بات كل ما يدور في سورية معيار أيّ تبدّل في مسار المواجهة الضارية بين الرئيس بشّار الأسد ومعارضيه، الذين يقتربون من دمشق، لكن من دون أن يسيطروا تماماً على أي مدينة أخرى كبرى، أو على خطوط إمداد تهدّد استمرار النظام، كلما كبرت ترسانتها، تشتّتت المعارضة أكثر

تصاعدت في الأيام الأخيرة وتيرة العمليات العسكرية في سورية، وخصوصاً في دمشق وريفها، بالتزامن مع اجتماعات المعارضة السورية في الدوحة، على نحو بيّن مجدّداً حدّة السباق بين نظام الرئيس بشّار الأسد ومناوئيه على إحراز مكسب عسكري. ورغم توخّي اجتماعات الدوحة إحياء الثقة بالمعارضة ودفعها إلى إعادة بناء نفسها في إطار تنظيمي وتمثيلي جديد، تبدو أحداث الداخل الأكثر توجيهاً لمسار الأزمة. اقتربت الاشتباكات من العاصمة، وتدور في بعض أحيائها، أكثر من ذي قبل، وراحت تذكّر بما حدث لحلب، التي دخلتها الحرب تدريجاً منذ تموز الماضي، ثم أمست الآن في رحاها، والمكان الذي يحدّد مصير النظام ومستقبل المعارضة.

مع ذلك، فإن انطباعات شخصية لبنانية بارزة اطلعت، قبل أيام، عن قرب على موقف القيادة السورية، وخصوصاً الأسد، تخلص إلى استنتاجات معاكسة للاعتقاد الشائع عند المعارضة السورية أولاً، ثم عند المعارضة اللبنانية الأكثر حماسة واستعجالاً لرؤية نظام الأسد يسقط. بدا ما سمعته الشخصية اللبنانية يمثّل تفكير القيادة السورية وتعاطيها مع استفحال الأزمة.

وتلخص الشخصية اللبنانية، الموصوفة بفائض الاطلاع، الاستنتاجات تلك في الآتي:

1 ـــ  يعتقد  النظام بأن تحسين ظروف المواجهة العسكرية على الأرض ضروري في سبيل توظيف شروطه في التسوية السياسية المؤجلة، مع يقينه بأن أحداً في المجتمع الدولي لا يتحدّث الآن، أو في مدى قريب، عن حلول جاهزة، فيما انكفأت جهود الأخضر الإبرهيمي إلى الوراء. في غياب التسوية السياسية تصبح العمليات العسكرية واستخدام العنف حتى الذروة المجال الوحيد لتبادل المناورات كي يتمكّن كل من الطرفين من تسجيل مكاسب عسكرية جغرافية حقيقية. ولا تدخل في هذا الحساب التفجيرات والهجمات الانتحارية، غير ذات الأثر في تراجع النظام أو تقدّم المعارضة، أو العكس، بل يشهد العراق يومياً هجمات انتحارية وتفجيرات أكثر بكثير ممّا تعرفه المدن السورية. في نهاية المطاف يتبنّاها تنظيم سلفي متطرّف وحيد هو «جبهة النصرة والجهاد في بلاد الشام». بدوره الغرب، لا يقوّم الهجمات الانتحارية على أنها جزء لا يتجزأ من ضغوط المعارضة المسلحة على النظام لإرغامه على ترك السلطة، ويرى فيها أعمالاً إرهابية حملت بصمة تنظيم «القاعدة» الأكثر إقلاقاً له في سورية.

2 ـــ  على رغم انقضاء 19 شهراً على اندلاع الأزمة، لم تنشأ في سورية خطوط تماس عسكرية بين الجيش والمعارضة المسلحة التي لم تتثبّت تماماً من مقدرتها على السيطرة على مناطق تربط في ما بينها خطوط إمداد، وتعدّها كي تكون منطقة عازلة، مع التسليم بسيطرة المعارضة المسلحة على أقسام واسعة من الأرياف. تتقدّم فيها وتتراجع. تحوّلت المناطق تلك إقطاعات عسكرية بعضها مستقل عن البعض الآخر من غير إخضاعها لقيادة عسكرية واحدة، ومن ثمّ لمرجعية سياسية واحدة. سيطر السلفيون والمتطرّفون على بلدات، والإخوان المسلمون على أخرى، والمنشقّون على ثالثة، وتقاسموا مع النظام أحياءً في المدن. بيد أن تعذّر تثبيت خطوط التماس يُعزّز مقدرة الجيش على التحرّك برّاً أو جوّاً في كل مناطق سورية، بما فيها التي يسيطر عليها المسلحون.

3 ـــ  سقوط المهل المتتالية المرجّحة انهيار نظام الأسد الذي ينظر إلى صموده وبقائه في السلطة، وقيادته الجيش، بمثابة انتصار وإن جزئياً. بمرور الوقت يتضاءل الرهان نهائياً على تفكّك الجيش وانقسامه، أو في أحسن الأحوال انقلابه على الرئيس، بعدما أمست الانشقاقات مسألة ثانوية بالكاد تدخل في حسبان موازين القوى الداخلية. تقدّم إلى صدارة الحدث السوري تنامي قوة السلفيين والمتشدّدين والمسلحين الأجانب، والمخاوف التي بدأ الغرب يطلقها عن تشديد هؤلاء قبضتهم على مناطق سورية وتزايد ترسانتهم العسكرية وتوسّلهم العنف والوحشية.

4 ـــ  في حساب القيادة السورية أن الأزمة التي اندلعت بمواجهة داخلية بين النظام والمعارضة باتت اليوم أسيرة نزاع بين الشرق والغرب. لم تعد بذلك أزمة سورية محلية فحسب، ولم يعد الحلّ من الداخل، بل بين محورين دوليين لم يتمكّن مجلس الأمن من ابتلاع تناقض مقاربتيهما للمشكلة السورية. لا يسع أحدهما التفرّد بأي قرار يحمل المجتمع الدولي على تبنّيه.

تحت وطأة التوازن الذي حتّمه الانقسام الدولي حيال ما يجري في سوريا، لم يعد في إمكان الغرب فرض إسقاط النظام أو إرغام الرئيس على الاعتزال، ولا في وسع الشرق (والمقصود به المحور الروسي ـ الصيني) شطب المعارضة من معادلة النزاع والتسوية. يفسّر النظام الانتقال بالأزمة من بعدها الداخلي إلى آخر خارجي بأنه مكسب جناه الأسد بتعويله على عامل الوقت والرهان عليه. كل اللاعبين مكشوفون ومعروفون، ولا أوراق مخفية بين أيديهم.

5 ــــ  يعتقد الرئيس السوري بأن غيابه عن حكم بلاده سيكون أكثر كلفة من حضوره. ورغم الدمار الهائل الذي لحق بها في الأشهر الماضية وهو يواجه المعارضة المسلحة بضراوة، فإن خروجه من الساحة السياسية يفسح في المجال أمام دمار يظنّ أنه سيكون أكبر بكثير. وهو مغزى ما يعنيه باستمرار، بأن النظام والجيش لا يزالان يحولان حتى الآن دون انزلاق البلاد إلى حرب أهلية حقيقية.

6 ــــ  تتصرّف القيادة السورية ـ والواقع أن الرئيس اليوم يحجب ما عداه عندما يجد نفسه الهدف أكثر منه النظام ـ على أنها تخوض حرباً حقيقية استخدمت فيها كل أسلحة المواجهة، وأنفقت من أجلها مليارات الدولارات. وتقدّر القيادة ما أنفق حتى الآن على المعارضة المسلحة ومعارضي الخارج بثمانية مليارات دولار، تبدأ بربطات العنق الأنيقة والسيارات الفخمة وبطاقات السفر ونفقات الإقامة في فنادق العواصم الأوروبية والعربية والمخصصات الشخصية، ولا تنتهي بتمويل تجنيد المسلحين وبالخرطوشة والبندقية والرشاشات الثقيلة والمدافع، وصولاً أخيراً إلى صواريخ ستينغر.

  • فريق ماسة
  • 2012-11-09
  • 9168
  • من الأرشيف

سورية: تحسين ظروف الأرض أولاً

بات كل ما يدور في سورية معيار أيّ تبدّل في مسار المواجهة الضارية بين الرئيس بشّار الأسد ومعارضيه، الذين يقتربون من دمشق، لكن من دون أن يسيطروا تماماً على أي مدينة أخرى كبرى، أو على خطوط إمداد تهدّد استمرار النظام، كلما كبرت ترسانتها، تشتّتت المعارضة أكثر تصاعدت في الأيام الأخيرة وتيرة العمليات العسكرية في سورية، وخصوصاً في دمشق وريفها، بالتزامن مع اجتماعات المعارضة السورية في الدوحة، على نحو بيّن مجدّداً حدّة السباق بين نظام الرئيس بشّار الأسد ومناوئيه على إحراز مكسب عسكري. ورغم توخّي اجتماعات الدوحة إحياء الثقة بالمعارضة ودفعها إلى إعادة بناء نفسها في إطار تنظيمي وتمثيلي جديد، تبدو أحداث الداخل الأكثر توجيهاً لمسار الأزمة. اقتربت الاشتباكات من العاصمة، وتدور في بعض أحيائها، أكثر من ذي قبل، وراحت تذكّر بما حدث لحلب، التي دخلتها الحرب تدريجاً منذ تموز الماضي، ثم أمست الآن في رحاها، والمكان الذي يحدّد مصير النظام ومستقبل المعارضة. مع ذلك، فإن انطباعات شخصية لبنانية بارزة اطلعت، قبل أيام، عن قرب على موقف القيادة السورية، وخصوصاً الأسد، تخلص إلى استنتاجات معاكسة للاعتقاد الشائع عند المعارضة السورية أولاً، ثم عند المعارضة اللبنانية الأكثر حماسة واستعجالاً لرؤية نظام الأسد يسقط. بدا ما سمعته الشخصية اللبنانية يمثّل تفكير القيادة السورية وتعاطيها مع استفحال الأزمة. وتلخص الشخصية اللبنانية، الموصوفة بفائض الاطلاع، الاستنتاجات تلك في الآتي: 1 ـــ  يعتقد  النظام بأن تحسين ظروف المواجهة العسكرية على الأرض ضروري في سبيل توظيف شروطه في التسوية السياسية المؤجلة، مع يقينه بأن أحداً في المجتمع الدولي لا يتحدّث الآن، أو في مدى قريب، عن حلول جاهزة، فيما انكفأت جهود الأخضر الإبرهيمي إلى الوراء. في غياب التسوية السياسية تصبح العمليات العسكرية واستخدام العنف حتى الذروة المجال الوحيد لتبادل المناورات كي يتمكّن كل من الطرفين من تسجيل مكاسب عسكرية جغرافية حقيقية. ولا تدخل في هذا الحساب التفجيرات والهجمات الانتحارية، غير ذات الأثر في تراجع النظام أو تقدّم المعارضة، أو العكس، بل يشهد العراق يومياً هجمات انتحارية وتفجيرات أكثر بكثير ممّا تعرفه المدن السورية. في نهاية المطاف يتبنّاها تنظيم سلفي متطرّف وحيد هو «جبهة النصرة والجهاد في بلاد الشام». بدوره الغرب، لا يقوّم الهجمات الانتحارية على أنها جزء لا يتجزأ من ضغوط المعارضة المسلحة على النظام لإرغامه على ترك السلطة، ويرى فيها أعمالاً إرهابية حملت بصمة تنظيم «القاعدة» الأكثر إقلاقاً له في سورية. 2 ـــ  على رغم انقضاء 19 شهراً على اندلاع الأزمة، لم تنشأ في سورية خطوط تماس عسكرية بين الجيش والمعارضة المسلحة التي لم تتثبّت تماماً من مقدرتها على السيطرة على مناطق تربط في ما بينها خطوط إمداد، وتعدّها كي تكون منطقة عازلة، مع التسليم بسيطرة المعارضة المسلحة على أقسام واسعة من الأرياف. تتقدّم فيها وتتراجع. تحوّلت المناطق تلك إقطاعات عسكرية بعضها مستقل عن البعض الآخر من غير إخضاعها لقيادة عسكرية واحدة، ومن ثمّ لمرجعية سياسية واحدة. سيطر السلفيون والمتطرّفون على بلدات، والإخوان المسلمون على أخرى، والمنشقّون على ثالثة، وتقاسموا مع النظام أحياءً في المدن. بيد أن تعذّر تثبيت خطوط التماس يُعزّز مقدرة الجيش على التحرّك برّاً أو جوّاً في كل مناطق سورية، بما فيها التي يسيطر عليها المسلحون. 3 ـــ  سقوط المهل المتتالية المرجّحة انهيار نظام الأسد الذي ينظر إلى صموده وبقائه في السلطة، وقيادته الجيش، بمثابة انتصار وإن جزئياً. بمرور الوقت يتضاءل الرهان نهائياً على تفكّك الجيش وانقسامه، أو في أحسن الأحوال انقلابه على الرئيس، بعدما أمست الانشقاقات مسألة ثانوية بالكاد تدخل في حسبان موازين القوى الداخلية. تقدّم إلى صدارة الحدث السوري تنامي قوة السلفيين والمتشدّدين والمسلحين الأجانب، والمخاوف التي بدأ الغرب يطلقها عن تشديد هؤلاء قبضتهم على مناطق سورية وتزايد ترسانتهم العسكرية وتوسّلهم العنف والوحشية. 4 ـــ  في حساب القيادة السورية أن الأزمة التي اندلعت بمواجهة داخلية بين النظام والمعارضة باتت اليوم أسيرة نزاع بين الشرق والغرب. لم تعد بذلك أزمة سورية محلية فحسب، ولم يعد الحلّ من الداخل، بل بين محورين دوليين لم يتمكّن مجلس الأمن من ابتلاع تناقض مقاربتيهما للمشكلة السورية. لا يسع أحدهما التفرّد بأي قرار يحمل المجتمع الدولي على تبنّيه. تحت وطأة التوازن الذي حتّمه الانقسام الدولي حيال ما يجري في سوريا، لم يعد في إمكان الغرب فرض إسقاط النظام أو إرغام الرئيس على الاعتزال، ولا في وسع الشرق (والمقصود به المحور الروسي ـ الصيني) شطب المعارضة من معادلة النزاع والتسوية. يفسّر النظام الانتقال بالأزمة من بعدها الداخلي إلى آخر خارجي بأنه مكسب جناه الأسد بتعويله على عامل الوقت والرهان عليه. كل اللاعبين مكشوفون ومعروفون، ولا أوراق مخفية بين أيديهم. 5 ــــ  يعتقد الرئيس السوري بأن غيابه عن حكم بلاده سيكون أكثر كلفة من حضوره. ورغم الدمار الهائل الذي لحق بها في الأشهر الماضية وهو يواجه المعارضة المسلحة بضراوة، فإن خروجه من الساحة السياسية يفسح في المجال أمام دمار يظنّ أنه سيكون أكبر بكثير. وهو مغزى ما يعنيه باستمرار، بأن النظام والجيش لا يزالان يحولان حتى الآن دون انزلاق البلاد إلى حرب أهلية حقيقية. 6 ــــ  تتصرّف القيادة السورية ـ والواقع أن الرئيس اليوم يحجب ما عداه عندما يجد نفسه الهدف أكثر منه النظام ـ على أنها تخوض حرباً حقيقية استخدمت فيها كل أسلحة المواجهة، وأنفقت من أجلها مليارات الدولارات. وتقدّر القيادة ما أنفق حتى الآن على المعارضة المسلحة ومعارضي الخارج بثمانية مليارات دولار، تبدأ بربطات العنق الأنيقة والسيارات الفخمة وبطاقات السفر ونفقات الإقامة في فنادق العواصم الأوروبية والعربية والمخصصات الشخصية، ولا تنتهي بتمويل تجنيد المسلحين وبالخرطوشة والبندقية والرشاشات الثقيلة والمدافع، وصولاً أخيراً إلى صواريخ ستينغر.

المصدر : الاخبار / نقولا ناصيف


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة