دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
من الادبيات، او البديهيات، التي لا نعلم ما هي خلفياتها الاخلاقية او المهنية ألا يتعرض اعلامي لآخر بالنقد، فيما الثناء ممكن حتى ولو كان مخاتلاً ونفعياً ومتواطئاً،
وهذا يعود، بالدرجة الاولى، الى ثقافة التابو التي طالما ترعرعنا عليها رغم اقتناعنا بأنه ليس هناك من اعلامي قديس او مقدس، كما ليس هناك من طبيب او محام قديس او مقدس...
المهنة قد تكون مقدسة، اما صاحب المهنة فلا، خصوصاً اذا كنا في زمن تتردى فيه القيم يوماً بعد يوم. هي فلسفة السوق، وميكانيكية السوق، التي تجعلنا او يفترض ان تجعلنا عراة او متهمين امام الكلمة. اما الآن فتضيع الكلمة في هذه الضوضاء التي تتمحور حول الذهب، وحول الايديولوجيا المرصعة بالذهب. ألم يبدِ تياردو شاردان خشيته من ان ننسى ان الصليب الذي حمله السيد المسيح كان من الخشب لا من الياقوت؟...
اكثر من حالة نشهدها في برامج التوك شو التي غالباً ما تتحول الى لحظات كوميدية بلهاء او ثقيلة الظل، او قاحلة لأن من يسأل قد ينطلق من وضع غرائزي بالغ الوضوح او من اميّة راعبة، ولأن من يجيب ينطلق من وضع مماثل، دون اي اعتبار لذلك الاجترار الذي يتجاوز احياناً التفاهة. احياناً اخرى نكاد نعتذر من... التفاهة!
ولكن هناك حالة استثنائية، بالمعنى السلبي جداً للكلمة وتدعى فيصل القاسم على شاشة الجزيرة. وكنا نحترم ادبيات، او بديهيات، المهنة لو كان هذا الرجل اعلاميا فقط ولا يشبه في اوقات كثيرة، كثيرة جدا، رجال الاقبية في اجهزة الاستخبارات العربية والتي عانينا من بعضها الامرين (من ذاق او تذوق التعذيب بالعصا الكهربائية؟ تذوقنا ذلك في احد الاقبية وبقينا صدفة على قيد الحياة).
هذا الذي يحدث لا يراعي الحد الادنى من اخلاقيات التوك شو. هل تابع الرجل كيف كان لاري كينغ، على سبيل المثال، يحاور» ضحاياه»؟ لا، لا، نحن في عالم عربي لا مجال فيه لاي شخص لكي يتألق الا اذا كان آتياً للتو من الادغال. الادغال هنا اقل وطأة، واكثر مدنية، من الاقبية...
انه حوار القباقيب الذي يتولى ادارته ذلك الرجل، على الشاشة. شاهدناه كيف يدفع النقاش، على نحو بدائي وفظ، الى التضارب بالكراسي. كم تبدو على وجهه الغبطة عندما يتصايح ضيوفه كما لو اننا في حفلة ليلية لاكلة لحوم البشر(يوماً بعد يوم نثبت اننا نسخة ايديولوجية عن اكلة لحوم البشر...).
هذا ما نشاهده على الشاشة. قيل لنا ان الضيوف، وبعد انتهاء التوك شو الجزيل الاحترام، يتراشقون احياناً بالاحذية التي هي الوجه الآخر والانيق للقباقيب...
كل هذا، رغم هوله، ليس النقطة الاساسية في البرنامج الذي يديره فيصل القاسم، وهو غالباً ما يختار الضيف الذي يتفق معه في الرأي (لا في الرأي الآخر) من الوزن الثقيل، فيما يختار الضيف الآخر من وزن الريشة او من وزن الذبابة باعتبار ان التوك شو يتحول بعد دقائق من بدئه الى حفل مصارعة من الطراز الرديء الذي نشهده على بعض الشاشات الاجنبية.
فيصل القاسم- ايها المشاهدون الكرام- والذي يفترض به ان يكون متزناً ومتوازناً في الاداء سرعان ما يتحول الى « شخص كاسر»، ولا نستخدم صفة اخرى، في التعامل مع الضيف المعاكس. ينظر اليه بازدراء او بتقزز لا يمكن تصوره، ونشعر بأنه يكاد ينقض عليه ليفترسه وهو يضغط على اسنانه. وعلى كل علينا ان نشكر مسؤولي القناة، السعداء بأدائه الفذ، لانهم اكتفوا بأسنان فيصل القاسم، ولم يزودوه بالكرباج او بالساطور الذي يليق بتلك اللحظة، دون ان نغفل « اللحظة الايديولوجية» في الرجل والتي حضراتكم، كمشاهدين، على علم بها...
اجل، هنا التوك شو بالساطور لا بالكلمة. والمستهجن ان الكثير من الضيوف الذين يقعون في جاذبية الشاشات وحتى لو تعرضوا للاهانة او حتى للضرب، يلبّون بحرارة الدعوة الى التوك شو ويعتبرونه امتيازاً لا يحصل عليه الآخرون. انها فرصة العمر على تلك الشاشة حتى ولو عمد فيصل القاسم الى تعرية الضيف الذي من الاتجاه المعاكس ولم يبق منه سوى هيكله العظمي. هيكل عظمي تحت الضوء، وفي حضرة الساطور، تلج بصاحبنا الى الضوء بل الى التاريخ حينما يكون التاريخ عربة تجرها الثيران...
المثير ان البرنامج يقدم من سنوات، وان حفل المصارعة غالباً ما ينتهي بسقوط المصارع الذي من وزن الريشة او من وزن الذبابة ارضاً (احيانا تحت الارض). والمثير ايضا انه مازال يجد زبائن له بين الخاصة كما بين العامة، ما دمنا في زمن الدهماء..
عندما تسود لغة السواطير في السياسة، كيف لا تسود اللغة إياها في الاعلام؟ فيصل القاسم، باتجاهك المعاكس لفلسفة الاعلام، تستطيع ان تعثر في هذا الكرنفال العربي البائس على زبائن وعلى ضحايا. استمر. عافاك الله وعافى كل من ينتمي الى القرون الوسطى في قرننا!.(
المصدر :
نبيه برجي
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة