شهدت الساحة السياسية الإسرائيلية تحولات جوهرية خلال وقت قصير نسبياً. فعمر الحياة السياسية الإسرائيلية بالعموم قصير، وهو في نطاق الدولة العبرية لا يزيد كثيراً عن 60 عاماً. ولكن خلال هذه السنوات، أو بالضبط 64 سنة، انقلبت الأوضاع رأساً على عقب. فما بدأ يساراً صار يمينياً. وربما غاب مفهوم اليسار واليمين السابق، لتحل مكانه كائنات أخرى تحمل الاسم ذاته لكنها تختلف عنه جذرياً. ومن الجائز أن هناك من سيقول ان لا شيء جوهرياً تغير فعلياً في إسرائيل، وأن كل ما تغير هو الأسماء والأردية التي تغلفت بها التيارات.

ومن المعلوم أن الصراع التاريخي دار في الحركة الصهيونية أولاً بين من كانوا يسّمون بـ«الصهاينة العموميين» و«الصهيونية العمالية». وما ان ازداد ترسخ «الصهيونية العمالية» وكسبها الصراع، حتى ضد مؤسسي الحركة الصهيونية من «الصهاينة العموميين»، حتى نشأ في مواجهتهم «الصهاينة التنقيحيون» من أنصار زئيف جابوتينسكي. وكان إلى جانب هؤلاء وأولئك تيار «صهيوني ديني» يسمى بـ«المزراحي». وأنشأ التياران الرئيسيان، العمالي والتنقيحي، تنظيمات عسكرية تمثلت في «الهاغاناه» للعمالي و«الإيتسل» و«ليحي» للتنقيحيين. وقد تحالف «الصهاينة العموميون» بقيادة حاييم وايزمان و«المزراحي» مع التيارات العمالية حتى إعلان الدولة.

واستمر هذا التحالف، حتى أنه دام بعض الوقت تحت قيادة دافيد بن غوريون الذي كان يؤمن بأن الحكومة يجب أن تضم كل القوى ما عدا «حيروت» و«ماكي». و«حيروت» هو الحزب الذي نشأ عن التنقيحيين الذين أعلنوا أنفسهم تياراً ليبرالياً قومياً في مواجهة «مباي» العمالي ذي النزعة الاشتراكية. أما «ماكي» فكان الحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي كنّت له تيارات العمالية الصهيونية عداءً شديداً. ومع مرور الوقت، تحالف «حيروت» مع الليبراليين الذين بقوا من «الصهاينة العموميين»، وشكلوا تحالف «جاحال» في منتصف الستينيات. حينها كان «المزراحي» الذي غدا «حزب المتدينين الوطنيين» الحليف المركزي لحزب العمل الذي تشكل من عدد من الأحزاب العمالية.

وحتى ذلك الحين، كما هو واضح كان اليمين القومي في جهة، وما يعرف بوسط اليسار واليمين الديني، بما في ذلك اليمين الحريدي من جهة أخرى. وشاءت حرب العام 1967 أن تحدث أول تغيير بإدخال «جاحال» إلى حكومة الوحدة الوطنية تحت ضغط من الجيش والشارع. وظلت هذه الحكومة قائمة إلى أن بدأت العملية السياسية ومشاريع «يارنغ» و«روجرز»، حيث تحددت بوضوح الحدود في الحلبة السياسية بين أنصار التسوية الإقليمية ومعارضيها.

وتشكل بعد ذلك نوع من الاقتراب من القطبية الثنائية بإعلان معسكر اليمين السياسي عن إنشاء الليكود قبيل حرب العام 1973 وإعلان المعسكر الحاكم عن تشكيل «المعراخ». وليس صدفة أن الليكود ضم بقايا اليمين العمالي الذي أشار إلى أن أسباب التحالف والخلاف باتت سلطوية وليس بالضرورة أيديولوجية. وخلال هذه السنوات، صار الاستيطان في الخليل ومحيط القدس وقطاع غزة والجولان الورقة السياسية التي يدور الخلاف حولها. وما ان وقع الانقلاب الأول في تاريخ الحياة السياسية الإسرائيلية العام 1977، وتولى مناحيم بيغين رئاسة الحكومة، حتى تغير كل شيء تقريباً.

أولاً وقبل كل شيء انتقل جزء من التيار العمالي المختلف مع تياره المركزي، خصوصاً بعد حرب العام 1973، إلى اليمين بشكل أوضح. وثانيا انتقل اليمين الديني بكليته إلى اليمين القومي في مشهد لم يكن مألوفاً وربما تعزز أكثر بنشوء حركة «شاس» لليهود الشرقيين التي جمعت بين اليمين الديني واليمين القومي. ومنذ ذلك الحين وحتى الآن تشهد الحلبة السياسية الإسرائيلية قفزات متسارعة تغير وجه كل شيء.

فاليمين القومي بزعامة الليكود كان أقرب إلى العلمانية والليبرالية. ولكنه مع مرور الوقت في الحكم صار لا يخفي ميوله الفاشية. والوسط العمالي صار مع مرور الوقت أشد خجلاً من ماضيه اليساري لدرجة أن زعيمة حزب العمل الحالية شيلي يحيموفيتش تعلن جهاراً نهاراً أن حزبها لم يكن أبداً حزباً يسارياً. ولم يبق من اليسار التاريخي في إسرائيل سوى حزب «ميرتس».

صحيح أن هناك قطاعات ظلت تقريبا على حالها في الحلبة السياسية الإسرائيلية وبينها العرب والحريديون. ولكن الجسم الأساسي للمجتمع الإسرائيلي شهد تحولات كبرى، أبرزها تمثل في أن النزوع المتواصل إلى اليمين خلق ظاهرة نوعية جديدة وهي تغير المعسكرات. فإسرائيل، من دون العرب والحريديم، تنقسم اليوم إلى ثلاثة معسكرات: وسط يقع في اليمين، ويمين متطرف يقع في الوسط، ويمين أشد تطرفا يتمترس في أقصى اليمين. وتقريباً باتت هذه المعسكرات متساوية بأشكال مختلفة من الناحية العددية.

واليوم يمكن القول إن معسكر الوسط الذي بات يميناً يضم كلا من حزب العمل و«حركة» تسيبي ليفني و«مستقبل» يائير لبيد. وتمنح الاستطلاعات تقريباً لهذه الأحزاب ما يزيد قليلاً عن 30 مقعدا. وفي الوسط نجد اليمين المتطرف وهو يضم أساسا الليكود ولديه مقاعد تزيد قليلاً عن 30 أيضاً. وفي اليمين الأقصى معسكر يضم كلاً من «البيت اليهودي» و«شاس» و«عوتسما لإسرائيل» وهو يملك، وفقاً للاستطلاعات، حوالي 30 مقعداً. ويمكن ببساطة ضم المقاعد الحريدية للمعسكر الأخير الذي هو معسكر ديني وقومي بامتياز.

بقي أن نشير إلى أن انتقال الليكود، رغم يمينيته، ليكون وسطا ينذر بأن اليمين المتطرف الحالي يتحول بسرعة لأن يكون وسط الساحة، خصوصا أن استطلاعات الرأي تمنح «البيت اليهودي» فرصة لأن يقوى بشكل متزايد على حساب الليكود.

 

  • فريق ماسة
  • 2012-12-28
  • 10908
  • من الأرشيف

تحولات الساحة الإسرائيلية: نحو معسكرات أكثر يمينية فقط!

شهدت الساحة السياسية الإسرائيلية تحولات جوهرية خلال وقت قصير نسبياً. فعمر الحياة السياسية الإسرائيلية بالعموم قصير، وهو في نطاق الدولة العبرية لا يزيد كثيراً عن 60 عاماً. ولكن خلال هذه السنوات، أو بالضبط 64 سنة، انقلبت الأوضاع رأساً على عقب. فما بدأ يساراً صار يمينياً. وربما غاب مفهوم اليسار واليمين السابق، لتحل مكانه كائنات أخرى تحمل الاسم ذاته لكنها تختلف عنه جذرياً. ومن الجائز أن هناك من سيقول ان لا شيء جوهرياً تغير فعلياً في إسرائيل، وأن كل ما تغير هو الأسماء والأردية التي تغلفت بها التيارات. ومن المعلوم أن الصراع التاريخي دار في الحركة الصهيونية أولاً بين من كانوا يسّمون بـ«الصهاينة العموميين» و«الصهيونية العمالية». وما ان ازداد ترسخ «الصهيونية العمالية» وكسبها الصراع، حتى ضد مؤسسي الحركة الصهيونية من «الصهاينة العموميين»، حتى نشأ في مواجهتهم «الصهاينة التنقيحيون» من أنصار زئيف جابوتينسكي. وكان إلى جانب هؤلاء وأولئك تيار «صهيوني ديني» يسمى بـ«المزراحي». وأنشأ التياران الرئيسيان، العمالي والتنقيحي، تنظيمات عسكرية تمثلت في «الهاغاناه» للعمالي و«الإيتسل» و«ليحي» للتنقيحيين. وقد تحالف «الصهاينة العموميون» بقيادة حاييم وايزمان و«المزراحي» مع التيارات العمالية حتى إعلان الدولة. واستمر هذا التحالف، حتى أنه دام بعض الوقت تحت قيادة دافيد بن غوريون الذي كان يؤمن بأن الحكومة يجب أن تضم كل القوى ما عدا «حيروت» و«ماكي». و«حيروت» هو الحزب الذي نشأ عن التنقيحيين الذين أعلنوا أنفسهم تياراً ليبرالياً قومياً في مواجهة «مباي» العمالي ذي النزعة الاشتراكية. أما «ماكي» فكان الحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي كنّت له تيارات العمالية الصهيونية عداءً شديداً. ومع مرور الوقت، تحالف «حيروت» مع الليبراليين الذين بقوا من «الصهاينة العموميين»، وشكلوا تحالف «جاحال» في منتصف الستينيات. حينها كان «المزراحي» الذي غدا «حزب المتدينين الوطنيين» الحليف المركزي لحزب العمل الذي تشكل من عدد من الأحزاب العمالية. وحتى ذلك الحين، كما هو واضح كان اليمين القومي في جهة، وما يعرف بوسط اليسار واليمين الديني، بما في ذلك اليمين الحريدي من جهة أخرى. وشاءت حرب العام 1967 أن تحدث أول تغيير بإدخال «جاحال» إلى حكومة الوحدة الوطنية تحت ضغط من الجيش والشارع. وظلت هذه الحكومة قائمة إلى أن بدأت العملية السياسية ومشاريع «يارنغ» و«روجرز»، حيث تحددت بوضوح الحدود في الحلبة السياسية بين أنصار التسوية الإقليمية ومعارضيها. وتشكل بعد ذلك نوع من الاقتراب من القطبية الثنائية بإعلان معسكر اليمين السياسي عن إنشاء الليكود قبيل حرب العام 1973 وإعلان المعسكر الحاكم عن تشكيل «المعراخ». وليس صدفة أن الليكود ضم بقايا اليمين العمالي الذي أشار إلى أن أسباب التحالف والخلاف باتت سلطوية وليس بالضرورة أيديولوجية. وخلال هذه السنوات، صار الاستيطان في الخليل ومحيط القدس وقطاع غزة والجولان الورقة السياسية التي يدور الخلاف حولها. وما ان وقع الانقلاب الأول في تاريخ الحياة السياسية الإسرائيلية العام 1977، وتولى مناحيم بيغين رئاسة الحكومة، حتى تغير كل شيء تقريباً. أولاً وقبل كل شيء انتقل جزء من التيار العمالي المختلف مع تياره المركزي، خصوصاً بعد حرب العام 1973، إلى اليمين بشكل أوضح. وثانيا انتقل اليمين الديني بكليته إلى اليمين القومي في مشهد لم يكن مألوفاً وربما تعزز أكثر بنشوء حركة «شاس» لليهود الشرقيين التي جمعت بين اليمين الديني واليمين القومي. ومنذ ذلك الحين وحتى الآن تشهد الحلبة السياسية الإسرائيلية قفزات متسارعة تغير وجه كل شيء. فاليمين القومي بزعامة الليكود كان أقرب إلى العلمانية والليبرالية. ولكنه مع مرور الوقت في الحكم صار لا يخفي ميوله الفاشية. والوسط العمالي صار مع مرور الوقت أشد خجلاً من ماضيه اليساري لدرجة أن زعيمة حزب العمل الحالية شيلي يحيموفيتش تعلن جهاراً نهاراً أن حزبها لم يكن أبداً حزباً يسارياً. ولم يبق من اليسار التاريخي في إسرائيل سوى حزب «ميرتس». صحيح أن هناك قطاعات ظلت تقريبا على حالها في الحلبة السياسية الإسرائيلية وبينها العرب والحريديون. ولكن الجسم الأساسي للمجتمع الإسرائيلي شهد تحولات كبرى، أبرزها تمثل في أن النزوع المتواصل إلى اليمين خلق ظاهرة نوعية جديدة وهي تغير المعسكرات. فإسرائيل، من دون العرب والحريديم، تنقسم اليوم إلى ثلاثة معسكرات: وسط يقع في اليمين، ويمين متطرف يقع في الوسط، ويمين أشد تطرفا يتمترس في أقصى اليمين. وتقريباً باتت هذه المعسكرات متساوية بأشكال مختلفة من الناحية العددية. واليوم يمكن القول إن معسكر الوسط الذي بات يميناً يضم كلا من حزب العمل و«حركة» تسيبي ليفني و«مستقبل» يائير لبيد. وتمنح الاستطلاعات تقريباً لهذه الأحزاب ما يزيد قليلاً عن 30 مقعدا. وفي الوسط نجد اليمين المتطرف وهو يضم أساسا الليكود ولديه مقاعد تزيد قليلاً عن 30 أيضاً. وفي اليمين الأقصى معسكر يضم كلاً من «البيت اليهودي» و«شاس» و«عوتسما لإسرائيل» وهو يملك، وفقاً للاستطلاعات، حوالي 30 مقعداً. ويمكن ببساطة ضم المقاعد الحريدية للمعسكر الأخير الذي هو معسكر ديني وقومي بامتياز. بقي أن نشير إلى أن انتقال الليكود، رغم يمينيته، ليكون وسطا ينذر بأن اليمين المتطرف الحالي يتحول بسرعة لأن يكون وسط الساحة، خصوصا أن استطلاعات الرأي تمنح «البيت اليهودي» فرصة لأن يقوى بشكل متزايد على حساب الليكود.  

المصدر : حلمي موسى\ السفير


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة