دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
قالها الزعيم الصينيّ الراحل، ماوتسي تونغ: “الإمبرياليّة الأمريكيّة هي نمرٌ من ورقٍ”، وطبّق هذه المقولة على أرض الواقع، قولاً وفعلاً، قلبًا وقالبًا، الرئيس الفنزويلي، هوغو تشافيز، الذي رحل عنّا هذا الأسبوع، جسديًا فقط، إلى العالم الأخر. غنيٌ عن القول إنّ زعيم الفقراء والكادحين والثوار سيبقى حاضرًا بيننا، تمامًا مثل القائد والمُعلّم والمُلهم، جمال عبد الناصر، فقد دخل هذا الرجل، في وقتٍ عزّت الرجال فيه، إلى سجّل الخالدين، ولا يُمكن لكائنٍ مَنْ كان، أنْ يحتج على هذا القول، اللهم سوى زمرة أشباه المثقفين، وثوار النص كم، وصحافيي الربع كم، والمتخصصين في مهاجمة كلّ شيء يتعلّق بالثورة التي أرسى معالمها الراحل تشافيز، وأخرجها إلى حيّز التنفيذ، ليس في بلاده فقط، بَلْ في أمريكا اللاتينيّة، وعلّم الغرب الرأسماليّ والإمبرياليّ دروسًا صعبة في فَهْم قدرة الشعوب المسحوقة على الثورة ضدّ الظلم والغبن، ولقنّهم دروسًا أيضًا في قدرة الدول المستباحة من قبل غزاة القرن الـ21 على التحرر من نير العبوديّة، وتقرير مصيرها بنفسها بدون أوصياء، إذْ أنّه في زمن العولمة وقبله كان وما زال همّهم الوحيد امتصاص الدماء ونهب الثروات وإفقار السكّان لإبقاء هذا البلد أوْ ذاك، رهين المحبسين، وعبدًا لنزواتهم ومؤامرتهم الخبيثة والمبيتّة، ذلك أنّ الاستعمار منذ نشأته وحتى اليوم يعمل بوتيرةٍ عاليةٍ على الإمعان في سياسة التجويع ونشر الأميّة وتقسيم الشعوب إلى قبائل ومذاهب وطوائف، باختصار شديدً، يبذُل الغالي والنفيس من أجل تطبيق سياسة فرّق تسُد، من أجل تحقيق مآربه والحفاظ على مصالحه التكتيكيّة والإستراتيجيّة.
***
ربما الاستثناء الوحيد في العالم هو أولئك الذين هاجموا تشافيز يوم رحيله، ولا نقصد هنا سادة البيت الأبيض ولا حتى الصهاينة، فحتى هؤلاء انتقدوا تشافيز بذكاءٍ ودهاءٍ، أما بعض الفلسطينيين والعرب فهاجموه علانية حتى أنّ بعضهم، وهم كما يبدو لا يقرأون ولا يكتبون، اتّهموا الرجل بالديكتاتوريّة وحب الكرسي، وهو الذي تمّ انتخابه بوضوح وشفافية. ولكن، ولأجل المقارنة وحسب، فإن بعض رجال ومشايخ الدين السياسي هاجموا الرجل، بينما أعلنت الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة يوم حداد عليه، فمن هو المؤمن؟ هل الذي في صف أمريكا، أمْ في صف الثورة الفنزويلية البوليفارية؟ مُضافًا إلى ذلك، فإنّ ما يثير الحزن حقًا هو موقف الكثير من المثقفين العرب الذين يُدبّجون المقالات في مديح الإرهاب الذي يأكل كبد سوريّة متذرعين بحبّ الديمقراطية وحقوق الإنسان، متخذّين مثلاً أعلى: أنظمة لا تحترم، لا الإنسان ولا الأوطان.
***
رحل تشافيز عنّا جسديًا ونحن في الوطن العربيّ اتخذنا من الشرذمة شعارًا لنا، وتبنّينا سياسة التبعيّة للإمبرياليّة بصورة مقززةٍ، وخضنا ونخوض حروبًا بالوكالة، وثورات بالإنابة، ووصلنا إلى وضعٍ لا نُحسد عليه، فعلاوة على التبعيّة لأمريكا الشيطانيّة بامتياز، بتنا مجتمعات أوْ شبه مجتمعات ممزّقة ومفتتة، وأصبحنا دولاً أوْ بالأحرى شبه دول، هي بين دول فاشلة مثل لبنان، وأخريات على حافة الفشل مثل مصر، وأخريات ليست في القرون الوسطى مثل كيانات الخليج، كما باتت المقاومة إرهابًا، والإرهاب مقاومةً، وأمسى الذبح على الهوية من شيمنا، ففلسطين المحتلّة منذ العام 1948، والتي يقول العرب إنّها قضيتهم المركزيّة، تتآكل يومًا بعد يومٍ من قبل الكيان الاستعماريّ الذي زرعته الإمبرياليّة في الشرق الأوسط، أيْ دولة الاحتلال، لم تفعل أمّة الناطقين بالضاد شيئًا من أجل تحرير فلسطين، أوْ أيّ جزءٍ منها، اتفق العرب على ألا يتفقوا، كما اعتدنا أنْ نقول، ولكن بموازاة ذلك، سوريّة، معقل العروبة الأخير الذي بقي في الوطن العربيّ، تمكنّت في أقّل من سنة، تجميع المُجمّع وتقريب الفرقاء وإصلاح ذات البين بين الدول العربيّة المختلفة بينها، حيث اتخذّت الجامعة العربيّة قرارًا بطرد سوريّة، كما أنّ منظمة المؤتمر الإسلاميّ اتخذت القرار عينه، وكأنّ النظام الحاكم في دمشق هو الذي يُدنّس المقدّسات الإسلاميّة في فلسطين، وفي مقدّمتها المسجد الأقصى المبارك، توحّدتم يا عرب ضدّ سوريّة، هذا البلد العربيّ، الذي رفض الإملاءات الأمريكيّة والإسرائيليّة، ولم يرضخ للتهديدات الصهيونيّة ولم ينجر وراء الإغراءات الغربيّة، وواصل تشبثه بالمواقف المبدئيّة، لا نعود على النظام العربيّ الرسميّ باللائمة، فجميع الزعماء العرب من رؤساء، وملوك وأمراء يتلّقون الأوامر من واشنطن وتل أبيب ويُهرولون لتطبيقها بحذافيرها، ففي قطر مثلاً، توجد أكبر قاعدة عسكريّة أمريكيّة في الشرق الأوسط، في ما فتح الراحل تشافيز بلاده على مصراعيها أمام الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، التي أقامت فيها المصانع. وكانت الحلقة الجديدة وليست الأخيرة في هجمة الأنظمة العربية على سوريّة قبل أيام حيث تتّم محاولة إزاحة مقعدها لثوار الناتو والطورانية التركيّة، ولكن السر في الأمر أنّ الاجتماع الأخير للجامعة هذه أتى بعد أنْ زار وزير خارجية أمريكا هذه الدول ولقّن حكامها ماذا يقولون ويفعلون!
***
الكارثة أوْ المأساة، في هذا الزمن الرديء، أنّ النظام العربيّ الرسميّ يعمل بكلّ ما أوتي من قوة من أجل شطب تراث الخالد جمال عبد الناصر من الذاكرة الجماعيّة للأمّة العربيّة، وبالمقابل، كان تشافيز، الأمريكي-اللاتيني يقول وبنبرته المتحديّة إننّي ناصري، الكارثة أنّ الرئيس الفنزويلي أصدر أوامره بعد اندلاع الأحداث في سوريّة، وبشكل متزامنٍ مع انبلاج المؤامرة العربيّة على بلاد الشام، بتزويد الجيش العربيّ السوريّ بالمازوت بدون مقابلٍ، لأنّه، كان على قناعةٍ تامّةٍ بأنّ هذا البلد هو ضحيّة لمؤامرة كونيّة تُديرها واشنطن ويُنفذها وكلائها في الشرق، ولكن، من سخريات القدر، أنّ الرئيس المصريّ الجديد، محمد مرسي، الذي يقوم بهدم الأنفاق في غزة، وهي الخطوة التي لم يجرؤ على القيام بها العميل مع علامة الجودة والامتياز، حسني مبارك، الرئيس مرسي قام بمنع السفن المحملّة بالمازوت الفنزويلي والمتجهة إلى سوريّة من عبور قناة السويس، من منطلق حماية المصالح الأمريكيّة، التي تتماشى وتتماهى مع المصالح الصهيونيّة، في حين أنّه، وفق المصادر الأجنبيّة، فإنّ مصر سمحت للغواصّات الإسرائيليّة، القادرة على حمل رؤوس نوويّة، بعبور القناة، التي أممها عبد الناصر وتحمل بسبب ذلك العدوان الثلاثي من قبل إسرائيل وفرنسا وبريطانيا في العام 1956. وووفقًا للمصادر الأجنبيّة عينها، فإنّ الغواصّات، التي صنعها أحفاد النازيين في ألمانيا، عبرت القناة، التي ما زالت دماء شهداء الجيش المصريّ شاهدة على بطولاتهم، عبرت القناة متجهةً صوب الشواطئ الإيرانيّة، استعدادًا للهجوم المحتمل أوْ المفترض على إيران لتدمير برنامجها النوويّ، وهكذا هم يُحاولون إنتاج النوويّ، ونحن منشغلون من أخمص القدم حتى الرأس، بما في ذلك العقل، هذا إنْ وُجد، في القضية المنويّة. هذا التوحش الجنسيّ يثير الشك بأنّ هؤلاء اكتشفوا فحولتهم فجأةً، ولم يعرفوا بعد أنّ هذه الغريزة تكتشفها الحيوانات بسهولة وبالغريزة.
***
وبما أننّا أتينا على ذكر الشيطان الأكبر، أمريكا، فلا بدّ في هذه العجالة من استقراء تداعيات وإسقاطات زيارة وزير خارجيتها الجديد، جون كيري، تأكيدًا لما اشرنا أعلاه، رئيس الدبلوماسيّة في واشنطن اجتمع إلى وكلائه، لأنّه لا يُمكن نعتهم بالحلفاء، لعدم وجود النديّة أوْ ما شابهها، في السعودية وفي عددٍ من الدول العربيّة وأصدر أوامره للجسم الهلاميّ المسّمى جامعة الدول العربيّة: مقعد سوريّة الشاغر بعد طردها يجب أنْ يُسلّم لما يُطلق عليه الائتلاف السوريّ المعارض، والعرب بكرمهم الحاتميّ، قاموا بإخراج الأمر بسرعةٍ، ربّما تفوق سرعة الضوء، إلى حيّز التنفيذ، ولكنّ الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فقد قام ما يُسمى بمجلس التعاون الخليجيّ بإرسال مبعوث للرئيس اللبنانيّ، ميشال سليمان، ليُعرب أمامه عن عدم رضا المجلس من سياسة النأي بالنفس التي كان قد أعلنها لبنان منذ بداية الأزمة في سوريّة، علاوة على أنّ هذا المبعوث جاء تنفيذًا لأوامر الوزير كيري، لا بدّ هنا من الإشارة إلى أنّ دول الخليج العربيّ، وجهّت، برأينا المتواضع جدًا، تهديدًا مباشرًا للرئيس سليمان، ذلك أنّ مئات آلاف اللبنانيين يعملون في هذه الدول، وإذا استمر لبنان في الالتزام بسياسة النأي بالنفس، فإنّ دول الخليج لن تتورع عن طرد اللبنانيين منها، ذلك لأنّ المثل القائل قطع الأرزاق مثل قطع الأعناق، لا يسري ولا ينسحب على هذه الدول، باختصارٍ شديدٍ، المبعوث حاول ابتزاز الرئيس اللبنانيّ، الذي سيرضخ من منطلق الحرص على مواطنيه لعملية الابتزاز القذرة التي يقوم بها الخليجيون. هذا إذا كان لبنان الرسميّ قد نأى بالنفس حقًا عن التدّخل في سوريّة، قد يكون الرئيس قد نأى ورئيس وزرائه أيضًا، ولكن قوى 14 آذار تنخرط ضد القطر العربي السوريّ وعلانية.
***
وإذا نسينا قضيةً أوْ أمرًا، فلا يُمكننا بأيّ حالٍ من الأحوال أنْ ننسى أوْ نتناسى موقف الراحل تشافيز من دولة الاحتلال، فعدما شنّت هذه الدولة المارقة عدوانها البربريّ على قطاع غزة، أواخر 2008 وأوائل 2009، قام الرئيس الفنزويلي بطرد سفير تل أبيب من كاراكاس وقطع علاقاته مع إسرائيل، في الوقت الذي كان فيه الزعماء العرب يُصدرون بيانات الشجب والاستنكار والتعبير عن الامتعاض، التي لا تُساوي الحبر المكتوبة به، إنّهم كالفئران اختبئوا في جحورهم خوفًا من غضب أمريكا وربيبتيها إسرائيل، أمّا الأنكى من ذلك، يا عرب، أنّ الرئيس تشافيز قال من على منصة الأمم المتحدّة إنّ جورج بوش الابن هو حمار وإرهابيّ، وطالب بجرّ، نعم جرّ، الرئيس الإسرائيليّ، شيمعون بيريس، إلى محكمة العدل الدوليّة في لاهاي لمحاكمته بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانيّة، ووصف إسرائيل بالدولة الإرهابيّة، في حين أنّ الرئيس مرسي وجّه للثعلب السرمديّ بيريس رسالة تهنئة ونعته بالصديق الوفيّ، وعن هذا يُمكن القول والفصل أيضًا: رحم الله امرئـًا عرف قدر نفسه.
***
رحمك الله يا تشافيز… كنت عربيًّا أكثر من العرب…
الشفقة على الحكّام العرب، مع أنّهم لا يستحقونها، الشفقة على حكّامنا الذين باعوا دولهم وشعوبهم وكرامتهم مقابل حفنة من الدولارات الأمريكيّة الملوثّة بدماء الفقراء والمساكين والثوريين والكادحين في العالم قاطبةً.
المصدر :
زهير أندراوس
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة