تخفي معركة طرابلس وراءها كثيراً من المخاوف التي تضعها، والبلاد، على حافة «حرب اهلية»، ليس بالمفهوم الكلاسيكي لها. هكذا يتعاطى سياسيون شماليون مع انفجار طرابلس، وبمثل هذه الخلاصة تنتهي المناقشات السياسية حول المعركة التي تسحب معها الجميع الى الكارثة، التي يغفل عنها سياسيو العاصمة بانصرافهم الى نقاش قانون الانتخاب وتقديم ترشيحاتهم.

حين تُرسم البقع الجغرافية لمناطق التوتر على الورقة يكون لحرب طرابلس معنى آخر. فالحديث عن المدينة على لسان أهلها وعارفيها لا يشبه التنظير السياسي للذين يجهلون ازقتها وحاراتها ومدارسها.

في حرب طرابلس هناك حقيقتان، الاولى يرويها فريق 8 آذار عن المخطط الهادف الى احراج الجيش واخراجه، وعن الدفاع عن اهل جبل محسن ومنع التمدد الاصولي واستهدافه ابناء الشمال وتحويله امارة اسلامية.

والثانية، حقيقة اخرى يرويها سياسيون شماليون وآخرون من 14 آذار. وبين الحقيقتين حرب عنيفة تدور ومعها كل عناصر الازمة الاقليمية. فالمعنيون بأوضاع المدينة يتحدثون عن حرب بالمعنى الحقيقي للكلمة، وعن معركة ارادها حزب الله، لخلق فلتان امني، ليس لتعويض خسارته في القصير فحسب، انما ايضا للتعمية عن عدد الذين سقطوا فيها من عناصره. ويتحدثون ايضاً عن ان الحزب يقف جنباً الى جنب مع ابناء جبل محسن في معركتهم ضد طرابلس، التي تتعرض احياؤها وشوارعها البعيدة عن خطوط التماس التقليدية لاطلاق الرصاص. ويقولون ايضا ان الجيش اللبناني يحمي البعل ويدافع عنه في وجه الذين يحاولون اقتحامه، ويوجه قذائفه نحو التبانة وحدها، وعن ان حزب الله الذي كان يضع حكومة الرئيس نجيب ميقاتي ساترا بينه وبين معارضيه، يحاول بعد استقالة الحكومة وضع الجيش في هذا المكان. مع العلم ان الجيش الذي سقط له اكثر من خمسين جريحاً يحاول منذ اللحظة الاولى عبر اتصالاته وتحركه الميداني لجم العنف، ويسعى إلى منع الاقتتال المذهبي واقتحام جبل محسن، لاسباب تتعلق بخطورة الفرز المذهبي والطائفي.

بالامس عبّر اللواء اشرف ريفي علنا عن حقيقة ما كان يقال في الصفوف الخلفية وبين قادة الشوارع في مدينة طرابلس، الذين يرون ان من خسر في القصير نقل المعركة الى عاصمة الشمال، اي بمعنى آخر النظام السوري وحزب الله.

وفي اول اطلالة سياسية فعلية له، بعد تركه منصب المدير العام لقوى الامن الداخلي اراد ريفي إحداث صدمة في صفوف الحلفاء والخصوم. ومع الاثنين كان الهدف ايقاظ من يعنيهم الامر ان ثمة مسببات للحرب لن يسكت عنها بعد اليوم ابناء المدينة من قوى 14 آذار. وبتعبير آخر، هناك من يتحدث بلغة ابناء الحارات المعدمة، الذين يعيشون على خطوط التماس ويفهم وجعهم، ويعبّر عنهم ويلتقط نبضهم، ليحوّله نبضا مواليا للدولة ومشروعها لا انفصاما عنها. وهذا الوجع معني به ايضا ابناء جبل محسن من رافضي الانجرار وراء مشروع النظام السوري. وهدف الكلام سحب البساط من تحت الجهات التي تحاول تجييش الشارع السني الى غير محلها الحقيقي، وطمأنتها الى الوقوف الى جانبها، والانتقال معها الى حيث يمكن فتح اقنية الحوار والاتصالات.

عكس ريفي ما يدور في الحلقات السياسية من هواجس ومحاذير، ومن مسلمات يتداولها الخاصة من المتابعين:

اولاً، ان معركة طرابلس فتحت كل الجروح القديمة والجديدة. ثمة تعبئة غير مسبوقة عبّرت عن احتقان كبير لدى ابناء الطائفة السنية. وهو الذي عكس نفسه في جزء لا يذكر في صيدا بمنع دفن احد عناصر حزب الله في القصير. فما حدث في صيدا لا يذكر ازاء التعبئة الحقيقية في صفوف ابناء طرابلس، الذين «باتوا يشعرون بالاذلال» بسبب ممارسات من هم وراء جبل محسن، بحسب تعبير إحدى فعاليات طرابلس.

ثانياً، ان قيادات عاصمة الشمال فقدت في اليومين الماضيين قدرتها على التواصل مع زعماء الاحياء ومسؤولي الجبهات. بالنسبة الى فريق 14 آذار لم يعد ابناء المدينة يتجاوبون مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ولا الرئيس الأسبق عمر كرامي ولا حتى مع النائب محمد كباره. فالاحتقان ذهب الى حده الاقصى الذي كاد يضع المدينة بمجملها على كف عفريت. فكان لا بد اذاً من حركة مضادة لاستيعاب الشارع وتطويعه. من هنا تفهم خصوصية كلام ريفي.

ثالثا ان معركة القصير التي تحولت، بحسب تقديرات سياسية، فشلا للنظام السوري، ورفعت الى حد كبير عدد ضحايا حزب الله، بسبب عمليات التفخيخ والمكامن. والمخاوف من اشتداد حدة العنف في القصير في شكل غير مسبوق ارتفعت في الساعات الاخيرة الى الحد الذي جعل ساحة لبنان، ولا سيما شمالا، مفتوحة على احتمالات تسير من السيئ الى الاسوأ. وكذلك فانها قد تشعل احتكاكات مذهبية تفتح الباب امام الخشية المتزايدة من اعمال عنف وتفجيرات تذكر بسنوات الحرب الماضية.

رابعاً ان خطورة ما يجري في طرابلس واحتمال نقل التوترات الى عكار وارتدادات ما حصل امس في اكروم وتداعيات توتر صيدا الدائم، وقد تفتح المجال امام توسع رقعة الاحتكاكات الى البقاع ، ولا سيما ان بعض المسؤولين في 14 آذار اعاد التذكير بما حدث في عرسال، وما كان يعد لتلك المنطقة ابان اشتعال الاحداث السورية.

وهذا كله يستدعي معالجات على مستوى السلطة السياسية والتنسيق مع القيادات العسكرية والامنية، لا على المستوى المحلي فحسب كما يحصل في طرابلس.

اليوم رئيس الجمهورية في وزارة الدفاع، وامس رئيس الحكومة المستقيل في طرابلس... والحرب لا تزال مستمرة.

  • فريق ماسة
  • 2013-05-23
  • 8037
  • من الأرشيف

طرابلس: رؤية «الحرب الأهلية»

تخفي معركة طرابلس وراءها كثيراً من المخاوف التي تضعها، والبلاد، على حافة «حرب اهلية»، ليس بالمفهوم الكلاسيكي لها. هكذا يتعاطى سياسيون شماليون مع انفجار طرابلس، وبمثل هذه الخلاصة تنتهي المناقشات السياسية حول المعركة التي تسحب معها الجميع الى الكارثة، التي يغفل عنها سياسيو العاصمة بانصرافهم الى نقاش قانون الانتخاب وتقديم ترشيحاتهم. حين تُرسم البقع الجغرافية لمناطق التوتر على الورقة يكون لحرب طرابلس معنى آخر. فالحديث عن المدينة على لسان أهلها وعارفيها لا يشبه التنظير السياسي للذين يجهلون ازقتها وحاراتها ومدارسها. في حرب طرابلس هناك حقيقتان، الاولى يرويها فريق 8 آذار عن المخطط الهادف الى احراج الجيش واخراجه، وعن الدفاع عن اهل جبل محسن ومنع التمدد الاصولي واستهدافه ابناء الشمال وتحويله امارة اسلامية. والثانية، حقيقة اخرى يرويها سياسيون شماليون وآخرون من 14 آذار. وبين الحقيقتين حرب عنيفة تدور ومعها كل عناصر الازمة الاقليمية. فالمعنيون بأوضاع المدينة يتحدثون عن حرب بالمعنى الحقيقي للكلمة، وعن معركة ارادها حزب الله، لخلق فلتان امني، ليس لتعويض خسارته في القصير فحسب، انما ايضا للتعمية عن عدد الذين سقطوا فيها من عناصره. ويتحدثون ايضاً عن ان الحزب يقف جنباً الى جنب مع ابناء جبل محسن في معركتهم ضد طرابلس، التي تتعرض احياؤها وشوارعها البعيدة عن خطوط التماس التقليدية لاطلاق الرصاص. ويقولون ايضا ان الجيش اللبناني يحمي البعل ويدافع عنه في وجه الذين يحاولون اقتحامه، ويوجه قذائفه نحو التبانة وحدها، وعن ان حزب الله الذي كان يضع حكومة الرئيس نجيب ميقاتي ساترا بينه وبين معارضيه، يحاول بعد استقالة الحكومة وضع الجيش في هذا المكان. مع العلم ان الجيش الذي سقط له اكثر من خمسين جريحاً يحاول منذ اللحظة الاولى عبر اتصالاته وتحركه الميداني لجم العنف، ويسعى إلى منع الاقتتال المذهبي واقتحام جبل محسن، لاسباب تتعلق بخطورة الفرز المذهبي والطائفي. بالامس عبّر اللواء اشرف ريفي علنا عن حقيقة ما كان يقال في الصفوف الخلفية وبين قادة الشوارع في مدينة طرابلس، الذين يرون ان من خسر في القصير نقل المعركة الى عاصمة الشمال، اي بمعنى آخر النظام السوري وحزب الله. وفي اول اطلالة سياسية فعلية له، بعد تركه منصب المدير العام لقوى الامن الداخلي اراد ريفي إحداث صدمة في صفوف الحلفاء والخصوم. ومع الاثنين كان الهدف ايقاظ من يعنيهم الامر ان ثمة مسببات للحرب لن يسكت عنها بعد اليوم ابناء المدينة من قوى 14 آذار. وبتعبير آخر، هناك من يتحدث بلغة ابناء الحارات المعدمة، الذين يعيشون على خطوط التماس ويفهم وجعهم، ويعبّر عنهم ويلتقط نبضهم، ليحوّله نبضا مواليا للدولة ومشروعها لا انفصاما عنها. وهذا الوجع معني به ايضا ابناء جبل محسن من رافضي الانجرار وراء مشروع النظام السوري. وهدف الكلام سحب البساط من تحت الجهات التي تحاول تجييش الشارع السني الى غير محلها الحقيقي، وطمأنتها الى الوقوف الى جانبها، والانتقال معها الى حيث يمكن فتح اقنية الحوار والاتصالات. عكس ريفي ما يدور في الحلقات السياسية من هواجس ومحاذير، ومن مسلمات يتداولها الخاصة من المتابعين: اولاً، ان معركة طرابلس فتحت كل الجروح القديمة والجديدة. ثمة تعبئة غير مسبوقة عبّرت عن احتقان كبير لدى ابناء الطائفة السنية. وهو الذي عكس نفسه في جزء لا يذكر في صيدا بمنع دفن احد عناصر حزب الله في القصير. فما حدث في صيدا لا يذكر ازاء التعبئة الحقيقية في صفوف ابناء طرابلس، الذين «باتوا يشعرون بالاذلال» بسبب ممارسات من هم وراء جبل محسن، بحسب تعبير إحدى فعاليات طرابلس. ثانياً، ان قيادات عاصمة الشمال فقدت في اليومين الماضيين قدرتها على التواصل مع زعماء الاحياء ومسؤولي الجبهات. بالنسبة الى فريق 14 آذار لم يعد ابناء المدينة يتجاوبون مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ولا الرئيس الأسبق عمر كرامي ولا حتى مع النائب محمد كباره. فالاحتقان ذهب الى حده الاقصى الذي كاد يضع المدينة بمجملها على كف عفريت. فكان لا بد اذاً من حركة مضادة لاستيعاب الشارع وتطويعه. من هنا تفهم خصوصية كلام ريفي. ثالثا ان معركة القصير التي تحولت، بحسب تقديرات سياسية، فشلا للنظام السوري، ورفعت الى حد كبير عدد ضحايا حزب الله، بسبب عمليات التفخيخ والمكامن. والمخاوف من اشتداد حدة العنف في القصير في شكل غير مسبوق ارتفعت في الساعات الاخيرة الى الحد الذي جعل ساحة لبنان، ولا سيما شمالا، مفتوحة على احتمالات تسير من السيئ الى الاسوأ. وكذلك فانها قد تشعل احتكاكات مذهبية تفتح الباب امام الخشية المتزايدة من اعمال عنف وتفجيرات تذكر بسنوات الحرب الماضية. رابعاً ان خطورة ما يجري في طرابلس واحتمال نقل التوترات الى عكار وارتدادات ما حصل امس في اكروم وتداعيات توتر صيدا الدائم، وقد تفتح المجال امام توسع رقعة الاحتكاكات الى البقاع ، ولا سيما ان بعض المسؤولين في 14 آذار اعاد التذكير بما حدث في عرسال، وما كان يعد لتلك المنطقة ابان اشتعال الاحداث السورية. وهذا كله يستدعي معالجات على مستوى السلطة السياسية والتنسيق مع القيادات العسكرية والامنية، لا على المستوى المحلي فحسب كما يحصل في طرابلس. اليوم رئيس الجمهورية في وزارة الدفاع، وامس رئيس الحكومة المستقيل في طرابلس... والحرب لا تزال مستمرة.

المصدر : الماسة السورية/ هيام القصيفي


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة