قد يختصر المشهد السياسي في الكويت وفق التالي: العملية الديموقراطية آخذة في التآكل والتراجع، وفاقدة أصلا مقومات كثيرة، رغم وجود دستور. وهذه هي الاسباب:

سلطة الحكم مشيخية

تسيطر عقلية المشيخة على المسار الديموقراطي من خلال:

1 ـ توسيع سلطات الأمير ومنع مس ذاته حتى ولو بأقل النقد. والكويت من أكثر الدول اعتقالا للمغردين، وأغلبهم بسبب «مس الذات الأميرية». وتشمل صلاحيات الامير اختياره لرئيس الوزراء بعد قيامه بتشاورات بروتوكولية، غير ملزمة، رغم انها منصوص عليها دستوريا. التشاور يتم مع رؤساء مجلس الأمة السابقين، ورؤساء الوزراء السابقين، وزعماء التيارات السياسية (كون الأحزاب غير مشرعة قانونا). وتُفقِد سلطةُ الامير هذه مجلسَ الأمة قدرتَهُ على قبول برنامج رئيس الوزراء، أي، وفي نهاية المطاف، قدرته التشريعية، إضافة لعدم تدخله بقبول تشكيلة الوزراء الموكلة أصلا لرئيس الوزراء. ولا يملك مجلس الامة سوى قدرة الرقابة والمحاسبة لرئيس الوزراء في حال تقصيره بتنفيذ برنامجه الذي تبناه أمامه.

2 ـ احتكار الوزارات السيادية واقتصار تسلمها غالبا على أبناء الأسرة الحاكمة، أي غياب مبدأ الكفاءة مقابل الاعتبار العائلي، وهو ما يعزز المحاصصة وفق مبدأ المشيخة على حساب المساواة التي نص عليها الدستور.

3 ـ مشاركة الوزراء في التصويت داخل مجلس الأمة، وهو ما يشل غالبا قدرة المجلس على ممارسة وظيفته الرقابية والتشريعية كما يتوجب عليه. ويضاف الى هذه البدعة معوقات «واقعية»، مثل وجود كثير من النواب الموالين للحكومة. هذا علاوة على تكريس ثقافة التسويات السياسية وتمرير المصالح القبلية والمذهبية على حساب المواطنة. وللتذكير، فالكويت تحتل مركزاً متقدماً في لائحة الدول التي ينتشر فيها الفساد في مؤسسات الدولة، علاوة على الروتين والبيروقراطية. وهكذا، يلجأ المواطن للنائب الممثل له لينجز له معاملاته، وفق مبدأ الوساطة. وهذا بدوره يضعف أيضا تطبيق القانون، حيث يتم تمرير معاملات مخالفة للقانون من قبل الوزير المعني، للنائب المتدخِّل، مقابل إما مصالح مشتركة متبادلة أو تحت سلاح الاستجواب الذي يرفعه النائب كثيرا في وجه الوزراء دون اتباع الآليات السليمة للمحاسبة، خاصة حينما يرفض الوزير تمرير كثير من معاملات بعض النواب.

4 ـ غياب الأحزاب، وهو ما يكرس القدرة على اختراق مجلس الأمة من قبل السلطة باستخدام المال السياسي في شراء الأصوات من قبل مرشحين تدعمهم السلطة. ووجود الأحزاب يساعد في تقديم برامج انتخابية إصلاحية تعرض في الجمعية العمومية على المحازبين وتتم مساءلتها في حال عدم الالتزام بالبرنامج أو التقصير.

5 ـ عدم وجود مؤسسات مجتمع مدني تهتم بالشأن السياسي وتشارك فيه وفي صناعة القرار بطريقة غير مباشرة، كون القانون لا يجيز لأي مؤسسة مجتمع مدني «التدخل في العمل السياسي».

مجلس الأمة الموالي

كان للمجلس في تقاليد سابقة دور ملموس في الرقابة والتشريع والدفع بالعملية السياسية والديموقراطية. إلا أنه، وبعد قيام الثورات العربية، انقسم المجلس داخليا، خاصة بعد وصول الإسلاميين، ومنهم المتشددون والقبليون إليه، حيث تحولت المطالبات التي كانت تعزز من مكانة المواطن والمواطنة، إلى مطالبات يغلب عليها الطابع المذهبي والقبلي ونظام المحاصصات وتوزيع الغنائم. ويتم ذلك بواسطة الإفراط في عملية الاستجواب وتحويلها لأداة ترهيب للسلطة التنفيذية، لا كوسيلة للمساءلة وفق آليات شرَّعها الدستور، حتى باتت الرقابة تطغى على التشريع. وهو سبب أدى إلى حل مجلس الأمة أكثر من مرة، خاصة مع تركيز الاستجوابات الأخيرة على رئيس الوزراء.

وتشكلت مع الأيام معارضة كانت تطالب بإصلاحات، كثير منها محق، إلا أن آليات المطالبة كانت خارجة عن العرف العام السياسي، وعن القانون، وخارقة للدستور، بل كان لأصوات من المعارضة خطاب مذهبي تكفيري حاد، كاد أن يشق وحدة النسيج الوطني. وقد استطاعت السلطة أن تلعب على هذه الوقائع، فأوجدت حالة من الرُهاب المتبادل في ذهن المواطنين، خاصة بين السنة والشيعة. وقد لجأ هؤلاء الاخيرون الى دعم المسار الحكومي خوفاً من الاطروحات المذهبية الحادة لدى بعض المعارضة. وفي ظل هذه الاجواء، تمَّ حل مجلس الأمة السابق، ولجأ الأمير إلى «مرسوم ضرورة» يعدل من نظام التصويت من أربعة أصوات إلى صوت واحد للمواطن، وهو ما أثار حفيظة المعارضة، فأعلنت مقاطعتها للانتخابات في كانون الاول/ ديسمبر 2012، لعدم دستورية مرسوم الضرورة. ولجأت الى المحكمة الدستورية لبت دستورية المرسوم، وهو ما زال إلى الآن في دهاليز القضاء الدستوري. وتم انتخاب مجلس الأمة الحالي الذي تطلق عليه المعارضة «مجلس الصوت الواحد»، كونه انتخب وفق النظام الجديد. ولقد وقع هذا المجلس في فخ تغليب كفة التشريع على الرقابة، من خلال الاتفاق مع السلطة التنفيذية على تأخير الاستجوابات بحجة التشريع. ولكن يؤخذ عليه أن تشريعاته «تنفيعية» للحكومة والتجار. وكمثال، اقر منذ أيام قانون شراء جميع ديون المواطنين، وإعادة جدولتها بعد شطب الفوائد عنها، ما سيكلف الخزينة مبلغاً ما زال غير معروف، إلا أنه يتراوح بين 3,5 مليار دولار و14 مليار دولار. وكانت الحكومة رفضت قانونا مماثلا في السابق، بالرغم من اقراره بأغلبية ساحقة في برلمان 2010.

وكان حجم مديونية الكويتيين الخاصة وقتها يبلغ 21,6 مليار دولار، اضافة الى 5,2 مليار دولار فوائد مصرفية. ولكن التغيير في موقف الحكومة تفسره الخلافات السياسية الحادة مع المعارضة التي قاطعت الانتخابات الاخيرة. ويفسره أيضا وصول مجلس أمة موال للحكومة، قال رئيسه بصراحة مدهشة خلال النقاش حول موضوع القروض إن «المسألة ليست تقنية وحسب بل سياسية ايضا. فلنعط شيئا للناس... هناك اشخاص لا يريدون ان يستمر هذا البرلمان».

وتملك الكويت اصولاً تقدر بـ400 مليار دولار، معظمها مستثمر في الخارج، تراكمت من فوائض ارتفاع أسعار الخام على مدى السنوات الماضية. ومن المشاريع التي مررت في البرلمان لأن الحكومة تريدها، «الاتفاقية الأمنية» التي أقرها الاجتماع الأخير لمجلس التعاون الخليجي.

المعارضة الكويتية

خلافات بيت الحكم غالبا ما انعكست على إيقاع الساحة السياسية سواء على مستوى مجلس الأمة وتحالفاته الداخلية أم على مستوى المعارضة وتمايزاتها وآليات حراكها.

وقد سقطت المعارضة في فخين: الأول هو الخطاب المذهبي، رغم انها تطالب بإمارة دستورية وتعزيز الديموقراطية. إلا أن خطابات بعض قياداتها إقصائية وهجومية مذهبيا. والثاني هو النزول للشارع في المناطق السكنية، وهو ما اعتبر مخالفة للأصول المتعارف عليها، ما جعل بعض أقطاب المعارضة أنفسهم يمتنعون عن الاستجابة للمسيرات.

تعيش الكويت اليوم تجاذبات عديدة. وهناك في الكواليس محاولات تسوية بين سلطة الحكم وأبرز أقطاب المعارضة، خاصة أولئك المتهمين باقتحام مجلس الأمة. وهذه التسوية يقودها نائب ليبراليسابق ومعارض حالي، وقد تتبلور معالمها في الأيام القادمة. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه يتعلق بمعرفة ما إذا كانت التسويات السياسية هي الطريق لإخراج الكويت من عقلية المشيخة والذهاب بها واقعا نحو إمارة دستورية؟

 

  • فريق ماسة
  • 2013-04-01
  • 8942
  • من الأرشيف

الكويت بـيــن المشيخة والإمارة الدستورية

قد يختصر المشهد السياسي في الكويت وفق التالي: العملية الديموقراطية آخذة في التآكل والتراجع، وفاقدة أصلا مقومات كثيرة، رغم وجود دستور. وهذه هي الاسباب: سلطة الحكم مشيخية تسيطر عقلية المشيخة على المسار الديموقراطي من خلال: 1 ـ توسيع سلطات الأمير ومنع مس ذاته حتى ولو بأقل النقد. والكويت من أكثر الدول اعتقالا للمغردين، وأغلبهم بسبب «مس الذات الأميرية». وتشمل صلاحيات الامير اختياره لرئيس الوزراء بعد قيامه بتشاورات بروتوكولية، غير ملزمة، رغم انها منصوص عليها دستوريا. التشاور يتم مع رؤساء مجلس الأمة السابقين، ورؤساء الوزراء السابقين، وزعماء التيارات السياسية (كون الأحزاب غير مشرعة قانونا). وتُفقِد سلطةُ الامير هذه مجلسَ الأمة قدرتَهُ على قبول برنامج رئيس الوزراء، أي، وفي نهاية المطاف، قدرته التشريعية، إضافة لعدم تدخله بقبول تشكيلة الوزراء الموكلة أصلا لرئيس الوزراء. ولا يملك مجلس الامة سوى قدرة الرقابة والمحاسبة لرئيس الوزراء في حال تقصيره بتنفيذ برنامجه الذي تبناه أمامه. 2 ـ احتكار الوزارات السيادية واقتصار تسلمها غالبا على أبناء الأسرة الحاكمة، أي غياب مبدأ الكفاءة مقابل الاعتبار العائلي، وهو ما يعزز المحاصصة وفق مبدأ المشيخة على حساب المساواة التي نص عليها الدستور. 3 ـ مشاركة الوزراء في التصويت داخل مجلس الأمة، وهو ما يشل غالبا قدرة المجلس على ممارسة وظيفته الرقابية والتشريعية كما يتوجب عليه. ويضاف الى هذه البدعة معوقات «واقعية»، مثل وجود كثير من النواب الموالين للحكومة. هذا علاوة على تكريس ثقافة التسويات السياسية وتمرير المصالح القبلية والمذهبية على حساب المواطنة. وللتذكير، فالكويت تحتل مركزاً متقدماً في لائحة الدول التي ينتشر فيها الفساد في مؤسسات الدولة، علاوة على الروتين والبيروقراطية. وهكذا، يلجأ المواطن للنائب الممثل له لينجز له معاملاته، وفق مبدأ الوساطة. وهذا بدوره يضعف أيضا تطبيق القانون، حيث يتم تمرير معاملات مخالفة للقانون من قبل الوزير المعني، للنائب المتدخِّل، مقابل إما مصالح مشتركة متبادلة أو تحت سلاح الاستجواب الذي يرفعه النائب كثيرا في وجه الوزراء دون اتباع الآليات السليمة للمحاسبة، خاصة حينما يرفض الوزير تمرير كثير من معاملات بعض النواب. 4 ـ غياب الأحزاب، وهو ما يكرس القدرة على اختراق مجلس الأمة من قبل السلطة باستخدام المال السياسي في شراء الأصوات من قبل مرشحين تدعمهم السلطة. ووجود الأحزاب يساعد في تقديم برامج انتخابية إصلاحية تعرض في الجمعية العمومية على المحازبين وتتم مساءلتها في حال عدم الالتزام بالبرنامج أو التقصير. 5 ـ عدم وجود مؤسسات مجتمع مدني تهتم بالشأن السياسي وتشارك فيه وفي صناعة القرار بطريقة غير مباشرة، كون القانون لا يجيز لأي مؤسسة مجتمع مدني «التدخل في العمل السياسي». مجلس الأمة الموالي كان للمجلس في تقاليد سابقة دور ملموس في الرقابة والتشريع والدفع بالعملية السياسية والديموقراطية. إلا أنه، وبعد قيام الثورات العربية، انقسم المجلس داخليا، خاصة بعد وصول الإسلاميين، ومنهم المتشددون والقبليون إليه، حيث تحولت المطالبات التي كانت تعزز من مكانة المواطن والمواطنة، إلى مطالبات يغلب عليها الطابع المذهبي والقبلي ونظام المحاصصات وتوزيع الغنائم. ويتم ذلك بواسطة الإفراط في عملية الاستجواب وتحويلها لأداة ترهيب للسلطة التنفيذية، لا كوسيلة للمساءلة وفق آليات شرَّعها الدستور، حتى باتت الرقابة تطغى على التشريع. وهو سبب أدى إلى حل مجلس الأمة أكثر من مرة، خاصة مع تركيز الاستجوابات الأخيرة على رئيس الوزراء. وتشكلت مع الأيام معارضة كانت تطالب بإصلاحات، كثير منها محق، إلا أن آليات المطالبة كانت خارجة عن العرف العام السياسي، وعن القانون، وخارقة للدستور، بل كان لأصوات من المعارضة خطاب مذهبي تكفيري حاد، كاد أن يشق وحدة النسيج الوطني. وقد استطاعت السلطة أن تلعب على هذه الوقائع، فأوجدت حالة من الرُهاب المتبادل في ذهن المواطنين، خاصة بين السنة والشيعة. وقد لجأ هؤلاء الاخيرون الى دعم المسار الحكومي خوفاً من الاطروحات المذهبية الحادة لدى بعض المعارضة. وفي ظل هذه الاجواء، تمَّ حل مجلس الأمة السابق، ولجأ الأمير إلى «مرسوم ضرورة» يعدل من نظام التصويت من أربعة أصوات إلى صوت واحد للمواطن، وهو ما أثار حفيظة المعارضة، فأعلنت مقاطعتها للانتخابات في كانون الاول/ ديسمبر 2012، لعدم دستورية مرسوم الضرورة. ولجأت الى المحكمة الدستورية لبت دستورية المرسوم، وهو ما زال إلى الآن في دهاليز القضاء الدستوري. وتم انتخاب مجلس الأمة الحالي الذي تطلق عليه المعارضة «مجلس الصوت الواحد»، كونه انتخب وفق النظام الجديد. ولقد وقع هذا المجلس في فخ تغليب كفة التشريع على الرقابة، من خلال الاتفاق مع السلطة التنفيذية على تأخير الاستجوابات بحجة التشريع. ولكن يؤخذ عليه أن تشريعاته «تنفيعية» للحكومة والتجار. وكمثال، اقر منذ أيام قانون شراء جميع ديون المواطنين، وإعادة جدولتها بعد شطب الفوائد عنها، ما سيكلف الخزينة مبلغاً ما زال غير معروف، إلا أنه يتراوح بين 3,5 مليار دولار و14 مليار دولار. وكانت الحكومة رفضت قانونا مماثلا في السابق، بالرغم من اقراره بأغلبية ساحقة في برلمان 2010. وكان حجم مديونية الكويتيين الخاصة وقتها يبلغ 21,6 مليار دولار، اضافة الى 5,2 مليار دولار فوائد مصرفية. ولكن التغيير في موقف الحكومة تفسره الخلافات السياسية الحادة مع المعارضة التي قاطعت الانتخابات الاخيرة. ويفسره أيضا وصول مجلس أمة موال للحكومة، قال رئيسه بصراحة مدهشة خلال النقاش حول موضوع القروض إن «المسألة ليست تقنية وحسب بل سياسية ايضا. فلنعط شيئا للناس... هناك اشخاص لا يريدون ان يستمر هذا البرلمان». وتملك الكويت اصولاً تقدر بـ400 مليار دولار، معظمها مستثمر في الخارج، تراكمت من فوائض ارتفاع أسعار الخام على مدى السنوات الماضية. ومن المشاريع التي مررت في البرلمان لأن الحكومة تريدها، «الاتفاقية الأمنية» التي أقرها الاجتماع الأخير لمجلس التعاون الخليجي. المعارضة الكويتية خلافات بيت الحكم غالبا ما انعكست على إيقاع الساحة السياسية سواء على مستوى مجلس الأمة وتحالفاته الداخلية أم على مستوى المعارضة وتمايزاتها وآليات حراكها. وقد سقطت المعارضة في فخين: الأول هو الخطاب المذهبي، رغم انها تطالب بإمارة دستورية وتعزيز الديموقراطية. إلا أن خطابات بعض قياداتها إقصائية وهجومية مذهبيا. والثاني هو النزول للشارع في المناطق السكنية، وهو ما اعتبر مخالفة للأصول المتعارف عليها، ما جعل بعض أقطاب المعارضة أنفسهم يمتنعون عن الاستجابة للمسيرات. تعيش الكويت اليوم تجاذبات عديدة. وهناك في الكواليس محاولات تسوية بين سلطة الحكم وأبرز أقطاب المعارضة، خاصة أولئك المتهمين باقتحام مجلس الأمة. وهذه التسوية يقودها نائب ليبراليسابق ومعارض حالي، وقد تتبلور معالمها في الأيام القادمة. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه يتعلق بمعرفة ما إذا كانت التسويات السياسية هي الطريق لإخراج الكويت من عقلية المشيخة والذهاب بها واقعا نحو إمارة دستورية؟  

المصدر : السفير\إيمان شمس الدين


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة