وصلت السياسة الأمريكية في الملف السوري إلى مفترق حرج بسبب التطورات الداخلية وانعكاسات الأزمة على دول الجوار. ويواجه صناع القرار الأمريكي خيارات صعبة تنطلق من مصالح البيت الابيض الجيوسياسية في المنطقة.

ومازالت واشنطن تراوغ سياسيا دون الإلتفات إلى معاناة السوريين وإمكانية تطور الأمور إلى حرب أهلية قد تشعل الإقليم المنقسم بحدة على خلفية الأزمة.

وتشكل تطورات المواجهات العسكرية بين القوات المعارضة والجيش السوري، وصعود التيارات "الجهادية"، ضغوطا إضافية باتجاه حسم الموقف الأمريكي وجعله أكثر وضوحا بعدما اتسم بالغموض طويلا، وعدم تبني سياسة واضحة للحل، عسكرية كانت أم عن طريق تشجيع الحل التفاوضي السلمي. ومازالت واشنطن مصرة على تحديد مصير الرئيس بشار الأسد قبل أي مفاوضات، رغم أن الأزمة باتت تهدد أمن واستقرار الاقليم.

ويقلّ هامش المناورة كثيرا عند الإدارة الأمريكية مع ازدياد المخاوف من حرب أهلية بمكونات طائفية تهدد وقوع المنطقة بالفوضى، وقد تطال نيرانها حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة وفي مقدمتهم إسرائيل. وتفرض الأحداث ضرورة خروج واشنطن عن سياسة الظل، والتوقف عن التذرع بالموقف الروسي والصيني وكيل الاتهامات بأنهما كانا السبب في تعطيل التوصل إلى حلول للأزمة السورية.

وتكشف تصريحات الرئيس الأمريكي باراك أوباما وكبار مساعديه في الإدارتين السابقة والجديدة عدم وجود استراتيجية واضحة في التعامل مع الملف السوري، فأوباما الذي دعا الرئيس السوري بشار الأسد إلى الرحيل في أغسطس/ آب 2011، أعلن في خطاب القسم انتهاء عقد الحروب الخارجية، وقال في خطاب حالة الاتحاد منذ أيام أن إدارته ستواصل "الضغط على النظام السوري ، وسندعم قادة المعارضة الذين يحترمون حقوق جميع السوريين". وبعدها كشف وزير الدفاع السابق ليون بانيتا، ورئيس هيئة الاركان الامريكية المشتركة الجنرال مارتن ديمبسي انهما، مع وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، أبدوا تأييدا لفكرة تسليح مقاتلي المعارضة في سورية اثناء مناقشات جرت داخل ادارة الرئيس بشأن كيفية المساعدة في انهاء الحرب الاهلية الدائرة هناك في الصيف الماضي، لكن سيد البيت الأبيض حسم الموضوع بالرفض. وأقر ديمبسي أنه لا توجد خطة محددة قيد البحث.

 

وفي المقابل أشارت تقارير إلى ان الولايات المتحدة شجعت حتى وقت ليس بعيدا أطرافا إقليمية وأعطتها ضوءاً أخضر لتسليح المعارضة، لكنها فوجئت بأن الدعم وصل إلى المقاتلين التابعين للتيارات الإسلامية والجهادية بدلا من الوصول إلى مليشيا "الجيش الحر"، ما اضطرها إلى طلب وقف الدعم لاحقا. كما أن الإدارة أرسلت إشارات ورسائل في نصف السنة الماضية، قبل إعادة انتخاب أوباما، مفادها بأن فترة ما بعد الانتخابات سوف تشهد انخراطا أمريكيا كبيرا في حل الأزمة السورية ، قد يصل إلى التدخل المباشر،  وكسباً للوقت دعت في مناسبات عدة إلى توحيد المعارضة، وطالبتها بإعطاء ضمانات للمرحلة الانتقالية، وصوغ مشروع لطبيعة الحكم بعد "سقوط النظام". ولكن الأوضاع سارت في منحى معاكس.. ويبدو أن العوامل السابقة وتحرر أوباما من ضغوط الحملة الانتخابية لم تحمل أي جديد فيما يخص التعامل مع الأزمة.

المراهنة على موسكو وعلى الميدان لتغيير حسابات الأسد...

وفي تصريحات وزير الخارجية الامريكي الجديد جون كيري الأخيرة حاولت واشنطن الإيحاء بأنها باتت أكثر تقبلا للمقاربة الروسية بضرورة التفاوض بين النظام والمعارضة. فقد أكد كيري أن واشنطن «متفائلة بإمكانية إيجاد أرضية مشتركة مع روسيا» في شأن الملف السوري. لكن الوزير الأمريكي واصل المناورة من أجل تحميل أي فشل ممكن على الحجة القديمة وهي عدم التوصل إلى توافقات مع موسكو، وهو ما برز في المؤتمر الصحفي عقب لقاء نظيره الأردني ناصر جودة الأسبوع الماضي. فقد أشار كيري إلى أن سياسة الرئيس أوباما حيال سورية تنطلق "من تفضيله الحل السياسي عبر التفاوض، بما يؤدي إلى رحيل الأسد"، وأن أوباما "يعتقد أن هذا سيحصل". ..ورفض الخوض في أي جدول زمني لرحيل الأسد، وقال إن " مسار الأمور على الأرض سيؤدي في نقطة ما إلى هذا الأمر، وهو حتمي". اللافت أن الوزير الأمريكي حاول الهروب إلى الأمام حين شدد على أن على العالم أن يقنع الأسد بالتنحي عبر حل تفاوضي مع المعارضة، وقال إن "في وسع روسيا أن تلعب دوراً أساسياً في وضع حد للنزاع في هذا البلد". ان كلام كيري هذا استدعى ردا واضحا من نظيره الروسي سيرغي لافروف في لقاء مع محطة "إي آ ردي" الألمانية جدد فيه القول إن روسيا لا تحمي الأسد وبأنها لا تهتم بالشخصيات بل بمصير الشعب السوري و"بمصير سورية كدولة ذات سيادة ومستقلة ومتعددة المذاهب والطوائف"، وأوضح لافروف أنه "إذا كانت أولوية البعض عدم إنقاذ حياة الناس بل إسقاط الأسد بطريقة أو بأخرى، فالأسد لن يرحل، وهو قال ذلك علنية، وهو لن يصغي إلينا ولا إلى الصينيين ولا إلى الإيرانيين ولا لأي أحد". وأكد لافروف أنه في حال الرغبة في استقرار الوضع فلا بديل عن "الجلوس وإجراء تحليل صادق لما يحدث، تاركين جانبا الطموحات والتطلعات الجيوسياسية".

ركائز السياسة الأمريكية في التعامل مع سورية...

تفاجأت الولايات المتحدة بثورات الربيع العربي، وفي الردود الأولى أظهرت المواقف الأمريكية ارتباكا واضحا، خصوصا أن الحراك بدأ في مصر وتونس المحسوبتين تاريخيا ضمن أصدقاء واشنطن في المنطقة. وشيئا فشيئا بدأت واشنطن تصوغ خططا بديلة للتعامل مع الأوضاع المستجدة، ومن نافلة القول إنها ارتاحت للحراك ضد الرئيس الأسد ووجدت فيه فرصة سانحة لتقزيم دور سورية الإقليمي، وتدمير مقدراتها العسكرية وبنيتها التحتية خدمة لمصلحة إسرائيل، وانتقاما من دعم المقاومة في العراق وفلسطين ولبنان.

وعموما تتمحور الخطوط العامة للسياسة الأمريكية في المنطقة بعد الربيع العربي على احتواء آثار التغيير في الأنظمة الجديدة للمحافظة على مصالحها، ومنع "التطرف السني"، ومعالجة ملف إيران النووي، إضافة إلى حماية الأنظمة الملكية المؤيدة لها من الإنهيار وضمان عدم تعرضها لهزات عنيفة تأثرا بموجة الثورات التي عصفت بالمنطقة. ويبقى أمن إسرائيل العامل المحرك الأهم في السياسات الأمريكية.

وتهدف السياسة الأمريكية إلى الضغط على إيران وتجريدها من أهم حلفائها في المنطقة، وفصل محور المقاومة الجامع بين إيران وحزب الله مرورا بدمشق. وتعود هذه السياسة إلى ما قبل الثورات العربية، ففي أول عامين من حكم أوباما سعت إدارته إلى تفكيك هذا المحور عبر تشجيع دمشق على التفاوض مع إسرائيل عن طريق وسطاء، وتشجيع حلفائها في المنطقة على تقديم حوافز لدمشق من أجل انهاء تحالفها مع إيران.

ويبقى اهتمام أمريكا وحليفتها إسرائيل منصبا على "الأسلحة الكيمياوية والبيولوجية"السورية، إضافة إلى تعطيل أي محاولة لنقل الأسلحة الصاروخية التقليدية أرض-أرض، أو الصواريخ المضادة للطائرات والدروع، إلى حزب الله، ومنع وقوعها في أيدي المجموعات المسلحة جهادية كانت أم غيرها. ولم يخفف تشكيل هيئة أركان موحدة لمليشيا"الجيش الحر" من هذه المخاوف الأمريكية على ما يبدو، وظلت هذه المخاطر كابوسا يؤرق صناع القرار في واشنطن، خصوصا لأن الحل يتطلب القيام بعملية عسكرية ونشر عشرات ألوف الجنود الأمريكيين وغيرهم القادرين على التعامل مع خطر الأسلحة البيولوجية والكيمياوية.

لكن تلكؤ واشنطن وعدم وجود استراتيجية واضحة للتعامل مع أزمة سورية يشي بأنها مازالت ترغب في كسب مزيد من الوقت عبر تبني مبدأ عدم الوضوح، وتشجيع العنف الداخلي، المنفلت من أي عقال، في محاولة ربما لإعطاء الوقت لحلفائها في المنطقة من أجل القيام باصلاحات سياسية واجتماعية ذات صدقية تمنع عنها انتقال شرارة الاحتجاجات. وفي هذا الإطار فإن دموية المشهد السوري تحدّ من الاحتجاجات في الاقليم، وتجعل شعوب الجوار أكثر اقتناعا بالاصلاحات من القيادة، حتى وإن لم ترق إلى المستوى المطلوب. فالبديل حالة من مشهد دموي وانقسام مجتمعي ودمار للبنية التحتية، كما هو حاصل حاليا في سورية، وما حصل في ليبيا، مما تسبب في وقف تأثير الدمينو الذي كان يمكن أن يعصف بحلفاء واشنطن الرئيسيين في المنطقة، ويخلق معادلات جديدة في الصراع العربي الإسرائيلي.

 

السياسة الأمريكية أمام مفترق حرج...

ويبدو أن طريقة تعامل واشنطن مع الأزمة السورية وصلت إلى مفترق حرج، مما يدفعها إلى البحث بسرعة عن وسائل تسهل الخروج من عنق الزجاجة. فالتطورات الميدانية تفرض نفسها بقوة، فالمعارك في حلب مستمرة للشهر السابع دون إمكانية الحسم، ونجم التيارات الجهادية في صعود، ومع ضعف بالسيطرة على المناطق الشرقية،  ويتضح أن أيا من الطرفين لن يستطيع حسم الأمور عسكريا في فترة قصيرة، بينما المحيط الإقليمي يغلي بفعل أنباء القتل، وازدياد الاصطفافات ......، ولجوء ألوف السوريين يوميا إلى دول الجوار.

والواضح أن إدارة أوباما أوصلت نفسها إلى خيارات أحلاها مرّ؛ فإما دعم المعارضة بالأسلحة، مع عدم وجود ضمانات بأنها لن تقع في أيدي الإسلاميين وعدم استخدامها ضد إسرائيل أو لتقويض أمن واستقرار دول الجوار، وإما التحالف مع الرئيس الأسد لمواجهة خطر الإسلاميين الجهاديين، أو التدخل العسكري، بما يعني عودة واشنطن إلى سياسة تجريب المجرب في حربي العراق وأفغانستان. ويبقى الاعتراف بالحكومة المؤقتة للمعارضة السورية كأحد الخيارات الأقل كلفة "أمريكيا"، ولكنه يحتاج إلى فرض منطقة حظر طيران على مناطق التي تتواجد فيها عصابات الجيش الحر  ، كما أنه لا يعني استقرار الأوضاع، فالمعارك سوف تتواصل وقد تشتد في بعض المناطق، وقد يفتح هذا الخيار على تقسيم سورية ...واشغالها لسنوات في بحر من الدماء في معارك لتوحيدها مرة أخرى. ومع الأسف يبدو أن الولايات المتحدة، وعكس التصريحات المعلنة، لا تعطي أولوية لرفع المعاناة عن السوريين، رغم الفاتورة الباهظة من عشرات ألوف القتلى، ومئات ألوف اللاجئين، وملايين النازحين، إلى تدمير البنية التحتية للبلاد. ولا تضغط واشنطن للتوصل إلى حلول تفاوضية تنطلق من الحفاظ على الدولة السورية، وتحقن دماء الأبرياء، وتحصر جلّ اهتمامها بمصير الرئيس الأسد، ولا تتعاون بما يكفي مع جهود موسكو لجمع المعارضة والنظام على طاولة الحوار، رغم أن روسيا وعلى لسان أكثر من مسؤول أكدت على أنها غير متمسكة بالأسد، لكنها لن تطلب منه الرحيل لأن هذا ما يجب أن يقرره السوريون وحدهم، ولأنها مقتنعة بأنه يجب التفكير في أن سقوط الأسد، أو إسقاطه، لن يشكل حلا للأزمة، بل قد يعقدها أكثر، وقد يسرع اشتداد القتال وزيادة أعداد اللاجئين بانتقال الصراع في سورية إلى الإقليم المجاور، الى العراق والأردن ولبنان وتركيا، ونشوب حرب طائفية في سورية والمنطقة وتحول سورية إلى دولة فاشلة تصدر العنف إلى جيرانها.

 

  • فريق ماسة
  • 2013-02-16
  • 7569
  • من الأرشيف

خيارات واشنطن في الأزمة السورية أحلاها مرّ

وصلت السياسة الأمريكية في الملف السوري إلى مفترق حرج بسبب التطورات الداخلية وانعكاسات الأزمة على دول الجوار. ويواجه صناع القرار الأمريكي خيارات صعبة تنطلق من مصالح البيت الابيض الجيوسياسية في المنطقة. ومازالت واشنطن تراوغ سياسيا دون الإلتفات إلى معاناة السوريين وإمكانية تطور الأمور إلى حرب أهلية قد تشعل الإقليم المنقسم بحدة على خلفية الأزمة. وتشكل تطورات المواجهات العسكرية بين القوات المعارضة والجيش السوري، وصعود التيارات "الجهادية"، ضغوطا إضافية باتجاه حسم الموقف الأمريكي وجعله أكثر وضوحا بعدما اتسم بالغموض طويلا، وعدم تبني سياسة واضحة للحل، عسكرية كانت أم عن طريق تشجيع الحل التفاوضي السلمي. ومازالت واشنطن مصرة على تحديد مصير الرئيس بشار الأسد قبل أي مفاوضات، رغم أن الأزمة باتت تهدد أمن واستقرار الاقليم. ويقلّ هامش المناورة كثيرا عند الإدارة الأمريكية مع ازدياد المخاوف من حرب أهلية بمكونات طائفية تهدد وقوع المنطقة بالفوضى، وقد تطال نيرانها حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة وفي مقدمتهم إسرائيل. وتفرض الأحداث ضرورة خروج واشنطن عن سياسة الظل، والتوقف عن التذرع بالموقف الروسي والصيني وكيل الاتهامات بأنهما كانا السبب في تعطيل التوصل إلى حلول للأزمة السورية. وتكشف تصريحات الرئيس الأمريكي باراك أوباما وكبار مساعديه في الإدارتين السابقة والجديدة عدم وجود استراتيجية واضحة في التعامل مع الملف السوري، فأوباما الذي دعا الرئيس السوري بشار الأسد إلى الرحيل في أغسطس/ آب 2011، أعلن في خطاب القسم انتهاء عقد الحروب الخارجية، وقال في خطاب حالة الاتحاد منذ أيام أن إدارته ستواصل "الضغط على النظام السوري ، وسندعم قادة المعارضة الذين يحترمون حقوق جميع السوريين". وبعدها كشف وزير الدفاع السابق ليون بانيتا، ورئيس هيئة الاركان الامريكية المشتركة الجنرال مارتن ديمبسي انهما، مع وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، أبدوا تأييدا لفكرة تسليح مقاتلي المعارضة في سورية اثناء مناقشات جرت داخل ادارة الرئيس بشأن كيفية المساعدة في انهاء الحرب الاهلية الدائرة هناك في الصيف الماضي، لكن سيد البيت الأبيض حسم الموضوع بالرفض. وأقر ديمبسي أنه لا توجد خطة محددة قيد البحث.   وفي المقابل أشارت تقارير إلى ان الولايات المتحدة شجعت حتى وقت ليس بعيدا أطرافا إقليمية وأعطتها ضوءاً أخضر لتسليح المعارضة، لكنها فوجئت بأن الدعم وصل إلى المقاتلين التابعين للتيارات الإسلامية والجهادية بدلا من الوصول إلى مليشيا "الجيش الحر"، ما اضطرها إلى طلب وقف الدعم لاحقا. كما أن الإدارة أرسلت إشارات ورسائل في نصف السنة الماضية، قبل إعادة انتخاب أوباما، مفادها بأن فترة ما بعد الانتخابات سوف تشهد انخراطا أمريكيا كبيرا في حل الأزمة السورية ، قد يصل إلى التدخل المباشر،  وكسباً للوقت دعت في مناسبات عدة إلى توحيد المعارضة، وطالبتها بإعطاء ضمانات للمرحلة الانتقالية، وصوغ مشروع لطبيعة الحكم بعد "سقوط النظام". ولكن الأوضاع سارت في منحى معاكس.. ويبدو أن العوامل السابقة وتحرر أوباما من ضغوط الحملة الانتخابية لم تحمل أي جديد فيما يخص التعامل مع الأزمة. المراهنة على موسكو وعلى الميدان لتغيير حسابات الأسد... وفي تصريحات وزير الخارجية الامريكي الجديد جون كيري الأخيرة حاولت واشنطن الإيحاء بأنها باتت أكثر تقبلا للمقاربة الروسية بضرورة التفاوض بين النظام والمعارضة. فقد أكد كيري أن واشنطن «متفائلة بإمكانية إيجاد أرضية مشتركة مع روسيا» في شأن الملف السوري. لكن الوزير الأمريكي واصل المناورة من أجل تحميل أي فشل ممكن على الحجة القديمة وهي عدم التوصل إلى توافقات مع موسكو، وهو ما برز في المؤتمر الصحفي عقب لقاء نظيره الأردني ناصر جودة الأسبوع الماضي. فقد أشار كيري إلى أن سياسة الرئيس أوباما حيال سورية تنطلق "من تفضيله الحل السياسي عبر التفاوض، بما يؤدي إلى رحيل الأسد"، وأن أوباما "يعتقد أن هذا سيحصل". ..ورفض الخوض في أي جدول زمني لرحيل الأسد، وقال إن " مسار الأمور على الأرض سيؤدي في نقطة ما إلى هذا الأمر، وهو حتمي". اللافت أن الوزير الأمريكي حاول الهروب إلى الأمام حين شدد على أن على العالم أن يقنع الأسد بالتنحي عبر حل تفاوضي مع المعارضة، وقال إن "في وسع روسيا أن تلعب دوراً أساسياً في وضع حد للنزاع في هذا البلد". ان كلام كيري هذا استدعى ردا واضحا من نظيره الروسي سيرغي لافروف في لقاء مع محطة "إي آ ردي" الألمانية جدد فيه القول إن روسيا لا تحمي الأسد وبأنها لا تهتم بالشخصيات بل بمصير الشعب السوري و"بمصير سورية كدولة ذات سيادة ومستقلة ومتعددة المذاهب والطوائف"، وأوضح لافروف أنه "إذا كانت أولوية البعض عدم إنقاذ حياة الناس بل إسقاط الأسد بطريقة أو بأخرى، فالأسد لن يرحل، وهو قال ذلك علنية، وهو لن يصغي إلينا ولا إلى الصينيين ولا إلى الإيرانيين ولا لأي أحد". وأكد لافروف أنه في حال الرغبة في استقرار الوضع فلا بديل عن "الجلوس وإجراء تحليل صادق لما يحدث، تاركين جانبا الطموحات والتطلعات الجيوسياسية". ركائز السياسة الأمريكية في التعامل مع سورية... تفاجأت الولايات المتحدة بثورات الربيع العربي، وفي الردود الأولى أظهرت المواقف الأمريكية ارتباكا واضحا، خصوصا أن الحراك بدأ في مصر وتونس المحسوبتين تاريخيا ضمن أصدقاء واشنطن في المنطقة. وشيئا فشيئا بدأت واشنطن تصوغ خططا بديلة للتعامل مع الأوضاع المستجدة، ومن نافلة القول إنها ارتاحت للحراك ضد الرئيس الأسد ووجدت فيه فرصة سانحة لتقزيم دور سورية الإقليمي، وتدمير مقدراتها العسكرية وبنيتها التحتية خدمة لمصلحة إسرائيل، وانتقاما من دعم المقاومة في العراق وفلسطين ولبنان. وعموما تتمحور الخطوط العامة للسياسة الأمريكية في المنطقة بعد الربيع العربي على احتواء آثار التغيير في الأنظمة الجديدة للمحافظة على مصالحها، ومنع "التطرف السني"، ومعالجة ملف إيران النووي، إضافة إلى حماية الأنظمة الملكية المؤيدة لها من الإنهيار وضمان عدم تعرضها لهزات عنيفة تأثرا بموجة الثورات التي عصفت بالمنطقة. ويبقى أمن إسرائيل العامل المحرك الأهم في السياسات الأمريكية. وتهدف السياسة الأمريكية إلى الضغط على إيران وتجريدها من أهم حلفائها في المنطقة، وفصل محور المقاومة الجامع بين إيران وحزب الله مرورا بدمشق. وتعود هذه السياسة إلى ما قبل الثورات العربية، ففي أول عامين من حكم أوباما سعت إدارته إلى تفكيك هذا المحور عبر تشجيع دمشق على التفاوض مع إسرائيل عن طريق وسطاء، وتشجيع حلفائها في المنطقة على تقديم حوافز لدمشق من أجل انهاء تحالفها مع إيران. ويبقى اهتمام أمريكا وحليفتها إسرائيل منصبا على "الأسلحة الكيمياوية والبيولوجية"السورية، إضافة إلى تعطيل أي محاولة لنقل الأسلحة الصاروخية التقليدية أرض-أرض، أو الصواريخ المضادة للطائرات والدروع، إلى حزب الله، ومنع وقوعها في أيدي المجموعات المسلحة جهادية كانت أم غيرها. ولم يخفف تشكيل هيئة أركان موحدة لمليشيا"الجيش الحر" من هذه المخاوف الأمريكية على ما يبدو، وظلت هذه المخاطر كابوسا يؤرق صناع القرار في واشنطن، خصوصا لأن الحل يتطلب القيام بعملية عسكرية ونشر عشرات ألوف الجنود الأمريكيين وغيرهم القادرين على التعامل مع خطر الأسلحة البيولوجية والكيمياوية. لكن تلكؤ واشنطن وعدم وجود استراتيجية واضحة للتعامل مع أزمة سورية يشي بأنها مازالت ترغب في كسب مزيد من الوقت عبر تبني مبدأ عدم الوضوح، وتشجيع العنف الداخلي، المنفلت من أي عقال، في محاولة ربما لإعطاء الوقت لحلفائها في المنطقة من أجل القيام باصلاحات سياسية واجتماعية ذات صدقية تمنع عنها انتقال شرارة الاحتجاجات. وفي هذا الإطار فإن دموية المشهد السوري تحدّ من الاحتجاجات في الاقليم، وتجعل شعوب الجوار أكثر اقتناعا بالاصلاحات من القيادة، حتى وإن لم ترق إلى المستوى المطلوب. فالبديل حالة من مشهد دموي وانقسام مجتمعي ودمار للبنية التحتية، كما هو حاصل حاليا في سورية، وما حصل في ليبيا، مما تسبب في وقف تأثير الدمينو الذي كان يمكن أن يعصف بحلفاء واشنطن الرئيسيين في المنطقة، ويخلق معادلات جديدة في الصراع العربي الإسرائيلي.   السياسة الأمريكية أمام مفترق حرج... ويبدو أن طريقة تعامل واشنطن مع الأزمة السورية وصلت إلى مفترق حرج، مما يدفعها إلى البحث بسرعة عن وسائل تسهل الخروج من عنق الزجاجة. فالتطورات الميدانية تفرض نفسها بقوة، فالمعارك في حلب مستمرة للشهر السابع دون إمكانية الحسم، ونجم التيارات الجهادية في صعود، ومع ضعف بالسيطرة على المناطق الشرقية،  ويتضح أن أيا من الطرفين لن يستطيع حسم الأمور عسكريا في فترة قصيرة، بينما المحيط الإقليمي يغلي بفعل أنباء القتل، وازدياد الاصطفافات ......، ولجوء ألوف السوريين يوميا إلى دول الجوار. والواضح أن إدارة أوباما أوصلت نفسها إلى خيارات أحلاها مرّ؛ فإما دعم المعارضة بالأسلحة، مع عدم وجود ضمانات بأنها لن تقع في أيدي الإسلاميين وعدم استخدامها ضد إسرائيل أو لتقويض أمن واستقرار دول الجوار، وإما التحالف مع الرئيس الأسد لمواجهة خطر الإسلاميين الجهاديين، أو التدخل العسكري، بما يعني عودة واشنطن إلى سياسة تجريب المجرب في حربي العراق وأفغانستان. ويبقى الاعتراف بالحكومة المؤقتة للمعارضة السورية كأحد الخيارات الأقل كلفة "أمريكيا"، ولكنه يحتاج إلى فرض منطقة حظر طيران على مناطق التي تتواجد فيها عصابات الجيش الحر  ، كما أنه لا يعني استقرار الأوضاع، فالمعارك سوف تتواصل وقد تشتد في بعض المناطق، وقد يفتح هذا الخيار على تقسيم سورية ...واشغالها لسنوات في بحر من الدماء في معارك لتوحيدها مرة أخرى. ومع الأسف يبدو أن الولايات المتحدة، وعكس التصريحات المعلنة، لا تعطي أولوية لرفع المعاناة عن السوريين، رغم الفاتورة الباهظة من عشرات ألوف القتلى، ومئات ألوف اللاجئين، وملايين النازحين، إلى تدمير البنية التحتية للبلاد. ولا تضغط واشنطن للتوصل إلى حلول تفاوضية تنطلق من الحفاظ على الدولة السورية، وتحقن دماء الأبرياء، وتحصر جلّ اهتمامها بمصير الرئيس الأسد، ولا تتعاون بما يكفي مع جهود موسكو لجمع المعارضة والنظام على طاولة الحوار، رغم أن روسيا وعلى لسان أكثر من مسؤول أكدت على أنها غير متمسكة بالأسد، لكنها لن تطلب منه الرحيل لأن هذا ما يجب أن يقرره السوريون وحدهم، ولأنها مقتنعة بأنه يجب التفكير في أن سقوط الأسد، أو إسقاطه، لن يشكل حلا للأزمة، بل قد يعقدها أكثر، وقد يسرع اشتداد القتال وزيادة أعداد اللاجئين بانتقال الصراع في سورية إلى الإقليم المجاور، الى العراق والأردن ولبنان وتركيا، ونشوب حرب طائفية في سورية والمنطقة وتحول سورية إلى دولة فاشلة تصدر العنف إلى جيرانها.  

المصدر : سامر الياس - rt


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة