حين يتحدث العرب والمسلمون عن الرئيس الفنزويلي الراحل هوغو شافيز، يركزون عادة على مواقفه المؤيدة للقضايا العربية، لا سيّما قضية فلسطين، حيث يتذكرون طرد السفير الإسرائيلي من بلاده يوم العدوان الصهيوني على لبنان، فيما امتنع حكام عرب عن ذلك.

ويذكرون له وصوله بطائرته إلى بغداد المحاصرة قبل احتلالها، بينما لم يجرؤ يومها حاكم عربي على أن يغضب الإدارة الأميركية... ويذكرون له رفضه عدوان «الناتو» على ليبيا محذراً من عواقبه، ...وتصديه للتدخل الأجنبي في سوريا.

في تجربة تشافيز المميّزة في جمهورية فنزويلا البوليفارية، درس ينبغي عدم القفز فوقه أو تجاهل معانيه، وهو أنك تستطيع في وقت واحد أن تخوض معركة استقلال بلادك عن الهيمنة الأميركية بنجاح، وتخوض في الوقت ذاته داخل مجتمعك، معركة الديموقراطية والعدالة والتنمية، وداخل محيطك معركة الوحدة بين بلدان قارتك.

فتشافيز الآتي إلى قيادة بلاده من السلك العسكري، مظلياً وقائد كتيبة مدرعات، لم يصل إلى الحكم بواسطة انقلاب عسكري، بل بواسطة انتخابات ديموقراطية شفافة، مكّنته من خلالها شعبيته الكبيرة من أن يحبط انقلاباً عسكرياً عليه في العام 2002، وهو انقلاب وقفت وراءه واشنطن وحيتان المال في بلاده.

وهكذا، فقد أكد تشافيز عمق الارتباط بين الوطنية والديموقراطية، بل أثبت أنه كان وطنياً قادراً على مجابهة كل التحديات، لأنه كان ديموقراطياً أصيلاً يستمد قوته من أبناء شعبه، وفي طليعتهم الفقراء.

وكما نجح تشافيز في ربط الوطنية بالديموقراطية، نجح أيضاً في أن يربط الأمرين بالعدالة الاجتماعية والتنمية المستقلة. فقد أفلح في أن يؤمن لكل مواطن فنزويلي، للمرة الأولى في تاريخ بلاده، ثلاث وجبات كل يوم، تماماً كما نجح في أن يجعل من بلاده خامس أكبر تجمع طلابي في العالم، بعدما فتح العديد من المدارس والجامعات، ناهيك عن الوعد الذي قطعه للشعب الفنزويلي بأن يبني لكل فرد منزلاً لائقاً له، بعد انتهاء ولايته الرئاسية، التي عاجله الموت قبل سنوات على نهايتها.

لم يكن ممكناً لتشافيز أن يفعل كل ما فعله على الصعيد التنموي والاجتماعي، لولا نجاحه في استرداد ثروة بلاده النفطية من الاحتكارات الاستعمارية، وبوضعها في خدمة شعبه تحت شعار «نفط الشعب للشعب»، وهو تكرار لشعار أطلقته «حركة التحرر العربية»، «نفط العرب للعرب».. بل لولا نجاحه أيضاً في إنجاز عملية تنموية جبارة مستقلة تماماً عن النفوذ الأميركي المتعدد الأشكال.

إن المضمون الوطني الديموقراطي التنموي الاشتراكي لتجربة تشافيز في الحكم، ارتبط كذلك بالبعد الوحدوي لهذه التجربة التي يعتبر أن تشافيز، وقبله كاسترو، أدركا مبكراً أن صمود تجربتهما في بلادهما، مرتبط بقدرتهما على الإشعاع والتأثير في محيطهما القاري، فشجعا على حصول تحولات جذرية في العديد من بلدان قارتهم، بل، وهو الأهم، أظهرا محدودية النفوذ الأميركي في العالم إذ وجد من يتحداه ويقاومه.

هذا الدور القاري لبلاده، مكّن تشافيز من قيادة قارته نحو الوحدة، فكان وراء تعزيز نفوذ منظمتها الإقليمية (دول أميركا الجنوبية)، وإقامة المشاريع التي توحد البلاد، فكان «مصرف الجنوب» و«جامعة الجنوب» وصولاً إلى قناة فضائية واحدة لأميركا الجنوبية قناة «سور» (sur).

لهذا كله، رأى تشافيز نفسه يسير على خطى جمال عبد الناصر، ويعلن أكثر من مرة أنه «ناصري»، متعلماً من «الميثاق» دروساً عديدة، لعل أبرزها من دون شك، التلازم بين الديموقراطية السياسية والديموقراطية الاجتماعية، بين الكفاح من أجل الخبز مع الكرامة، والنضال من أجل مجتمع الكفاية والعدل، حرية الوطن وحرية المواطن، وصولاً إلى الوحدة حامية كل إنجاز وصانعة كل مجد للأمم.

فهل ستكشف الأيام أن أيديَ آثمة امتدت إلى جسد تشافيز لتقتله في عزّ عطائه، كما امتدت قبل أربعة عقود أيادٍ مماثلة إلى صحة جمال عبد الناصر، وقبل عقدين ونصف إلى هواري بومدين، وقبل عقد إلى ياسر عرفات، ناهيك عما تعرض له قادة أحرار في أمتنا والعالم من إعدام واغتيال؟
  • فريق ماسة
  • 2013-03-06
  • 8837
  • من الأرشيف

«الـنــاصــريّ» تـشــافـيــز

حين يتحدث العرب والمسلمون عن الرئيس الفنزويلي الراحل هوغو شافيز، يركزون عادة على مواقفه المؤيدة للقضايا العربية، لا سيّما قضية فلسطين، حيث يتذكرون طرد السفير الإسرائيلي من بلاده يوم العدوان الصهيوني على لبنان، فيما امتنع حكام عرب عن ذلك. ويذكرون له وصوله بطائرته إلى بغداد المحاصرة قبل احتلالها، بينما لم يجرؤ يومها حاكم عربي على أن يغضب الإدارة الأميركية... ويذكرون له رفضه عدوان «الناتو» على ليبيا محذراً من عواقبه، ...وتصديه للتدخل الأجنبي في سوريا. في تجربة تشافيز المميّزة في جمهورية فنزويلا البوليفارية، درس ينبغي عدم القفز فوقه أو تجاهل معانيه، وهو أنك تستطيع في وقت واحد أن تخوض معركة استقلال بلادك عن الهيمنة الأميركية بنجاح، وتخوض في الوقت ذاته داخل مجتمعك، معركة الديموقراطية والعدالة والتنمية، وداخل محيطك معركة الوحدة بين بلدان قارتك. فتشافيز الآتي إلى قيادة بلاده من السلك العسكري، مظلياً وقائد كتيبة مدرعات، لم يصل إلى الحكم بواسطة انقلاب عسكري، بل بواسطة انتخابات ديموقراطية شفافة، مكّنته من خلالها شعبيته الكبيرة من أن يحبط انقلاباً عسكرياً عليه في العام 2002، وهو انقلاب وقفت وراءه واشنطن وحيتان المال في بلاده. وهكذا، فقد أكد تشافيز عمق الارتباط بين الوطنية والديموقراطية، بل أثبت أنه كان وطنياً قادراً على مجابهة كل التحديات، لأنه كان ديموقراطياً أصيلاً يستمد قوته من أبناء شعبه، وفي طليعتهم الفقراء. وكما نجح تشافيز في ربط الوطنية بالديموقراطية، نجح أيضاً في أن يربط الأمرين بالعدالة الاجتماعية والتنمية المستقلة. فقد أفلح في أن يؤمن لكل مواطن فنزويلي، للمرة الأولى في تاريخ بلاده، ثلاث وجبات كل يوم، تماماً كما نجح في أن يجعل من بلاده خامس أكبر تجمع طلابي في العالم، بعدما فتح العديد من المدارس والجامعات، ناهيك عن الوعد الذي قطعه للشعب الفنزويلي بأن يبني لكل فرد منزلاً لائقاً له، بعد انتهاء ولايته الرئاسية، التي عاجله الموت قبل سنوات على نهايتها. لم يكن ممكناً لتشافيز أن يفعل كل ما فعله على الصعيد التنموي والاجتماعي، لولا نجاحه في استرداد ثروة بلاده النفطية من الاحتكارات الاستعمارية، وبوضعها في خدمة شعبه تحت شعار «نفط الشعب للشعب»، وهو تكرار لشعار أطلقته «حركة التحرر العربية»، «نفط العرب للعرب».. بل لولا نجاحه أيضاً في إنجاز عملية تنموية جبارة مستقلة تماماً عن النفوذ الأميركي المتعدد الأشكال. إن المضمون الوطني الديموقراطي التنموي الاشتراكي لتجربة تشافيز في الحكم، ارتبط كذلك بالبعد الوحدوي لهذه التجربة التي يعتبر أن تشافيز، وقبله كاسترو، أدركا مبكراً أن صمود تجربتهما في بلادهما، مرتبط بقدرتهما على الإشعاع والتأثير في محيطهما القاري، فشجعا على حصول تحولات جذرية في العديد من بلدان قارتهم، بل، وهو الأهم، أظهرا محدودية النفوذ الأميركي في العالم إذ وجد من يتحداه ويقاومه. هذا الدور القاري لبلاده، مكّن تشافيز من قيادة قارته نحو الوحدة، فكان وراء تعزيز نفوذ منظمتها الإقليمية (دول أميركا الجنوبية)، وإقامة المشاريع التي توحد البلاد، فكان «مصرف الجنوب» و«جامعة الجنوب» وصولاً إلى قناة فضائية واحدة لأميركا الجنوبية قناة «سور» (sur). لهذا كله، رأى تشافيز نفسه يسير على خطى جمال عبد الناصر، ويعلن أكثر من مرة أنه «ناصري»، متعلماً من «الميثاق» دروساً عديدة، لعل أبرزها من دون شك، التلازم بين الديموقراطية السياسية والديموقراطية الاجتماعية، بين الكفاح من أجل الخبز مع الكرامة، والنضال من أجل مجتمع الكفاية والعدل، حرية الوطن وحرية المواطن، وصولاً إلى الوحدة حامية كل إنجاز وصانعة كل مجد للأمم. فهل ستكشف الأيام أن أيديَ آثمة امتدت إلى جسد تشافيز لتقتله في عزّ عطائه، كما امتدت قبل أربعة عقود أيادٍ مماثلة إلى صحة جمال عبد الناصر، وقبل عقدين ونصف إلى هواري بومدين، وقبل عقد إلى ياسر عرفات، ناهيك عما تعرض له قادة أحرار في أمتنا والعالم من إعدام واغتيال؟

المصدر : السفير/ معين بشور


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة