سيدي

 (1)

بعد أيام سنستقبلك في قلوبنا وبيوتنا ووطننا، بمناسبة عيد ميلادك الذي وقع في مثل هذا اليوم قبل ألفي سنة ونيف، في مغارة بيت لحم. وسنستمتع بألحان أنشودة الملائكة التي نرددها في طقوسنا وصلواتنا:

المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، والرجاء الصالح لبني البشر

ولكننا في هذه السنة الميلادية 2012، ونحن في واحدة من أهم مناسباتنا الدينية، التي يحترمها الإنسان في وطننا من أي انتماء كان، نرى أنفسنا أمام ثنائيات ميلادية متقابلة.

 

(2)

فهذا المجد الذي نريده دائماً لله تعالى في الأعالي، يمرُّ في أزمة حادّة على الأرض، وتحديداً في سورية، إذ انقلب المجدُ إلى هوان. فكيف يُرفع المجد من قلوب عصرَها الألم، ونفوس ذاقتْ الأمرين في السنتين المنصرمتين، وفي جماعة لفّها الحزن من كل جانب، وشمل كل الأفراد بدون استثناء ؟ حتى أن العالم كلَّه عرف بأن أَبسط قواعد حقوق الإنسان قد أُخترقت، وديست تحت أرجل الظالمين، وقيمة الإنسان أصبحت في مهب الريح !

كانت جوقات الترتيل في كنائسنا في ليلة الميلاد في ما مضى، تَرفع التسبيح والتمجيد والتهليل لله، لأنها تستقبل حدث ميلادك مع أمِّك مريم وخطّيبها الصدّيق يوسف، وشهود الميلاد : الرعاة المتبدوُّن الذين كانوا يحرسون حراسات الليل على رعيتهم، والملاك في السماء وهو يُعلن البشارة للعالم، وظهر معه جند سماوي، وأنشدوا نشيد الميلاد، وقد غمر الفرحُ قلوبَ المحتفلين بالميلاد وأبعاده. وكانت كنائسنا تعج بالمصليِّن والمصلِّيات من كل الأعمار، وقد زيّنت ألوان ثياب أطفالهم الزاهية المناسبة الروحية، وزاد الحضور المكثَّف في الكنائس، التي انتصبت فيها شجرة الميلاد بأنوارها الدافئة، مجداً على مجد، جميعهم يشهدون لميلادك في ليلة صافية تألقت بضوء القمر والنجوم في السماء، وعمّت فيها المحبة والإخاء والعيش بهناء. أما في هذه السنة فكل شيء تغيّر وتبدل، حتى أنك تخال نفسك في ليلة الصلبوت، فالسماء تبكي بحرارة، والوجوه عابسة، والقلوب مكلومة، والنفوس حزينة، وحتى أصوات أجراس الكنائس مختنقة، والظلام المادّي والمعنوي يهيمن على كل شبر من أرضنا المباركة.

 

(3)

سيدي

أما السلام فحدِّث عنه ولا حَرَج ! فأي سلام هذا ؟! والأشلاء تناثرت في شوارع وأزقَّة مدننا وقرانا، والدماء سالت على أرضٍ تباركت برسالات السماء، وأُصيبَ مئات الآلاف بجروح وأمراض وأوبئة شتّى، وملايين من المواطنين أُقتلعوا من ديارهم التي زوّدتْ العالم بتعاليم سماوية، وأصبحوا لاجئين ونازحين ووافدين تحت كل كوكب، بعضهم يفترش الأرض ويلتحف بالسماء، وبعضهم الآخر قطع الأمل من عودة الأمان، فهاجر إلى بلاد الله الواسعة دون تفكير بالعودة، وانتشر الفقر والحاجة بين الناس كافة، وجمدت الدموع في مآقي الكبار والصغار وهم يودِّعون أحبتهم، وأطفالهم، ورجالاتهم، وأمهاتهم وشيوخهم، وسادت الفوضى، وعمّ الفساد في مرافق الحياة، وأُغلقت كلُّ أبواب الرحمة والعطاء، ووقفتْ أعداد كبيرة من المواطنين والمواطنات في طوابير متناثرة في كل مكان، خاصة في الأسواق والجادّات، وأمام الحوانيت والأفران، طمعاً بالحصول على لقمة العيش، وكلّهم يشكون قلة الموارد البشرية والمادية والمعنوية، ويتحسّرون على ماضيهم القريب الذي وفّر لهم الغذاء، والكهرباء، والماء، والوقود، وكل أنواع الاتصالات، ويبكون على وطنهم الذي صُلب على خشبة الآلام والأوجاع، فحرمتهم الظروف السيئة من الصلاة في الكنائس والجوامع، ومنعتهم من القضاء على الجهل، وذلك بعدم إمكانية متابعة تحصيلهم العلمي في كل المراحل الدراسية كما يليق، وبدل السلام الذي تغنوا به، وأعلنوه ميثاقاً للأمم والشعوب، صاروا طعمة للحرب الشرسة، التي قضت على أحلامهم ورؤاهم في العيش برخاء ورفاه وسعادة، كما دُمِّرت وخُرِّبت أقسام هامة من مدنهم وقراهم، بل بعض أحيائهم أصبحت أثراً بعد عين !

فأين نحن من السلام الذي أعلنه الملاك في ليلة ميلادك ؟

أنت يا سيدي ! أعلنتَ في رسالتك بعد مجيئك إلى الأرض، بأن لا مكان للديكتاتوريات بعد اليوم، من خلال ممارسات خاطئة للقيادات الدينية المهيمنة على رقاب الناس، وبشّرتَ بالحريات العامة، ودعوتَ إلى ترسيخ مفهوم الديموقراطيات في كل المجتمعات، وحاربتَ الفساد بكل درجاته، ودعوت لعالم خالٍ من العنف، والقمع، والإرهاب، والقتل، كل ذلك من أجل تأسيس السلام على الأرض، ونشر العدالة بين بني البشر !

 

(4)

سيدي

لقد أعطيت العالم رجاءً صالحاً بميلادك في مغارة بيت لحم، نحن في هذه المرحلة العسيرة، والصعبة، والمحرجة جداً، بحاجة ماسّة إلى هذا الرجاء الصالح، لأنه بعد عيد ميلادك بأيام، سنودع عاماً كان ثقيلاً على صدورنا، إذ جاء ملفَّحاً بالسواد والضبابية والإحباط، ونستقبل عاماً نرجو أن يكون حافلاً بالخير والأمن والطمأنينة.

لقد شهد العالم كله بأن سورية كانت أنموذجاً للمساواة بين المواطنين، وعاش الإنسان لعقود طويلة بأمان واستقرار تحت سقف الوطن، ولم يكن يتوقع أحد أن سورية يوماً ما ستُعمَّد بالدم، ويَقتلُ الإنسان أخاه الإنسان، ويَعتدي المواطن على المواطن علانية، وتَزول كل معالم الآمان والاستقرار من سمائها.

ولم يَخطر على بال بشر بأن قذائف الهاون، وأصوات المدافع، وأزيز الرصاص، وجلبة الطيران الحربي، ومرور الدّبابات في شوارع المدن وساحاتها وميادينها، والعبوات الناسفة التي تفجَّر في كل مكان وتلوِّث البيئة، ستكون من المظاهر المعتادة في حياة الوطن ! لا بل تهدد الأمنَ الاجتماعي، والسلمَ الأهلي، وتَزيد من حالات الرعب والقلق في نفوس المواطنين، وتحرمهم من النوم في الليل، إذ لا يَعرفون متى يُخطف عزيزٌ عليهم، أو يُعتدى على أعراضهم، وتُنهب أموالُهم وبيوتُهم، أو يَقرَع الموتُ أبوابَهم في ساعة لا يعرفها أحد، كلهم وكلُّهم باتوا يخافون من الخوف !!

 

(5)

سيدي

 ما نطالب به في عيد ميلادك، هو : أن تُلهم أصحاب القرار في سورية وخارجها، للإسراع بوقف نزيف الدم، لنتمكن نحن المواطنين ومن يعيننا من الخارج، من إيواء النازحين، والمقتلعين قسراً من مساكنهم، وضمد جراحات المرضى والمصابين، وفك أسر المعتقلين والمخطوفين، وإعالة المساكين والفقراء، ومساعدة الشيوخ والأطفال والأرامل، وإعادة الحياة إلى مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا وكنائسنا وجوامعنا ! وأعِنهم ليجلسوا على طاولة المفاوضات للمصارحة والمصالحة، ولإعادة الحياة إلى طبيعتها، فيعود الأمن والأمان والاستقرار إلى كل أرجاء الوطن.

أمام هذه المطالب المحقة نرى أن الثنائيات الميلادية المتقابلة

المجد ـ الهوان... السلام ـ الحرب... الرجاء ـ اليأس

نختبرها بألم في عيد ميلادك في هذه السنة، ولكن لا نفقد الأمل بأن القادم هو صالح وفيه الخير للوطن.

ليكن ميلادك مجيداً في حياتنا، ونرجو أن يكون عامنا جديداً بكل المعاني.

 

  • فريق ماسة
  • 2012-12-23
  • 9471
  • من الأرشيف

رسالة ميلادية الى المسيح ..

سيدي  (1) بعد أيام سنستقبلك في قلوبنا وبيوتنا ووطننا، بمناسبة عيد ميلادك الذي وقع في مثل هذا اليوم قبل ألفي سنة ونيف، في مغارة بيت لحم. وسنستمتع بألحان أنشودة الملائكة التي نرددها في طقوسنا وصلواتنا: المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، والرجاء الصالح لبني البشر ولكننا في هذه السنة الميلادية 2012، ونحن في واحدة من أهم مناسباتنا الدينية، التي يحترمها الإنسان في وطننا من أي انتماء كان، نرى أنفسنا أمام ثنائيات ميلادية متقابلة.   (2) فهذا المجد الذي نريده دائماً لله تعالى في الأعالي، يمرُّ في أزمة حادّة على الأرض، وتحديداً في سورية، إذ انقلب المجدُ إلى هوان. فكيف يُرفع المجد من قلوب عصرَها الألم، ونفوس ذاقتْ الأمرين في السنتين المنصرمتين، وفي جماعة لفّها الحزن من كل جانب، وشمل كل الأفراد بدون استثناء ؟ حتى أن العالم كلَّه عرف بأن أَبسط قواعد حقوق الإنسان قد أُخترقت، وديست تحت أرجل الظالمين، وقيمة الإنسان أصبحت في مهب الريح ! كانت جوقات الترتيل في كنائسنا في ليلة الميلاد في ما مضى، تَرفع التسبيح والتمجيد والتهليل لله، لأنها تستقبل حدث ميلادك مع أمِّك مريم وخطّيبها الصدّيق يوسف، وشهود الميلاد : الرعاة المتبدوُّن الذين كانوا يحرسون حراسات الليل على رعيتهم، والملاك في السماء وهو يُعلن البشارة للعالم، وظهر معه جند سماوي، وأنشدوا نشيد الميلاد، وقد غمر الفرحُ قلوبَ المحتفلين بالميلاد وأبعاده. وكانت كنائسنا تعج بالمصليِّن والمصلِّيات من كل الأعمار، وقد زيّنت ألوان ثياب أطفالهم الزاهية المناسبة الروحية، وزاد الحضور المكثَّف في الكنائس، التي انتصبت فيها شجرة الميلاد بأنوارها الدافئة، مجداً على مجد، جميعهم يشهدون لميلادك في ليلة صافية تألقت بضوء القمر والنجوم في السماء، وعمّت فيها المحبة والإخاء والعيش بهناء. أما في هذه السنة فكل شيء تغيّر وتبدل، حتى أنك تخال نفسك في ليلة الصلبوت، فالسماء تبكي بحرارة، والوجوه عابسة، والقلوب مكلومة، والنفوس حزينة، وحتى أصوات أجراس الكنائس مختنقة، والظلام المادّي والمعنوي يهيمن على كل شبر من أرضنا المباركة.   (3) سيدي أما السلام فحدِّث عنه ولا حَرَج ! فأي سلام هذا ؟! والأشلاء تناثرت في شوارع وأزقَّة مدننا وقرانا، والدماء سالت على أرضٍ تباركت برسالات السماء، وأُصيبَ مئات الآلاف بجروح وأمراض وأوبئة شتّى، وملايين من المواطنين أُقتلعوا من ديارهم التي زوّدتْ العالم بتعاليم سماوية، وأصبحوا لاجئين ونازحين ووافدين تحت كل كوكب، بعضهم يفترش الأرض ويلتحف بالسماء، وبعضهم الآخر قطع الأمل من عودة الأمان، فهاجر إلى بلاد الله الواسعة دون تفكير بالعودة، وانتشر الفقر والحاجة بين الناس كافة، وجمدت الدموع في مآقي الكبار والصغار وهم يودِّعون أحبتهم، وأطفالهم، ورجالاتهم، وأمهاتهم وشيوخهم، وسادت الفوضى، وعمّ الفساد في مرافق الحياة، وأُغلقت كلُّ أبواب الرحمة والعطاء، ووقفتْ أعداد كبيرة من المواطنين والمواطنات في طوابير متناثرة في كل مكان، خاصة في الأسواق والجادّات، وأمام الحوانيت والأفران، طمعاً بالحصول على لقمة العيش، وكلّهم يشكون قلة الموارد البشرية والمادية والمعنوية، ويتحسّرون على ماضيهم القريب الذي وفّر لهم الغذاء، والكهرباء، والماء، والوقود، وكل أنواع الاتصالات، ويبكون على وطنهم الذي صُلب على خشبة الآلام والأوجاع، فحرمتهم الظروف السيئة من الصلاة في الكنائس والجوامع، ومنعتهم من القضاء على الجهل، وذلك بعدم إمكانية متابعة تحصيلهم العلمي في كل المراحل الدراسية كما يليق، وبدل السلام الذي تغنوا به، وأعلنوه ميثاقاً للأمم والشعوب، صاروا طعمة للحرب الشرسة، التي قضت على أحلامهم ورؤاهم في العيش برخاء ورفاه وسعادة، كما دُمِّرت وخُرِّبت أقسام هامة من مدنهم وقراهم، بل بعض أحيائهم أصبحت أثراً بعد عين ! فأين نحن من السلام الذي أعلنه الملاك في ليلة ميلادك ؟ أنت يا سيدي ! أعلنتَ في رسالتك بعد مجيئك إلى الأرض، بأن لا مكان للديكتاتوريات بعد اليوم، من خلال ممارسات خاطئة للقيادات الدينية المهيمنة على رقاب الناس، وبشّرتَ بالحريات العامة، ودعوتَ إلى ترسيخ مفهوم الديموقراطيات في كل المجتمعات، وحاربتَ الفساد بكل درجاته، ودعوت لعالم خالٍ من العنف، والقمع، والإرهاب، والقتل، كل ذلك من أجل تأسيس السلام على الأرض، ونشر العدالة بين بني البشر !   (4) سيدي لقد أعطيت العالم رجاءً صالحاً بميلادك في مغارة بيت لحم، نحن في هذه المرحلة العسيرة، والصعبة، والمحرجة جداً، بحاجة ماسّة إلى هذا الرجاء الصالح، لأنه بعد عيد ميلادك بأيام، سنودع عاماً كان ثقيلاً على صدورنا، إذ جاء ملفَّحاً بالسواد والضبابية والإحباط، ونستقبل عاماً نرجو أن يكون حافلاً بالخير والأمن والطمأنينة. لقد شهد العالم كله بأن سورية كانت أنموذجاً للمساواة بين المواطنين، وعاش الإنسان لعقود طويلة بأمان واستقرار تحت سقف الوطن، ولم يكن يتوقع أحد أن سورية يوماً ما ستُعمَّد بالدم، ويَقتلُ الإنسان أخاه الإنسان، ويَعتدي المواطن على المواطن علانية، وتَزول كل معالم الآمان والاستقرار من سمائها. ولم يَخطر على بال بشر بأن قذائف الهاون، وأصوات المدافع، وأزيز الرصاص، وجلبة الطيران الحربي، ومرور الدّبابات في شوارع المدن وساحاتها وميادينها، والعبوات الناسفة التي تفجَّر في كل مكان وتلوِّث البيئة، ستكون من المظاهر المعتادة في حياة الوطن ! لا بل تهدد الأمنَ الاجتماعي، والسلمَ الأهلي، وتَزيد من حالات الرعب والقلق في نفوس المواطنين، وتحرمهم من النوم في الليل، إذ لا يَعرفون متى يُخطف عزيزٌ عليهم، أو يُعتدى على أعراضهم، وتُنهب أموالُهم وبيوتُهم، أو يَقرَع الموتُ أبوابَهم في ساعة لا يعرفها أحد، كلهم وكلُّهم باتوا يخافون من الخوف !!   (5) سيدي  ما نطالب به في عيد ميلادك، هو : أن تُلهم أصحاب القرار في سورية وخارجها، للإسراع بوقف نزيف الدم، لنتمكن نحن المواطنين ومن يعيننا من الخارج، من إيواء النازحين، والمقتلعين قسراً من مساكنهم، وضمد جراحات المرضى والمصابين، وفك أسر المعتقلين والمخطوفين، وإعالة المساكين والفقراء، ومساعدة الشيوخ والأطفال والأرامل، وإعادة الحياة إلى مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا وكنائسنا وجوامعنا ! وأعِنهم ليجلسوا على طاولة المفاوضات للمصارحة والمصالحة، ولإعادة الحياة إلى طبيعتها، فيعود الأمن والأمان والاستقرار إلى كل أرجاء الوطن. أمام هذه المطالب المحقة نرى أن الثنائيات الميلادية المتقابلة المجد ـ الهوان... السلام ـ الحرب... الرجاء ـ اليأس نختبرها بألم في عيد ميلادك في هذه السنة، ولكن لا نفقد الأمل بأن القادم هو صالح وفيه الخير للوطن. ليكن ميلادك مجيداً في حياتنا، ونرجو أن يكون عامنا جديداً بكل المعاني.  

المصدر : المطران يوحنا ابراهيم


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة