يصح القول في الديبلوماسية الإيرانية انها ديبلوماسية اقتحامية تقوم على مبدأين متوازيين. الأول، إحكام العلاقة مع الصديق، ورفعها إلى مستوى التحالف الاستراتيجي وما يفرضه من التزامات، وينجم عن ذلك تشكيل جبهة صلبة ليست قادرة على الصمود فقط، لكنها قادرة أيضاً على الاتساع باكتساب شركاء جدد في عالم يتغير بشكل متسارع.

أما المبدأ الثاني، فهو السعي إلى إيجاد موطئ قدم في العلاقة مع الأطراف غير الحليفة، سواء بالحفاظ على مواقع الأقدام القائمة، أو بإيجاد مواقع أقدام جديدة، وعدم السماح لما هو سلبي بالطغيان على ما هو إيجابي.

أينما نظرت تجد ايران، حتى باتت طهران تشكل نقطة الارتكاز في معظم الملفات. فهي لم تحد عن ثوابتها في علاقاتها الخارجية مع الدول. «فلسطين هي القضية الأساس. المقاومة في لبنان من المسلمات»... ولسوريا شأن آخر، فكسرها «خط احمر»، بينما النووي الايراني أصبح مرتبطا بالعنفوان القومي الإيراني الذي يرفض الخضوع والهيمنة.

لا تبدو هذه الملفات منفصلة عن بعضها البعض في العقل الإيراني. العين الإيرانية لا تقرأ في قاموس الفتن المذهبية والطائفية التي تجتاح دول المنطقة سوى اسمي «الولايات المتحدة وإسرائيل بوصفهما الرابح الأول من ذلك».

ولأن امن إسرائيل أولوية أميركية، بدأ الرئيس باراك اوباما زيارته الشرق أوسطية من تل ابيب، «للدلالة على المكانة التي تتمتع بها في الحسابات الأميركية». للزيارة، وفق ديبلوماسي على صلة بالملف الإيراني، هدفان. الاول، تطمين إسرائيل التي باتت تتحصن بالجدران العازلة لا بل تحولت الى دولة «جدران» بعدما كانت حدودها في الأدبيات الصهيونية مفتوحة من النهر الى البحر».

والثاني، العمل على «شدشدة براغي» حلفاء واشنطن الإقليميين لا سيما تركيا وقطر، بعد الانتكاسات التي تعرض لها هؤلاء في الملف السوري وعجزهم عن إسقاط النظام أو حتى إحداث اختراق ميداني نوعي قبيل القمة الأميركية ـ الروسية. فإيران تدرك وفقا للديبلوماسي نفسه، ان الصراخ القطري ـ التركي العالي النبرة في الملف السوري، والإيحاء بالسير بخيارات منفردة بمعزل عن موافقة واشنطن عبر رفع وتيرة الدعم البشري والتسليحي المكثف للمعارضة، ليسا سوى ترجمة للعبة تبادل الأدوار التي تمسك واشنطن بخيوطها جيدا. فالجميع هنا محكوم بالسقف الأميركي».

مسألة إسقاط النظام السوري بالقوة أضحت وراء ظهر الايرانيين، ولو أنهم يقرون في المقابل بأنه ليس بإمكان النظام أن يحسم عسكريا. الحل هو بالحوار ووقف العنف والتسليح والتمويل للمجموعات المسلحة، وبالتالي الذهاب الى الانتخابات الرئاسية في صيف العام 2014 من دون شروط مسبقة، و«عندها للشعب السوري أن يقول كلمته ببقاء الرئيس الأسد أو اختيار رئيس آخر عن طريق صناديق الاقتراع».

لسلام ان يرد التحية

في لبنان، تتخذ إيران صفة المراقب للأوضاع. الحياد وعدم التدخل في الشؤون الداخلية اللبنانية هما الشعار الدائم لديبلوماسيتها. لا دخول في الزواريب السياسية الضيقة كما تفعل بعض الدول. «فأهل الدار أدرى بشعابها».

منذ اللحظة الأولى لاستقالة حكومة نجيب ميقاتي والتداول باسم النائب تمام سلام لتولي الرئاسة الثالثة، اتجهت الأنظار الى طهران. البعض وصف ما حصل بالانقلاب السعودي، ردا على «الانقلاب الإيراني» على حكومة سعد الحريري. آخرون تحدثوا عن «أفول النجم الإيراني»، و«بداية العصر السعودي»، وراج مناخ ثالث بأن ما جرى «هو محصلة تفاهم سعودي إيراني».

واقع الحال، بالنسبة للديبلوماسي المتابع، انه لم يكن لإيران أي دور في تسمية سلام، لا بل ان التسمية نفسها وما سبقها على خط المختارة ـ الرياض، شكلا عنصر مفاجأة لطهران.

غير أن الديبلوماسية الايرانية لم تنتظر طويلا، بل تحركت بطريقة هجومية عبر سفيرها في بيروت د. غضنفر ركن آبادي الذي كان بين أول السفراء الذين حطوا في دارة المصطبة لتقديم التهنئة لسلام. كلام الرئيس المكلف على المقاومة ترك آثرا إيجابيا. الانطباع الإيراني عن سلام يناقض تحليلات الحلفاء. فالرجل «وان كان قريبا من «قوى 14 آذار» إلا انه وسطي بامتياز. لا فرق بينه وبين نجيب ميقاتي. زد على ذلك، أن الرجل لا يريد أن يكون عمله لمصلحة «14 آذار» أو لطرف ضد آخر أو حتى ضد المقاومة. هو يريد إقامة علاقة جيدة مع جميع الأطراف. وما يهم إيران في هذه المعادلة هو المقاومة. أي شخص يتبنى خط المقاومة، يكون موضع ترحيب بالنسبة لطهران.. ولغة تمام سلام كانت ايجابية على هذا الصعيد.

لا يخفى على إيران أن استقالة ميقاتي كانت منسقة ومدروسة إما بهدف تشكيل حكومة تصريف أعمال أو تبديل الأمر الواقع. لكن هذا لن يحصل. نتيجة الانقلاب على الحكومة ليست محسومة بعد. فـ«حزب الله» مكون أساسي في التركيبة السياسية اللبنانية ولا يمكن حشره في الزاوية. الحزب يمتلك عددا من الأوراق التي يبقى محتفظا بها حتى اللحظة المناسبة مستقبلا، ومعلوماتنا تشير إلى أن الغربيين «يفضلون أن يكون «حزب الله» في الحكومة وليس في الشارع».

يتوقف الإيرانيون عند كلام السفير السعودي في لبنان على عواض عسيري عن تمنّ سعودي بإجراء حوار بين «حزب الله» و«تيار المستقبل»، والذي ترجم بكلام الرئيس سعد الحريري من باريس عن عدم ممانعته الحوار مع «حزب الله»، ويعتبرون ذلك بمثابة إشارة إيجابية سعودية في اتجاه تسوية الملف الحكومي.

تبارك إيران خطوة «حزب الله» الانفتاح على سلام وفتح الباب واسعا أمامه علما بأن تسميته كانت سعودية. بالمقابل ينتظر الحزب من الرئيس المكلف رد التحية أو مبادرة ما.

لا تعبأ طهران كثيرا بالكلام عن منافسة سعودية ـ إيرانية على الأرض اللبنانية. فما يقلقها هو محاولات تسعير الفتنة السنية ـ الشيعية في هذا البلد.

تسوية الملف النووي الإيراني

التكتيك القائم على مراكمة الإنجازات الكبيرة أو الصغيرة على طريق تحقيق الأهداف الاستراتيجية الكبرى، ينطبق أيضا على الملف النووي. ولا شك في أن بين أهداف إيران الاستراتيجية الاعتراف بحقوقها النووية.

للمرة الأولى في تاريخ المفاوضات النووية بين إيران ومجموعة الخمسة + واحدا، يتحدث الإيرانيون بإيجابية. فالغربيون خاضوا في اجتماعات كازاخستان في التفاصيل يقول الديبلوماسي المتابع للملف الايراني. احتمال الاتفاق ممكن، لكن الحذر الايراني يبقى قائما. الولايات المتحدة تطلب المفاوضات من ناحية ثم تهدد عبر الاسرائيليين بضربة عسكرية أو بفرض المزيد من العقوبات. برغم ذلك، لا تستبعد طهران من حساباتها احتمال التسوية ولعل اشارة مرشد الثورة الامام علي خامنئي الى عدم معارضته الحوار المباشر مع أميركا حول الملف النووي الإيراني، يصب في هذا الاتجاه.

  • فريق ماسة
  • 2013-04-22
  • 5126
  • من الأرشيف

طهران معجبة بوسطية سلام.. ونظرته للمقاومة

يصح القول في الديبلوماسية الإيرانية انها ديبلوماسية اقتحامية تقوم على مبدأين متوازيين. الأول، إحكام العلاقة مع الصديق، ورفعها إلى مستوى التحالف الاستراتيجي وما يفرضه من التزامات، وينجم عن ذلك تشكيل جبهة صلبة ليست قادرة على الصمود فقط، لكنها قادرة أيضاً على الاتساع باكتساب شركاء جدد في عالم يتغير بشكل متسارع. أما المبدأ الثاني، فهو السعي إلى إيجاد موطئ قدم في العلاقة مع الأطراف غير الحليفة، سواء بالحفاظ على مواقع الأقدام القائمة، أو بإيجاد مواقع أقدام جديدة، وعدم السماح لما هو سلبي بالطغيان على ما هو إيجابي. أينما نظرت تجد ايران، حتى باتت طهران تشكل نقطة الارتكاز في معظم الملفات. فهي لم تحد عن ثوابتها في علاقاتها الخارجية مع الدول. «فلسطين هي القضية الأساس. المقاومة في لبنان من المسلمات»... ولسوريا شأن آخر، فكسرها «خط احمر»، بينما النووي الايراني أصبح مرتبطا بالعنفوان القومي الإيراني الذي يرفض الخضوع والهيمنة. لا تبدو هذه الملفات منفصلة عن بعضها البعض في العقل الإيراني. العين الإيرانية لا تقرأ في قاموس الفتن المذهبية والطائفية التي تجتاح دول المنطقة سوى اسمي «الولايات المتحدة وإسرائيل بوصفهما الرابح الأول من ذلك». ولأن امن إسرائيل أولوية أميركية، بدأ الرئيس باراك اوباما زيارته الشرق أوسطية من تل ابيب، «للدلالة على المكانة التي تتمتع بها في الحسابات الأميركية». للزيارة، وفق ديبلوماسي على صلة بالملف الإيراني، هدفان. الاول، تطمين إسرائيل التي باتت تتحصن بالجدران العازلة لا بل تحولت الى دولة «جدران» بعدما كانت حدودها في الأدبيات الصهيونية مفتوحة من النهر الى البحر». والثاني، العمل على «شدشدة براغي» حلفاء واشنطن الإقليميين لا سيما تركيا وقطر، بعد الانتكاسات التي تعرض لها هؤلاء في الملف السوري وعجزهم عن إسقاط النظام أو حتى إحداث اختراق ميداني نوعي قبيل القمة الأميركية ـ الروسية. فإيران تدرك وفقا للديبلوماسي نفسه، ان الصراخ القطري ـ التركي العالي النبرة في الملف السوري، والإيحاء بالسير بخيارات منفردة بمعزل عن موافقة واشنطن عبر رفع وتيرة الدعم البشري والتسليحي المكثف للمعارضة، ليسا سوى ترجمة للعبة تبادل الأدوار التي تمسك واشنطن بخيوطها جيدا. فالجميع هنا محكوم بالسقف الأميركي». مسألة إسقاط النظام السوري بالقوة أضحت وراء ظهر الايرانيين، ولو أنهم يقرون في المقابل بأنه ليس بإمكان النظام أن يحسم عسكريا. الحل هو بالحوار ووقف العنف والتسليح والتمويل للمجموعات المسلحة، وبالتالي الذهاب الى الانتخابات الرئاسية في صيف العام 2014 من دون شروط مسبقة، و«عندها للشعب السوري أن يقول كلمته ببقاء الرئيس الأسد أو اختيار رئيس آخر عن طريق صناديق الاقتراع». لسلام ان يرد التحية في لبنان، تتخذ إيران صفة المراقب للأوضاع. الحياد وعدم التدخل في الشؤون الداخلية اللبنانية هما الشعار الدائم لديبلوماسيتها. لا دخول في الزواريب السياسية الضيقة كما تفعل بعض الدول. «فأهل الدار أدرى بشعابها». منذ اللحظة الأولى لاستقالة حكومة نجيب ميقاتي والتداول باسم النائب تمام سلام لتولي الرئاسة الثالثة، اتجهت الأنظار الى طهران. البعض وصف ما حصل بالانقلاب السعودي، ردا على «الانقلاب الإيراني» على حكومة سعد الحريري. آخرون تحدثوا عن «أفول النجم الإيراني»، و«بداية العصر السعودي»، وراج مناخ ثالث بأن ما جرى «هو محصلة تفاهم سعودي إيراني». واقع الحال، بالنسبة للديبلوماسي المتابع، انه لم يكن لإيران أي دور في تسمية سلام، لا بل ان التسمية نفسها وما سبقها على خط المختارة ـ الرياض، شكلا عنصر مفاجأة لطهران. غير أن الديبلوماسية الايرانية لم تنتظر طويلا، بل تحركت بطريقة هجومية عبر سفيرها في بيروت د. غضنفر ركن آبادي الذي كان بين أول السفراء الذين حطوا في دارة المصطبة لتقديم التهنئة لسلام. كلام الرئيس المكلف على المقاومة ترك آثرا إيجابيا. الانطباع الإيراني عن سلام يناقض تحليلات الحلفاء. فالرجل «وان كان قريبا من «قوى 14 آذار» إلا انه وسطي بامتياز. لا فرق بينه وبين نجيب ميقاتي. زد على ذلك، أن الرجل لا يريد أن يكون عمله لمصلحة «14 آذار» أو لطرف ضد آخر أو حتى ضد المقاومة. هو يريد إقامة علاقة جيدة مع جميع الأطراف. وما يهم إيران في هذه المعادلة هو المقاومة. أي شخص يتبنى خط المقاومة، يكون موضع ترحيب بالنسبة لطهران.. ولغة تمام سلام كانت ايجابية على هذا الصعيد. لا يخفى على إيران أن استقالة ميقاتي كانت منسقة ومدروسة إما بهدف تشكيل حكومة تصريف أعمال أو تبديل الأمر الواقع. لكن هذا لن يحصل. نتيجة الانقلاب على الحكومة ليست محسومة بعد. فـ«حزب الله» مكون أساسي في التركيبة السياسية اللبنانية ولا يمكن حشره في الزاوية. الحزب يمتلك عددا من الأوراق التي يبقى محتفظا بها حتى اللحظة المناسبة مستقبلا، ومعلوماتنا تشير إلى أن الغربيين «يفضلون أن يكون «حزب الله» في الحكومة وليس في الشارع». يتوقف الإيرانيون عند كلام السفير السعودي في لبنان على عواض عسيري عن تمنّ سعودي بإجراء حوار بين «حزب الله» و«تيار المستقبل»، والذي ترجم بكلام الرئيس سعد الحريري من باريس عن عدم ممانعته الحوار مع «حزب الله»، ويعتبرون ذلك بمثابة إشارة إيجابية سعودية في اتجاه تسوية الملف الحكومي. تبارك إيران خطوة «حزب الله» الانفتاح على سلام وفتح الباب واسعا أمامه علما بأن تسميته كانت سعودية. بالمقابل ينتظر الحزب من الرئيس المكلف رد التحية أو مبادرة ما. لا تعبأ طهران كثيرا بالكلام عن منافسة سعودية ـ إيرانية على الأرض اللبنانية. فما يقلقها هو محاولات تسعير الفتنة السنية ـ الشيعية في هذا البلد. تسوية الملف النووي الإيراني التكتيك القائم على مراكمة الإنجازات الكبيرة أو الصغيرة على طريق تحقيق الأهداف الاستراتيجية الكبرى، ينطبق أيضا على الملف النووي. ولا شك في أن بين أهداف إيران الاستراتيجية الاعتراف بحقوقها النووية. للمرة الأولى في تاريخ المفاوضات النووية بين إيران ومجموعة الخمسة + واحدا، يتحدث الإيرانيون بإيجابية. فالغربيون خاضوا في اجتماعات كازاخستان في التفاصيل يقول الديبلوماسي المتابع للملف الايراني. احتمال الاتفاق ممكن، لكن الحذر الايراني يبقى قائما. الولايات المتحدة تطلب المفاوضات من ناحية ثم تهدد عبر الاسرائيليين بضربة عسكرية أو بفرض المزيد من العقوبات. برغم ذلك، لا تستبعد طهران من حساباتها احتمال التسوية ولعل اشارة مرشد الثورة الامام علي خامنئي الى عدم معارضته الحوار المباشر مع أميركا حول الملف النووي الإيراني، يصب في هذا الاتجاه.

المصدر : الماسة السورية \ السفير


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة