دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
قلعة الصناعة السورية تهاوت بفعل تطورات الأزمة. عجلة الإنتاج توقفت في حلب، التي يرى وسطها الصناعي أن تطوّر العلاقات السورية التركية جاء على حساب الصناعة المحلية. انتهى الأمر بقيام تركيا بحملة تدمير ممنهجة للبنى التحتية للصناعة الحلبية، اتخذت شكلاً لصوصياً، في ما يعتقد أنه سيكون ملفاً في المحاكم الدولية أيّاً كانت نتيجة الصراع
بعد أسابيع قليلة على اندلاع العنف في سوريا، وإحجام حلب بنخبها الصناعية والتجارية وطبقتها الوسطى عن الانخراط في عملية إسقاط النظام، تحوّل أهاليها إلى هدف «للغاضبين». إهانات على الطرقات وأعمال خطف وسلب بالعنف، خلال قطع الطرقات المؤدية إليها من العاصمة والساحل. ثمّ تهديدات بالقتل لصناعيين وبحرق معاملهم لتصل ذروتها الصيف الماضي ببدء عملية تدمير كبرى للصناعة، بحرق وتفكيك الآلات ونقلها إلى تركيا، وتحويل شمال سوريا إلى سوق تستفرد فيه الصناعة التركية.
معامل علبي
مسلسل تدمير الصناعة السورية في حلب بدأ بافتعال حريقين متتاليين في مجموعة معامل «علبي» على طريق حلب _ دمشق أتت عليها كلها، حيث روجت وسائل الإعلام أخباراً كاذبة عن سبب الحريق الأول قبل صدور بيان رسمي بأنّه من فعل «شبيحة» يمولهم آل علبي بسبب عدم دفع رواتبهم! وقدّمت وسائل الإعلام شهادات مفبركة عن ذلك منسوبة إلى «شهود عيان» أو «أصدقاء» لعائلة علبي، ولم تمضِ أيام عديدة، حتى قضى حريق ثانٍ متعمد على ما بقي من المعامل.
وروّجت وسائل الإعلام، مجدداً، نقلاً عن «مصادر» مقربة من بسام علبي، الذي كان وقتها في العناية المشددة ليفارق الحياة بعد فترة قصيرة، أنّ «شبيحة» نفذوا تهديداتهم له بحرق بقية المعامل؛ لأنّه لم يسدد رواتبهم. جرى القضاء على أسطورة النسيج العلبية التي كانت تشغّل ثلاثة آلاف عامل، معظمهم من أرياف إدلب لتقذف بهم إلى رصيف البطالة، فتتلقّفهم كتائب «الجيش الحر» مقابل راتب موعود، يموّل عبر خطف ونهب صناعيي وتجار حلب ومهنييها، في وقت كانت تتولى فيه وسائل إعلام «الحر» التغطية على الفاعلين عبر ترويج التهمة الجاهزة: شبيحة النظام تخطف الأبرياء لتشوّه سمعة الثورة.
وقبل حرق معامل العلبي، قُتل الصناعي محمد الويس، ومن بعدها جرى الاستيلاء على معامل العائلة القريبة من سراقب ونهبها، وخُطف اثنان من أفراد العائلة، لتكرّ السبحة بعد ذلك بخطف المئات من أثرياء حلب وأطبائها وأبنائهم وبناتهم مقابل الفدية التي كانت بعشرات الملايين بداية الأزمة، لتصبح بعد عام بعدة مئات من الألوف، وليصبح للخطف جماعات تحاكي الثورة الصناعية بتطورها من الورشة البسيطة إلى المصانع الكبرى، أي تقسيم أجزاء العمل. فهنالك حسب قسمة العمل «الثورية» الجديدة من يخطف بالجملة ليسلم المخطوفين إلى تجار يقومون بتوزيعهم على جماعات تخفيهم وتحافظ على حيواتهم ريثما تُدفع الفدية، وأُنشئت لهذا الغرض «مكاتب» حقيقية تعمل على إتمام صفقة الإفراج مقابل نسبة من الفدية.
حالة رعب تملّكت صناعيي حلب بعد ذلك، بالتزامن مع قطع الطرقات، وتوقّف السكك الحديدية وأنابيب المشتقات النفطية، وتعرّض القوافل التجارية التي تحمل المواد الأولية والسلع المصنعة للنهب، لتبدأ مرحلة دفع «الخوات» لقادة المسلحين، اتقاءً لحرقها ومقابل عدم التعرض لها أو لأصحابها.
خلية الأزمة
في بداية عام 2012، وبعد تصاعد حوادث الخطف وتهديد مئات الصناعيين بتهمة تمويل «الشبيحة» أو الامتناع عن تمويل الثورة، اجتمعت خلية الأزمة مع فعاليات المدينة الاقتصادية الصناعية والتجارية والمهنية، وكانت مطالبهم ضرب قطاع الطرق وعصابات الخطف بيد من حديد، حيث انتقل كابوس قطع طريق حلب _ دمشق إلى طريق حلب _ تركيا، ولتفشل لقاءات وزير الداخلية مع وجهاء عندان وحريتان وغيرها في وضع حدّ لقطع الطريق الدولية الشمالية.
الضوء الأخضر الذي كانت تنتظره القيادة السورية لتكليف الجيش مهمة حفظ الأمن حصلت عليه بعد تصاعد الشكوى من المجتمع الحلبي، لكن اتساع نطاق التمرد المسلّح كان أسرع من محاولة احتوائه. لم تنجح عملية الجيش في الريف الحلبي الشمالي ودخول عندان وحريتان وهروب المسلحين منهما في وقف التدهور الأمني، بالأخص مع فتح الحدود التركية على مصراعيها للمسلحين والسلاح، ولتبدأ بالتصاعد مع حلول الصيف الماضي الهجمات على المعامل والمنشآت وفرض الأتاوات على أصحابها، والسطو على الأملاك الخاصة والعامة على محور حلب _ أعزاز، الذي شهد فورة اقتصادية هائلة في السنوات العشر الأخيرة، وبالأخص مع الانفتاح بين تركيا وسوريا، ليُطبق المسلحون بعدها على محيط حلب بشكل كامل.
مجزرة الآلات
في رمضان الفائت، بدأت أكبر عملية تدمير ممنهجة لمعامل حلب، حيث تشير مصادر في «غرفة صناعة حلب» لـ«الأخبار» إلى تجاوز عدد المعامل التي نُهبت وسُرقت الألف معمل، وقد وُثِّق الجزء الأكبر من ذلك استعداداً لمقاضاة الدولة التركية المسؤولة عن ذلك، حيث يحصل بعلمها وإشرافها ومشاركتها تفكيك المعامل ونقلها إلى تركيا، «مشيرة إلى أن رقم الخسائر يتجاوز 300 مليار ليرة سورية».
آلاف المعامل الكبيرة والمتوسطة نُهبت وسرقت مخزوناتها من السلع المصنعة والمواد الأولية، فيما الآلات التي وجدت طريقها مفتوحاً بكل حرية إلى الأراضي التركية وبعضها جرى قصه بالمناشر الفولاذية ليصبح خردة حديد «سكراب» للبيع، ومن ثم الصهر في معامل الحديد التركية.
محمد بيطار، وهو من عائلة تمتلك معملاً للنسيج في الشيخ نجار، يقول: «سرق مسلحون من الجيش الحر معملنا، وقام اللصوص بقصّ الآلات التي يبلغ طولها 15 متراً وبيعها كحديد سكراب بعشر ثمنها لتركيا».
بدوره، قال أبو أحمد، وهو صناعي نسيج، راجياً عدم نشر اسمه: «لا أحد يعرف أنني صناعي. معملي في الشيخ نجار نُهب، وأنا الآن مع أولادي واثنين من العمال نبيع الألبسة، والمعلبات، والشموع، والمواد الغذائية على الرصيف». يشير إلى البسطات التي «يديرونها»، ويضيف بحدة: «لكن قَسماً أموت من الجوع، ولن أبيع سلعة تركية واحدة على البسطة».
ويستشهد الصناعي الحلبي بقيام «حكومة أردوغان باعتقال عدد من المحامين الأتراك الذين زاروا سوريا وحصلوا على الوثائق التي تدين حكومته في قضية تدمير الصناعة الحلبية وسرقة المعامل، وبيعها لتجار أتراك بإشراف ضباط استخباراته».
من جهته، قال إبراهيم كلور، وهو صناعي مختص بقطع غيار الآليات الهندسية الثقيلة، أنّه «جرى غزو المناطق الصناعية حتى داخل المدينة. فقدت معملي وآلاته وموجوداته، العمل أصبح مستحيلاً، والضربات التي تلقتها الصناعة في حلب ممنهجة ومحطمة». وأشار إلى حادثة خطفه على الطريق الدولية حيث «تعرضت للخطف وأُطلق سراحي مقابل فدية».
اتصالات بين باريس وحلب
بالمقابل، جرت اتصالات بين رجال أعمال سوريين في باريس مع نظراء لهم في حلب لإقناعهم بالتفاهم مع مسلحي الميليشيات لافتتاح ما بقي من المعامل مقابل مبالغ مالية. إلّا أنّ المحاولة محكوم عليها بالفشل وفق صناعي كبير تلقى عرضاً من ضابط سوري منشق يقيم في باريس؛ لأنّ «الأمر ليس متعلقاً بسماح المسلحين بافتتاح المعمل فحسب، بل بتأمين طرق المواصلات والوقود وحرية قوافل الترانزيت»، موضحاً أنّ «التفاهم مع المجموعات المسيطرة على المدينة الصناعية لا يكفي، بل يجب إرضاء عشرات الكتائب المنتشرة على الطرق الدولية، أو التي يمكنها خلال دقائق الوصول إليه وقطع الطريق».
الحقد الطبقي
وصف النقابات الصفراء ينطبق على النقابات العمالية السورية، فلا هي بنقابات «حمراء» عمالية ولا هي بنقابات «بيضاء» تتبع مصالح أرباب العمل أو السلطة. ومعظم منتسبيها هم من العاملين لدى الدولة، فيما غابت الحياة النقابية عن تجمعات عمال القطاع الخاص، الذين يعملون بلا ضمانات حقيقية، فغابت عنهم إرادة حماية معاملهم، وأقل من عشرة بالمئة منهم مسجلون في التأمينات الاجتماعية وبرواتب الحدّ الأدنى، لا بالرواتب والأجور الحقيقية.
لا تقاليد عمالية لدى عمال القطاع الخاص في حلب، الأمر الذي جعل من العمال شريحة غير مسيّسة، بل إن عشرات الآلاف منهم شاركوا بطلب من أرباب العمل في مسيرات التأييد للإصلاحات التي أعلنها الرئيس بشار الأسد.
وأسهم الحقد الطبقي في الحالة السلبية التي أبدتها الشرائح العمالية غير المنتظمة في نقابات تجاه ما تتعرض له الصناعة.
ويبلغ عدد العمال في القطاع الخاص في حلب نحو 500 ألف عامل، فقدَ معظمهم عمله بسبب سيطرة المسلحين على المناطق الصناعية، وصعوبة التنقل، وإفلاس الكثير من الصناعيين. بالمقابل، عرض رئيس اتحاد غرف الصناعة السورية، فارس الشهابي، على مسلحي حلب تشغيلهم في المعامل وحراستها مقابل إلقاء السلاح والانضمام إلى العملية السياسية، مؤكداً قدرة المجتمع الاقتصادي الحلبي على إعادة البناء خلال عام واحد فقط.
«لصّ حلب»
وجّه رئيس اتحاد غرف الصناعة السورية، فارس الشهابي، كتاباً إلى وزارة الخارجية السورية لمطالبتها بإثارة قضية سرقة المعامل الحلبية في أروقة الأمم المتحدة، مؤكداً وقوع عمليات سرقة بشكل يومي للمعامل السورية وأنّ الناس في حلب ينظرون إلى رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان على أنّه «لص حلب».
وانتقد الشهابي تشكيك المعارضة السورية بالتصريحات الحكومية عن عمليات سرقة للمصانع من جانب تركيا، وقال: «ليست الحكومة من تحدث عن ذلك، بل إنّ اتحاد غرف الصناعة السورية هو الذي طالب وزارة الخارجية بإرسال كتاب إلى مجلس الأمن الدولي بهذا الشأن». وأشار إلى أنّ «من يدافع عن اللصّ يكون شريكاً له».
المصدر :
باسل ديوب\ الاخبار
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة