، لكنها لم تكن تعرف أنه يشارك في معركة القصير. يقول طفله علي: «أعرف أن أبي استشهد، وذهب إلى الجنة. وأنا سأكمل تعليمي، وأكون مسؤولاً عن أمي وشقيقتي».

ينفي ثلاثة رجال من جبشيت الاعتداء على السوريين، ويؤكدون أن أي اعتداء هو مشكلة فردية، لأنه يوجد قرار صارم من «حزب الله»، بحماية السوريين في الجنوب، وجبشيت هي أحد معاقل الحزب.

 

«لم نختر المعركة»

 

في مدينة صور، كان يقام «التبريك عن روح الشهيد» محمد جهاد يوسف سراج، في المدرسة الدينية، وقد علقت لافتة عند مدخل المدرسة كتب عليها: «من الحسين إلى زينب جهاد وشهادة».

يساعد علي، صديق محمد، وعمره اثنان وعشرون عاما، في واجبات «التبريك»، بوسامته وابتسامته. يقول إن الجماعات التي تقاتل في سوريا، ستأتي إلى هنا، وقد أخبره رفاقه أن نسبة المقاتلين السوريين في القصير، لا تشكل 15 في المئة من مجمل المقاتلين، والبقية من جنسيات مختلفة.

يبلغ محمد السابعة والعشرين من العمر، وقد تفرغ في الحزب بعد إنهائه صف البريفيه، وهو متزوج، ولديه صبي في الثالثة من عمره، وطفلة في شهرها السابع.

يتحدث والده بطلاقة قائلاً إن ولده «استشهد في معركة محاربة عملاء إسرائيل الذين يتلطون تحت اسم الإسلام، لكنهم يكفرون كل من ليس معهم، سواء كانوا من أهل السنة أو الشيعة أو مسيحيين، بدليل أنهم لم يراعوا حرمة القبور». يضيف: «أسمع كلاما كثيراً أن هذه المعركة ليست معركتنا، هذه حرب فرضت علينا ولم نخترها، بدليل الآية الكريمة: كتب عليكم القتال وهو كره لكم. نحن نقاتل مكرهين للدفاع عن أنفسنا. حزب الله لا يستعدي السوريين، على العكس، ولكن يوجد كثير من السوريين الذين غرر بهم، واعتقدوا أن المسألة مسألة حرية، ثم اكتشفوا الحقيقة. هناك معارضة سورية تريد الإصلاحات ونحن معها، ولكن معارضة الخارج لا توافق. المعارضة النظيفة في الداخل توافق على التفاوض مع النظام، لكنها تخضع لضغوط معارضة الخارج».

ويرى أن «بشار الأسد يريد انتخابات حرة ونزيهة وبمراقبة دولية، ومن يأت رئيساً لسوريا فليحكمها». ويعتبر أن «الشعب السوري لا يستعدي حزب الله، وإنما يستعديه الذين يريدون تفتيت سوريا، وتفجير السيارات المفخخة في المساجد والكنائس، كما يفعلون حاليا». ويسأل: «كيف يمكن للشعب السوري النظيف النظر إلى الإرهابيين، بوصفهم طلاب حرية وتغيير؟».

ويروي والد محمد أن الأنفاق التي تم اكتشافها في القصير محفورة قبل بدء الانتفاضة في سوريا، فقد دعمت دول خليجية بناءها تحت عنوان أنها بنى تحتية في سوريا، وقد تحولت هذه البنى أنفاقاً. نعم يقول والد محمد إن «الولد هو روح أهله، ولكن لنا في الامام الحسين أسوة حسنة».

عند شاطئ صور، تقول طالبة جامعية تدرس إدارة الأعمال: «لولا الحزب لكانت إسرائيل في عقر دارنا». وتعتبر أن «الجنوبيين المعارضين دخول الحزب في معركة القصير قلة، لأن من يقاتل في القصير ليس السوريين، وإنما من الشيشان والأفغان والليبيين وغيرهم».

ويرى الطالب في هندسة الاتصالات هاشم طفلة، «انهم يريدون وضعنا بين فكي الكماشة، إسرائيل من جهة، ومن التكفيريبن في سوريا من جهة ثانية، فينزعون السلاح، ولا يبقى لنا سوى البحر نغرق فيه». يضيف: «أنا لست منتسباً إلى الحزب، لكن إذا طلب مني المشاركة في المعركة فسألبي طلبه، زهرة شبابنا يشاركون في المعركة لكي نعيش بكرامة، فلماذا لا أكون واحدا منهم؟ ويردف: «في صور السنة والشيعة ضد التكفيريين».

 

المقام

 

في القليلة، هذا خليل قاسم نصر الله، «أصغر الشهداء عمراً». اثنان وعشرون عاما. وقد امتد موكب تشييعه على مسافة كيلومترين تقريبا. يعلق أهله صوره بالملابس العسكرية، ويقول والده إن «هذه الصور أراها للمرة الأولى، قاسم، ابني البكر، ولد في ألمانيا حيث كنت أُعالج من إصابتي أثناء خدمتي بالجيش، وعندما بدأ ينطق الألمانية قررت العودة إلى لبنان.

كان قاسم متفرغاً في الحزب، ويعمل مع والده في الوقت نفسه في بستان الليمون، ومزرعة الدواجن. المرة الأخيرة التي رآه فيها كانت قبل حصول معركة القصير بيومين. يقول والده إن «قاسم خدم ستة أشهر في مقام السيدة زينب في دمشق: اخبرني كيف وصل إلى المقام، وصعد إلى القبة العالية، عبر ربطه بالحبل، ووضع عليها راية العباس، كما مسح الغبار عن المقام بقطعة قماش خضراء، أهداني وأمه قطعة منها، وربط القطعة الأخرى في يده حتى استشهد. وقبل أن يستشهد أرسل لي سلسلة من مقام الإمام علي الرضا. وتسلمت السبحة التي كان يسبح فيها أثناء الصلاة». يضيف الوالد: «لقد أوصى ابني رفاقه قائلاً: كل من يعود منكم سالماً، فليذهب إلى والدي ويقول له: أنا ابنك. وقد جاؤوا أثناء التشييع، وركعوا عند قدمي يريدون تقبيلهما، لكني رفضت، وقلت لهم: أنا من يجب عليه تقبيل أقدامكم».

كان والد قاسم متفرغا في الجيش اللبناني، وقد أهدى ابنه بدلته، بعد تقاعده، قاتل فيها قاسم في القصير، وينتظر تسليمه البدلة العسكرية. وفي غرفة نومه، وضع أهله سلاحه على سريره، وتقول أمه إنه لم يكن يدخل الغرفة سواها، كان قاسم يرتبها ويمسح الغبار عنها، ويقول لها: لو سمحت يا أمي امسحي أرض الغرفة فقط.

يعتبر الوالد أن المعركة التي خاضها ولده هي «ضد آكلي لحوم البشر الذين لا دين لهم ولا هوية، ولا طائفة»، مضيفا: نحن من يريد الحفاظ على العيش المشترك بين المسلمين من كل المذاهب وبين المسيحيين من كل المذاهب. نحن لا نقاتل من أجل بشار الأسد، وإنما ندافع عن سوريا كل سوريا، ضد آكلي لحوم البشر الذين يزداد عددهم على قدر ما تدفع لهم السعودية وقطر». ويوضح أنه يوجد في القليلة مئتان وعشرون عائلة سوريا «نطعمهم ونسقيهم فنحن الرحماء، نحمي ضيوفنا»، وقد جاء عدد من العائلات السورية لتقديم واجب العزاء له.

ثم يوجه كلامه إلى السيد حسن نصر الله قائلا: «لن يأتي يوم تقول فيه هل من ناصر ينصرنا، ونحن على قيد الحياة، إذ كنت تريد المزيد، فاطلب ونحن نلبي».

  • فريق ماسة
  • 2013-05-26
  • 11281
  • من الأرشيف

في منازل «شهداء» معارك سورية:«حزب الله» يقاتل دفاعاً عن المقاومة لا عن الأسد

الجنوب مجدداً في ظلال «شهداء حزب الله». تنتشر صورهم في كل مدينة وقرية. إذا أردت معرفة الصوت المعارض لمشاركة الحزب في معارك سوريا، فعليك البحث عنه. أما الغالبية فهي مع المعركة، لأنها تعتبرها معركة دفاع عن الوجود، لكن هذه المرة على الأرض السورية. جميع الذين جرت مقابلتهم في هذا التحقيق، تم اختيارهم عشوائياً، وبالصدفة، سواء في المنازل أو في السوق، أو في أماكن العمل، باستثناء منازل «شهداء الحزب» التي دخلتها «السفير» للمرة الأولى، منذ قرار الحزب دخول أرض المعركة. في منازل «الشهداء»، تستعيد حرب تموز، في الهدف الذي يحددونه وهو حماية المقاومة، كما في إعلان الفداء للسيد حسن نصر الله، وفي الاستعداد لتقديم المزيد من الأبناء، كأنها أرض لا تحيا ولا تبقى.. إلا بالدماء.تنطلق من صيدا في اتجاه إقليم التفاح، فتجد في كل قرية تقريبا «شهيداً». في منزل أشرف حسن عياد من بلدة كفرحتى، يفاجأ الجميع بوجود الصحافة، يمتنعون عن الكلام، ثم تأتي الموافقة تباعاً. «استشهد أشرف في سوريا يوم الاثنين الماضي»، تقول شقيقته إن «معركتنا الأولى مع الإسرائيليين، واليوم معركتنا دفاعاً عن الإمام الحسين والسيدة زينب». ويعني ذلك في العقيدة الشيعية أنها المعركة الأكبر والأهم. تضيف: «إن الذين يقاتلهم شبابنا في سوريا هم ضد فلسطين، وضد مقدساتنا، ولن نسكت إزاء تهديداتهم. معركتنا هي معركة دفاع عن المقدسات، وليس عن الرئيس السوري بشار الأسد». يرفض عدد من سكان كفرحتى الحديث في موضوع معارك سوريا، قبل أن يقرر أبو عبد الله صاحب احد المحال الحديث، فيقول إن «رجال حزب الله يقاتلون في سوريا عملاء إسرائيل، والعميل أشد عداوة من العدو المباشر والواضح. هؤلاء يريدون القضاء على المقاومة والقضية الفلسطينية، ونحن عقيدتنا الوصول إلى القدس والصلاة فيها». ترد زوجته: «ما يهمنا هو العيش بسلام في بلدنا، واتفاق الناس مع بعضهم، فكما يأتي الغرباء إلى عندنا، نحن لدينا أبناء في الغربة، ويهمنا السلم والتوافق». في كفرملكي يرى الشاب حسن حمدان أن «معارك سوريا لا بد منها، لأنهم عندما ينتهون من سوريا سيأتون إلى لبنان، هناك خطة مرسومة ومجهزة منذ وقت طويل، للقضاء على سوريا ومن ثم لبنان». يقر بأنه كان لدى السوريين مشكلة في حرية التعبير، لكن في المقابل، «تؤمن الدولة لهم التعليم والطبابة مجاناً». ويردف مازحا: «أنا على استعداد للامتناع عن حرية التعبير، إذا تم تأمين التعليم والطبابة لأفراد أسرتي». يتابع: «البطالة التي يواجهها السوريون موجودة في كل بلاد العالم». ثم يستدرك: «النظام السوري ليس ملاكا، لكنه أفضل من كثير من الأنظمة، وعلينا عدم النسيان أن سوريا ليست بلدا أوروبيا، وإنما هي في قلب الصراع مع إسرائيل، ولا يمكن اللعب بأمنها». ويرى صديقه أن «الحزب يدافع عن سوريا في وجه القرار الدولي بإضعاف المقاومة، وتفتيت سوريا، وهناك المقامات الدينية، من المستحيل التخلي عنها». ويوضح أن «من يقاتل في سوريا حاليا هم من المرتزقة والسلفيين الذين جرى تجميعهم من دول عدة، بالإضافة إلى الجيش السوري الحر، وقد فهم الشعب السوري اللعبة، وأصبح 80 في المئة منه ضد المعارك». يتابع: «إذا لم يكن الشعب السوري مؤيداً لبشار الأسد، فلماذا لم ينقسم الجيش السوري؟ ويجيب: السوريون مع الحرية، ولكن ليس بهذه الطريقة».   الحرية   في جباع، يقول طبيب إن «العمل السياسي دَين ووفاء بالدين. لقد ساعدت سوريا المقاومة وهي حالياً في المأزق، إذاً سترد لها المقاومة الجميل. أما إذا نظرنا إلى الأمر من زاوية أكثر اتساعا فإن المعركة في سوريا حالياً هي معركة دولية بين محورين». يضيف: «بالتأكيد يوجد في سوريا مظلومون، لكن موقع النظام في سوريا بالنسبة إلى أهالي الجنوب يختلف عما يراه المعارضون له، لقد ساعدنا ضد إسرائيل، عليهم أن يفهموا علينا. الثورة من حق الشعوب ولكن ليس إلى حد ذهاب الضحايا». ويرى حسان محيي الدين من جباع أن «الناس العاديين لا يعرفون ما يحصل في الشرق الأوسط. هناك مشروع دولي لتقسيم سوريا، وما يحصل فيها استمرار لحرب تموز». ويعتبر «أن جزءا من المعارضة السورية يريد تغيير نهج النظام والحصول على الحرية والديموقراطية». وقد أعطى بشار الأسد برأيه الحرية للسوريين عبر فتح المجال لوجود الانترنت، وإصدار عفو عن الإخوان المسلمين، كما يمكن السماح بتشكيل الأحزاب السياسية ضمن ضوابط، لأننا في حالة صراع مع إسرائيل. «لكن جزءا آخر من المعارضة لا يريد الحرية، وإنما يريد رأس بشار الأسد. وكما يوجد في لبنان طائفية، تجري المحاولات لجعل سوريا كيانات طائفية». وتنقل سيدة ما يتردد من كلام عن هجوم التكفيريين على لبنان، ثم ترد قائلة: «فشروا». وتضيف: «والله أعطينا أواعينا للنازحين السوريين، تقصد ملابس وأغطية، نحن معهم، ولكننا ضد المتآمرين منهم. السوريون أنفسهم أصبحوا يخافون بعضهم بعضاً، كما يخافون اللبنانيين». وتروي السيدة أن ناطورا سورياً كان يعمل لدى ابن سلفها في حراسة كاراج لبيع قطع غيار السيارات، لكنه ترك المحل تاركا خلفه ورقة كتب عليها: «أعتذر منك، لم أرد سرقتك، ولكني تعرضت للضغط من أشخاص آخرين، وسرق بضاعة بقيمة ثلاثة آلاف دولار». ويقول بائع من هونين في سوق جباع الأسبوعي إن الشعب السوري يريد الحرية، لكن ليس بهذه الطريقة، «لقد خدعوا الشعب السوري»، وهو يقاتل من أجل الذين يتآمرون على بلده، وكل سوري ألتقيه أقول له ذلك من دون خجل. في منزل عباس محمد فرحات في عربصاليم، تقول والدته إن «ولدي استشهد دفاعا عن الأمة كلها». وتروي أنه مقيم مع عائلته في بلدته، وكل مرة كان يذهب فيها إلى الخدمة يودعها. وقد رأته «آخر مرة قبل استشهاده بأربعة أيام»، ذهب إليها وودعها قائلا لها: «ادعي لي بالشهادة يا أمي»، فردت: «روح الله يرضى عليك، نحن فداء أهل البيت». تضيف والدة فرحات: «لقد عدنا نجدد كربلاء، والسيدة زينب لن تسبى مرة ثانية، سندافع عن آل بيت النبي حتى آخر قطرة دم فينا، هنيئا لابني على شهادته». وترى جارتها أن المعركة في سوريا لم تعد ضد النظام السوري، وإنما أصبحت ضد من يقاوم إسرائيل. وكل من يستشهد من المقاومين في سوريا، كأنه استشهد ضد إسرائيل.   أبرز الوصايا   في حاروف، «استشهد» حسين عبد المنعم جرادي، منذ ثلاثة أسابيع، وفي جارتها جبشيت «استشهد» حسن نصر الدين، ثم عبد حسن عيسى. وقد كتب على مدخل بلدة حاروف، لافتة كبيرة جاء فيها: حاروف تشاطر جبشيت في عرس شهيدها حسن نصر الدين. يبلغ عبد من العمر ثلاثة وثلاثين عاما، زوجته واسمها حلوة، فلسطينية سورية، لكن أمها لبنانية من جبشيت. تقول حلوة بكلمات قليلة وصوت مبحوح إنها تعرفت إلى عبد لدى زيارتها جدتها لأمها. كان ذلك منذ أحد عشر عاماً، التقت به لدى زيارته شقيقته جارة جدتها، ولحق بها إلى الطريق العام عصر ذلك اليوم، عندما كانت تتمشى مع شقيقتها. قدم لها علبة علكة فأخذتها منه، وبدأت قصة حب، انتهت بالزواج. لديها منه ثلاثة أطفال، أكبرهم علي في التاسعة، وأوسطهم طفلة في الرابعة من العمر، مشت في جنازة والدها، وأخذت تلوح له بيدها الصغيرة، وتقول: «باي يا بابا»، وتبكي الجموع. أما أصغرهم فطفلة عمرها سنة وثمانية أشهر، فطمتها أمها، بسبب حزنها. تذهب حلوة كل يوم إلى ضريح زوجها، وتحدثه بما يحصل معها. توضح أن المرة الأخيرة التي اتصل فيها كانت عند السابعة والثلث من صباح الاثنين الماضي، وقال لها: «ديري بالك على الأولاد»، فشعرت بأن أمراً ما يحصل، لكنها لم تكن تعرف أنه يشارك في معركة القصير. يقول طفله علي: «أعرف أن أبي استشهد، وذهب إلى الجنة. وأنا سأكمل تعليمي، وأكون مسؤولاً عن أمي وشقيقتي». ينفي ثلاثة رجال من جبشيت الاعتداء على السوريين، ويؤكدون أن أي اعتداء هو مشكلة فردية، لأنه يوجد قرار صارم من «حزب الله»، بحماية السوريين في الجنوب، وجبشيت هي أحد معاقل الحزب.   «لم نختر المعركة»   في مدينة صور، كان يقام «التبريك عن روح الشهيد» محمد جهاد يوسف سراج، في المدرسة الدينية، وقد علقت لافتة عند مدخل المدرسة كتب عليها: «من الحسين إلى زينب جهاد وشهادة». يساعد علي، صديق محمد، وعمره اثنان وعشرون عاما، في واجبات «التبريك»، بوسامته وابتسامته. يقول إن الجماعات التي تقاتل في سوريا، ستأتي إلى هنا، وقد أخبره رفاقه أن نسبة المقاتلين السوريين في القصير، لا تشكل 15 في المئة من مجمل المقاتلين، والبقية من جنسيات مختلفة. يبلغ محمد السابعة والعشرين من العمر، وقد تفرغ في الحزب بعد إنهائه صف البريفيه، وهو متزوج، ولديه صبي في الثالثة من عمره، وطفلة في شهرها السابع. يتحدث والده بطلاقة قائلاً إن ولده «استشهد في معركة محاربة عملاء إسرائيل الذين يتلطون تحت اسم الإسلام، لكنهم يكفرون كل من ليس معهم، سواء كانوا من أهل السنة أو الشيعة أو مسيحيين، بدليل أنهم لم يراعوا حرمة القبور». يضيف: «أسمع كلاما كثيراً أن هذه المعركة ليست معركتنا، هذه حرب فرضت علينا ولم نخترها، بدليل الآية الكريمة: كتب عليكم القتال وهو كره لكم. نحن نقاتل مكرهين للدفاع عن أنفسنا. حزب الله لا يستعدي السوريين، على العكس، ولكن يوجد كثير من السوريين الذين غرر بهم، واعتقدوا أن المسألة مسألة حرية، ثم اكتشفوا الحقيقة. هناك معارضة سورية تريد الإصلاحات ونحن معها، ولكن معارضة الخارج لا توافق. المعارضة النظيفة في الداخل توافق على التفاوض مع النظام، لكنها تخضع لضغوط معارضة الخارج». ويرى أن «بشار الأسد يريد انتخابات حرة ونزيهة وبمراقبة دولية، ومن يأت رئيساً لسوريا فليحكمها». ويعتبر أن «الشعب السوري لا يستعدي حزب الله، وإنما يستعديه الذين يريدون تفتيت سوريا، وتفجير السيارات المفخخة في المساجد والكنائس، كما يفعلون حاليا». ويسأل: «كيف يمكن للشعب السوري النظيف النظر إلى الإرهابيين، بوصفهم طلاب حرية وتغيير؟». ويروي والد محمد أن الأنفاق التي تم اكتشافها في القصير محفورة قبل بدء الانتفاضة في سوريا، فقد دعمت دول خليجية بناءها تحت عنوان أنها بنى تحتية في سوريا، وقد تحولت هذه البنى أنفاقاً. نعم يقول والد محمد إن «الولد هو روح أهله، ولكن لنا في الامام الحسين أسوة حسنة». عند شاطئ صور، تقول طالبة جامعية تدرس إدارة الأعمال: «لولا الحزب لكانت إسرائيل في عقر دارنا». وتعتبر أن «الجنوبيين المعارضين دخول الحزب في معركة القصير قلة، لأن من يقاتل في القصير ليس السوريين، وإنما من الشيشان والأفغان والليبيين وغيرهم». ويرى الطالب في هندسة الاتصالات هاشم طفلة، «انهم يريدون وضعنا بين فكي الكماشة، إسرائيل من جهة، ومن التكفيريبن في سوريا من جهة ثانية، فينزعون السلاح، ولا يبقى لنا سوى البحر نغرق فيه». يضيف: «أنا لست منتسباً إلى الحزب، لكن إذا طلب مني المشاركة في المعركة فسألبي طلبه، زهرة شبابنا يشاركون في المعركة لكي نعيش بكرامة، فلماذا لا أكون واحدا منهم؟ ويردف: «في صور السنة والشيعة ضد التكفيريين».   المقام   في القليلة، هذا خليل قاسم نصر الله، «أصغر الشهداء عمراً». اثنان وعشرون عاما. وقد امتد موكب تشييعه على مسافة كيلومترين تقريبا. يعلق أهله صوره بالملابس العسكرية، ويقول والده إن «هذه الصور أراها للمرة الأولى، قاسم، ابني البكر، ولد في ألمانيا حيث كنت أُعالج من إصابتي أثناء خدمتي بالجيش، وعندما بدأ ينطق الألمانية قررت العودة إلى لبنان. كان قاسم متفرغاً في الحزب، ويعمل مع والده في الوقت نفسه في بستان الليمون، ومزرعة الدواجن. المرة الأخيرة التي رآه فيها كانت قبل حصول معركة القصير بيومين. يقول والده إن «قاسم خدم ستة أشهر في مقام السيدة زينب في دمشق: اخبرني كيف وصل إلى المقام، وصعد إلى القبة العالية، عبر ربطه بالحبل، ووضع عليها راية العباس، كما مسح الغبار عن المقام بقطعة قماش خضراء، أهداني وأمه قطعة منها، وربط القطعة الأخرى في يده حتى استشهد. وقبل أن يستشهد أرسل لي سلسلة من مقام الإمام علي الرضا. وتسلمت السبحة التي كان يسبح فيها أثناء الصلاة». يضيف الوالد: «لقد أوصى ابني رفاقه قائلاً: كل من يعود منكم سالماً، فليذهب إلى والدي ويقول له: أنا ابنك. وقد جاؤوا أثناء التشييع، وركعوا عند قدمي يريدون تقبيلهما، لكني رفضت، وقلت لهم: أنا من يجب عليه تقبيل أقدامكم». كان والد قاسم متفرغا في الجيش اللبناني، وقد أهدى ابنه بدلته، بعد تقاعده، قاتل فيها قاسم في القصير، وينتظر تسليمه البدلة العسكرية. وفي غرفة نومه، وضع أهله سلاحه على سريره، وتقول أمه إنه لم يكن يدخل الغرفة سواها، كان قاسم يرتبها ويمسح الغبار عنها، ويقول لها: لو سمحت يا أمي امسحي أرض الغرفة فقط. يعتبر الوالد أن المعركة التي خاضها ولده هي «ضد آكلي لحوم البشر الذين لا دين لهم ولا هوية، ولا طائفة»، مضيفا: نحن من يريد الحفاظ على العيش المشترك بين المسلمين من كل المذاهب وبين المسيحيين من كل المذاهب. نحن لا نقاتل من أجل بشار الأسد، وإنما ندافع عن سوريا كل سوريا، ضد آكلي لحوم البشر الذين يزداد عددهم على قدر ما تدفع لهم السعودية وقطر». ويوضح أنه يوجد في القليلة مئتان وعشرون عائلة سوريا «نطعمهم ونسقيهم فنحن الرحماء، نحمي ضيوفنا»، وقد جاء عدد من العائلات السورية لتقديم واجب العزاء له. ثم يوجه كلامه إلى السيد حسن نصر الله قائلا: «لن يأتي يوم تقول فيه هل من ناصر ينصرنا، ونحن على قيد الحياة، إذ كنت تريد المزيد، فاطلب ونحن نلبي».

المصدر : الماسة السورية/ السفير


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة