ركّز الاسلام في انطلاقته على أحكام عملانية تتعلق بشؤون الحياة اليومية للناس وتنظيمها، وكان انتشاره وسط القبائل متاحاً، لما لحياة أبناء هذه التجمعات من حاجة الى تنظيم.

 وأفاد الاسلام من خبرة الأديان والحضارات السابقة له، بأن جعل تعاليمه أقرب الى واقع التحديات المعيشية، لكنه بالتأكيد لم يشأ أن يغرق في متاهات التفاصيل اليومية السخيفة، بل أن يستمر في تطلعه الى العلى.

غير ان اسلام محمد بن عبد الله، ليس اسلام محمد مرسي، والاخوان المسلمين، وجبهة النصرة، وتنظيم القاعدة، وغيرها من الفصائل المتسترة بجلباب الإسلام، والتي تحاول، وان بنسب مختلفة، قتل العقل لمصلحة الغرائز، وقتل الإله لمصلحة الأرضيات.

الثورات العربية، وهي حراك مجتمعي متقدم، بدأت تنحو الى أن تكون اسلامية. ولا مشكلة مع الإسلام بما هو دين وحضارة وثقافة عيش، لأنه أصلاً يؤثر في حياتنا اليومية بحكم ان المسلمين أكثرية في دنيا العرب. لكن المشكلة الحقيقية تكمن في اسلام متشدد، متطرف، يرفض الآخر، ويلغي العقل. فها "اسلام سوريا" يقطع رأس أبو العلاء المعري في معرة النعمان في محافظة ادلب، لأنه كان من أبرز الشعراء العباسيين انتقاداً للدين الاسلامي.

وها "اسلام مصر" يسرق في مدينة المنيا رأس تمثال عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، ويحطم القاعدة الهرمية التي يعلوها التمثال. ويصف اسلاميون كثر طه حسين بأنه الأخطر عليهم لأنه دعا الى وصل مصر بالحضارة الغربية وقطع ما يربطها بقديمها واسلامها، والدعوة الى اقامة المواطنة على أساس مدني لا دخل للدين به.

و"اسلام مصر" اعتدى أيضاً على تمثال كوكب الشرق أم كلثوم بأن وضع النقاب على رأسها في أحد ميادين مدينة المنصورة.

وفي مصر أم الدنيا أيضاً، داعية سلفي يلقب نفسه "أبو اسلام" يشتم النساء ويحتقرهن بقوله "ان الفتيات القبطيات اللواتي ذهبن مع أخواتهن المسلمات الى ميدان التحرير بوسط القاهرة للتظاهر، صليبيات داعرات، ذهبن من أجل أن يُغتصبن".

 

هكذا تصبح صورة الثورات أكثر ضبابية، وفي رؤية مقلقة ان "الأنظمة الاسلامية" لن تكتفي باستخدام العنف ضد التماثيل والنصب التي لا تشكل خطراً حقيقياً ما دام أصحابها في عداد الموتى، بل ستلجأ عند الضرورة الى الغاء وجود الأحياء الذين يعارضونها ويمنعونها من فرض سلطتها. وهكذا لن يقتصر الأمر على تكسير تمثال، وتفجير كنيسة، واتهام قبطيات، واثارة فتن طائفية ومذهبية، بل سيتحول الى الجريمة الكاملة.

هذه الثورات، كما يبدو، تنقلنا من ديكتاتوريات العسكر الى ديكتاتوريات الاسلاميين، واذا كنا لا نريد ان نستبق نتائجها النهائية التي تحتاج الى وقت طويل، فاننا نخشى أن تتم محاولة اسكات المعري في قبره لأنه صدق اذ قال "إثنان أهل الأرض، ذو عقل بلا دين، وآخر ديّن لا عقل له".

 

  • فريق ماسة
  • 2013-02-19
  • 10457
  • من الأرشيف

الربيع العربي يغتال العقل!

ركّز الاسلام في انطلاقته على أحكام عملانية تتعلق بشؤون الحياة اليومية للناس وتنظيمها، وكان انتشاره وسط القبائل متاحاً، لما لحياة أبناء هذه التجمعات من حاجة الى تنظيم.  وأفاد الاسلام من خبرة الأديان والحضارات السابقة له، بأن جعل تعاليمه أقرب الى واقع التحديات المعيشية، لكنه بالتأكيد لم يشأ أن يغرق في متاهات التفاصيل اليومية السخيفة، بل أن يستمر في تطلعه الى العلى. غير ان اسلام محمد بن عبد الله، ليس اسلام محمد مرسي، والاخوان المسلمين، وجبهة النصرة، وتنظيم القاعدة، وغيرها من الفصائل المتسترة بجلباب الإسلام، والتي تحاول، وان بنسب مختلفة، قتل العقل لمصلحة الغرائز، وقتل الإله لمصلحة الأرضيات. الثورات العربية، وهي حراك مجتمعي متقدم، بدأت تنحو الى أن تكون اسلامية. ولا مشكلة مع الإسلام بما هو دين وحضارة وثقافة عيش، لأنه أصلاً يؤثر في حياتنا اليومية بحكم ان المسلمين أكثرية في دنيا العرب. لكن المشكلة الحقيقية تكمن في اسلام متشدد، متطرف، يرفض الآخر، ويلغي العقل. فها "اسلام سوريا" يقطع رأس أبو العلاء المعري في معرة النعمان في محافظة ادلب، لأنه كان من أبرز الشعراء العباسيين انتقاداً للدين الاسلامي. وها "اسلام مصر" يسرق في مدينة المنيا رأس تمثال عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، ويحطم القاعدة الهرمية التي يعلوها التمثال. ويصف اسلاميون كثر طه حسين بأنه الأخطر عليهم لأنه دعا الى وصل مصر بالحضارة الغربية وقطع ما يربطها بقديمها واسلامها، والدعوة الى اقامة المواطنة على أساس مدني لا دخل للدين به. و"اسلام مصر" اعتدى أيضاً على تمثال كوكب الشرق أم كلثوم بأن وضع النقاب على رأسها في أحد ميادين مدينة المنصورة. وفي مصر أم الدنيا أيضاً، داعية سلفي يلقب نفسه "أبو اسلام" يشتم النساء ويحتقرهن بقوله "ان الفتيات القبطيات اللواتي ذهبن مع أخواتهن المسلمات الى ميدان التحرير بوسط القاهرة للتظاهر، صليبيات داعرات، ذهبن من أجل أن يُغتصبن".   هكذا تصبح صورة الثورات أكثر ضبابية، وفي رؤية مقلقة ان "الأنظمة الاسلامية" لن تكتفي باستخدام العنف ضد التماثيل والنصب التي لا تشكل خطراً حقيقياً ما دام أصحابها في عداد الموتى، بل ستلجأ عند الضرورة الى الغاء وجود الأحياء الذين يعارضونها ويمنعونها من فرض سلطتها. وهكذا لن يقتصر الأمر على تكسير تمثال، وتفجير كنيسة، واتهام قبطيات، واثارة فتن طائفية ومذهبية، بل سيتحول الى الجريمة الكاملة. هذه الثورات، كما يبدو، تنقلنا من ديكتاتوريات العسكر الى ديكتاتوريات الاسلاميين، واذا كنا لا نريد ان نستبق نتائجها النهائية التي تحتاج الى وقت طويل، فاننا نخشى أن تتم محاولة اسكات المعري في قبره لأنه صدق اذ قال "إثنان أهل الأرض، ذو عقل بلا دين، وآخر ديّن لا عقل له".  

المصدر : غسان حجار


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة