دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
كل شيء في دمشق مفارقة. في النهار تضج الشوارع بالشاميين حتى ساعات الليل الأولى. ما أن يطل وجه الليل الأسود، حتى تتحول الشوارع عينها إلى أشباح.
قديماً لم تكن دمشق تنام. «تصفيات»، هي اللافتة الأكثر شيوعاً في الأسواق التجارية. من شعلان أو «سوق التنابل» إلى الحمراء فكفرسوسة. تآلفت آذان الدمشقيين مع أصوات المدافع ليل نهار. «على أنغامها» يتبضعون، يتنزهون، يتعلمون، ويعملون.
وبحسب الميل السياسي تكون الأصوات «نشازاً» أو مصدر اطمئنان. «الله ينصركن» يردد كثر لدى سماعهم مدافع الجيش السوري. «عندما تتوقف نخاف» يقولون. الأزمة حولت السوريين، من مختلف الشرائح العمرية، إلى خبراء في الأسلحة. «ع السمع» بات يميز بين الـ«دوشكا» والـ«آر بي جي» والمدفعية.
ليس مبالغة وصف وسط دمشق بالثكنة ذات الأجنحة المتشعبة، فمن يقف مع «الدولة» لا يمل من الدعوة بالنصر لعناصر الجيش السوري كلما مر على حاجز. أمتار معدودة أحياناً تفصل بين حاجز وآخر. بعض الخبراء يقاربون حالة أبناء هذه المؤسسة العسكرية كالتالي: هيبة الجيش «تهشمت» إلى درجة أن عناصره لا يترددون في فعل أي شيء لاسترداد هذه الهيبة. في أي لحظة قد يتبين أن ركاب السيارة التي تقف عند الحاجز هم من المسلحين. وعليه، كل وقوف عند الحاجز هو «مشروع فيلم دام».
قد تختصر الأم المشهد السوري. جانسيت، سيدة شركسية دفنت ابنها في حديقة منزلها، فالأزمة قطعت الأوصال بين المحافظات وأصبح التواصل متعذراً حتى إلى القبور، فضلاً عن شيوع ظاهرة «العبث بالجثث».
عجزت عن حماية أنزور في حياته، فقررت أن تحميه بعد رحيله. مسألة وحيدة تحز في نفسها، «ابني استشهد في سورية نعم، لكن بوصلته كانت موجهة نحو تحرير الجولان وفلسطين».
تتشابه أيام دمشق الحزينة. أيام الجمعة هي الأكثر حزناً، «جمعة سورية العظيمة» يسميها المسيحيون هنا. الصمت يلف الشوارع والمحال والأحياء، وحدها مديرية الجوازات والسفر في البرامكة لا يقل فيها رتل المنتظرين لورقة الهجرة.
الناس هنا أصبحت مصابة بـ«فوبيا التصوير»، خوفاً من تنسيقيات المناطق الذين يلاحقون الشبيح أو كما يسمونه أيضاً «العوايني». صورتك هنا أو صورة أحد من أهلك، تعني حكماً إحداثيات «لمن يهمه الأمر».
جولة صغيرة في أحياء الشام القديمة وأبوابها السبعة، تظهر لك أنك في حضرة أكثر من «فصيل» أمني مولج حماية المنطقة. كل فصيل تابع لجهة مختلفة سواء في الجيش أو في أي جهاز أمني آخر، أو في اللجان الشعبية. تكفي «استنسابية» من أي عنصر حتى تبقى مسمراً لساعات تحت استجواب مفترض. مهمة الإعلاميين تبدو أكثر ليونة، بحسب هويتها بالطبع.
على زند أحد عناصر اللجان الشعبية الذي يرتدي البذلة العسكرية، يلمع الصليب. «لا أحد يعرف وضعنا غيرنا»، يقول الشاب الأشقر. المطران لوقا الخوري يرد على من يتهم الكنيسة بالتبعية للنظام «نحن لسنا تابعين لأحد، لكننا نحترم النظام الموجود وأطمئن الجميع بأنه لن يسقط».
لا رأي في سوريا. لم تعد المسألة وجهة نظر، سواء مع النظام أو ضده. غالباً ما بات الموضوع يكلف «طلقة رصاص». النار قد تنشب بين زملاء يعملون في شركة واحدة، أو داخل فرن، أو أمام إشارات المرور، أو حتى داخل البيت الواحد. في هذا البيت قد يكون فرد من العائلة مخطوفا على يد مجموعة مسلحة وفرد آخر مسجون على يد النظام.
أمام هذا المشهد الشائك تضيق «الحيادية» على جسد الإعلام. نماذج إعلامية كثيرة تعرضت للخطف والقتل عمداً أو في ساحة المعارك، فلا سؤال هنا عن الفارق بين ساحات القتال وساحات المهنية.
الإعلام السوري، الرسمي بطبيعة الحال، هو جندي بقلم في صفوف الجيش ويعرف عن نفسه في المرئي والمسموع والمكتوب تحت عنوان «إعلام وطن».
وكما في الإعلام كذلك في الفن، تفرد الإخبارية السورية مقابلة طويلة عبر الهاتف للفنانة رغدة، تشرح فيها «الديل» (الصفقة) الذي عرضته عليها قناة الجزيرة لكي تتوسط لتحرير والدها.
الإذاعات «تتغزل» بسوريا الوطن طوال أوقات البث، والصحف تنطق باسم الدولة تاركة فسحة الفضاء غير القابل للضبط للمواقع الالكترونية المعارضة.
في دمشق وريفها، كثر من السوريين تعرفوا إلى مناطق في بلدهم لم يسمعوا عنها سابقاً، مثل برزة، العبادية، الرستن، خان العسل... وفي المحافظات كافة.
التفجيرات التي طالت مصانع ومؤسسات، وأدت إلى صرف موظفين، دفعت بهؤلاء إلى حضن الدولة. فتجد أمام مبنى وزارة العمل جمهرة من العمال يطالبون بالإنصاف، وتجد أطفالاً يتسولون في الشوارع.
قبل الأزمة، كان ثمن حبة الخيار ليرة سورية، على سبيل المثال، واليوم أصبحت بثلاث ليرات. المواطن العادي هو الذي يشعر أكثر من غيره بتأثير أزمــة خلقـت مفهــومـين، ليس فقـــط للشــهادة وإنما للسير نحوها.
المصدر :
الماسة السورية/غراسيا بيطار
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة