يلعب التناقض أكبر ـ وأحيانا أعظم ـ أدواره في تاريخ الشعوب والامم بما يفوق كل المفاهيم العقلية والتاريخية الاخرى.

وهناك مدارس تاريخية في الفكر الانساني تقوم فلسفتها على التناقض باعتباره المحرك الاساسي للتاريخ الانساني من مرحلة الى اخرى. ولعل أبرز هذه المدارس التي تعتبر التناقض أهم العوامل المحركة للتاريخ مدرسة المادية التاريخية التي اعتبرت ولا تزال تعتبر الأهم بعد كل ما طرأ على التاريخ الانساني من تغيرات منذ نشأتها الاولى في منتصف القرن التاسع عشر. لقد تبنت هذه المدرسة مفهوم التناقض بين طبقات المجتمع باعتباره المحرك الرئيسي للتاريخ من مرحلة الى مرحلة. ولا تزال هذه المدرسة تتمسك بهذا المفهوم الاساسي وتعتبره محور حركة التطور في تاريخ الشعوب والامم وتاريخ العالم ككل.

واذا ما اقتربنا بعض الشيء الى هذه المفاهيم النظرية وتطبيقاتها على مجتمعنا العربي فإننا نجد لها تأثيراتها القوية وفاعليتها في تأكيد حركة التاريخ في هذه المجتمعات. ونتبين هذه الحقيقة خاصة عندما يكون مجتمعنا في حالة حراك اجتماعي وسياسي واقتصادي كالتي نعيشها في الوقت الحاضر، والتي لا تبدو نتائجها واضحة على الرغم من وضوح البدايات في هذا الحراك المتعدد الجوانب والاتجاهات.

واذا ما سلّمنا بتأثير الواقع المصري على واقع المجتمع العربي ككل فإننا نجد أنفسنا مطالبين بأن نستكشف دور التناقض في حركة التغيير التي تعتري المجتمع المصري كمقدمة لأي محاولة لفهم اتجاه الحراك الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في حياة الأمة العربية. ولن نستغرق وقتا طويلا في محاولتنا فهم طبيعة التناقض في الواقع المصري منذ بدايات ثورة 25 يناير 2011. فالتناقض هنا واضح جلي بين القوى الاجتماعية المختلفة. ولكنه أوضح ما يكون بين الشعب والسلطة. أي انه يزداد وضوحا مع اقتراب المجتمع المصري من أكثر نقاط الوضوح في هذا التقسيم بين الشعب والسلطة.

واذا ابتعدنا عن هذه المحاولة النظرية لفهم طبيعة التناقض في المجتمع المصري في الفترة الأخيرة من الصراع من أجل تنفيذ أهداف ثورة 25 يناير وتحقيقها فإننا نتبين سريعا اننا لسنا بصدد تناقض واحد رئيسي تتمحور حوله حركة التطور التاريخي في مصر. انما نحن في الحقيقة بصدد تناقضات متعددة بين الشعب والسلطة. ونتبين في الوقت نفسه ان هذه التناقضات الكثيرة لا تتبلور في تناقض واحد أساسي ـ مثل التناقض الطبقي أو التناقض القومي أو غيرهما ـ بحيث يمكن قراءة الاتجاه الذي تسير فيه أحداث هذا الوطن في هذا الوقت الملغز. اننا نجد أنفسنا بالاحرى أمام صراعات متعددة الجوانب بين الشعب والسلطة التي وجدت طريقها الى الحكم بصورة لا يمكن وصفها بأنها تاريخية أو بأنها نتيجة طبيعية لتفاعلات الثورة وتفاعلات المصالح المختلفة لهذين القطبين: الشعب والسلطة.

لقد تراكمت التناقضات بين الشعب المصري وسلطة «الاخوان المسلمين» التي تصاعدت بصورة لا تبدو حتى الآن ان لها ملامح عقلانية مفهومة في الطريق الذي قطعته من المشاركة متأخرة في مسار الثورة المصرية وصولا الى حكم الوطن. واذا لم نشغل أنفسنا بمسألة الكيفية التي استطاع بها «الاخوان المسلمون» كتنظيم سياسي ذي طابع ديني ان يصل الى مواقع السلطة، باعتبار ان هذا موضوع مستقل جدير بمعالجة خاصة، فإننا نستطيع ان نتحدث عن أسرع تكوين للتناقضات، ان لم يكن في تاريخ الامم عامة، فعلى الاقل في تاريخ الامة العربية، وتحديدا في تاريخ الشعب المصري.

تولى «الاخوان المسلمون» السلطة في مصر منذ اقل من ثلاثة اشهر، وخلال هذه الاشهر الثلاثة من أول ممارسة من جانبهم للسلطة في بلد عربي ومسلم أخذت التناقضات تتراكم بصورة لم يسبق لها مثيل بين الشعب المصري وهذه السلطة الاخوانية:

اولا: يبلغ التناقض أقصاه في نظرة هذين الطرفين ـ الشعب المصري و«الاخوان» ـ الى علاقات مصر العربية والاسلامية. الشعب المصري لم يعلن في أي وقت تنازله عن دوره القيادي مع بقية شعوب الامة العربية والعالم الاسلامي. بل انه عنى الى أقصى الحدود بتأكيد أهمية أن تستعيد مصر دورها القيادي هذا، بعد سنوات التراجع التي اتسمت بها فترت حكم أنور السادات وحسني مبارك. أما «الاخوان المسلمون» فإنهم بادروا منذ بداية رئاسة محمد مرسي الى تأكيد التسليم بالسير على خطى مبارك بتأكيد أولوية دور المملكة السعودية، بتقديم فروض الولاء والطاعة لها قبل أي إشارة خارجية.

ثانيا: التناقض كما يتمثل في علاقات مصر بالعالم الخارجي وتحديدا في العلاقات مع الولايات المتحدة واسرائيل. لقد اتجهت سلطة «الاخوان» الى تأكيد الالتزام بالسلام ومعاهدته مع اسرائيل على الرغم من ان الشعب المصري أعلن بكل وضوح، وأحيانا بعنف، رفضه لهذا الالتزام الذي أسهم في إبعاد مصر عن دورها القيادي بكل ما يعنيه.

ثالثا: التناقض الحاد والجازم بين المفهوم الشعبي للوطن ومفهوم «الاخوان» الرافض له. ان هذا التناقض يفضح المسافة الهائلة بين إحساس المصريين بوطنهم بمعانيه التاريخية والحضارية والثقافية وغياب هذا الاحساس لدى «الاخوان المسلمين» كتنظيم وكسلطة كما يتبدى في عدائهم للحقب الفرعونية التي سبقت كل حضارات العالم بما فيها الحضارة الاسلامية.

رابعا: التناقض في الموقف من زعامة عبد الناصر والمعاني العظيمة لحقبته التاريخية كما يقدرها الشعب المصري وموقف «الاخوان المسلمين» العدائي من عبد الناصر. وهذا تناقض أوضح من ان يحتاج الى شرح.

 

خامسا: التناقض في الموقف من السادات ومبارك. فحيث نجد الشعب المصري مدركا بعمق لما قام به هذان الرئيسان في تراجع دور مصر العربي والتحرري بوجه عام نجد سلطة «الاخوان المسلمين» تكشف خلال الشهور القليلة من توليها تصميمها على مواصلة دور مبارك والسادات في مجالات السياسة الداخلية والخارجية. وهنا ايضا فإن التناقض حاد بينهما إزاء ما تعنيه ثورة «25 يناير».

سادسا: التناقض في النظرة الى الدين. الشعب المصري أظهر مع توالي العصور وسطيته في فهم التعاليم الدينية للحياة ككل، بينما سلطة «الاخوان» كما يعبر عنها منظرو التنظيم الاخواني تكشف عن ميل نحو التطرف والمغالاة في فهم دور الدين في الحياة العامة والسياسية والثقافية.

سابعا: التناقض إزاء مفهومي الاقتصاد العام والخاص. ان إخلاص «الاخوان المسلمين» كسلطة وتنظيم لمصالح رجال الاعمال ـ وهم أنفسهم جزء أساسي منهم ـ يبقي على الاهتمام بتراكم الثروة لدى الاغنياء، حتى في أحلك ظروف الوطن الاقتصادية، بينما يؤكد الشعب المصري معارضته لهذا الاتجاه الذي يرضي المصالح الاميركية والاوروبية أكثر مما يلبي احتياجات الشعب المصري.

ثامنا: التناقض كما يتمثل في النظرة العامة الى الرجل والمرأة ودور كل منهما الاجتماعي والسياسي. ان الشعب المصري قد قطع مسافات واسعة نحو تحرير المرأة من سطوة دور الرجل. وجاءت مشاركة المرأة المصرية في ثورة «25 يناير» مؤكدة لتنامي هذا الدور، بينما يبدي «الاخوان المسلمون» حتى في مناقشات صياغة مواد الدستور معارضة ماضوية شديدة الوطأة لدور المرأة وحقوقها وحتى كرامتها. ان المرأة في الفهم الاخواني لا تخرج عن كونها واحدا من متع الرجل. ويكفي ان ننظر الى المناقشة الدائرة حول سن زواج الفتاة.

تاسعا: التناقض المتمثل في موقف هذين القطبين من الفن والإبداع. ان المجتمع المصري الذي قطع شوطا بعيدا نحو استيعاب دور الفن والمساهمة فيه عربيا وعالميا يجد نفسه مرغما على الاستعداد لمواجهات خطرة وحرجة مع الدعاة من الاخوان المسلمين الذين يصفون الفن والإبداع الادبي والثقافي بأبشع الأوصاف وأكثرها بعدا عن الحقيقة.

وبعد.. فإن ممارسة الاخوان المسلمين للسلطة للمرة الاولى في حياة مصر السياسية ومنذ أن تأسس تنظيمهم في عام 1928 قد كشفت بالفعل عن تناقض عميق وشاسع بينهم وبين مصر، وبالتالي بينهم وبين الوطن العربي والعالم الاسلامي. وتكمن خطورة هذا التناقض الأخذ بالتعدد والاتساع في صميم اعتقاد «الاخوان المسلمين» كتنظيم سياسي ذي واجهة دينية بأنهم لا يشكلون مجرد تنظيم قطري (مصري) بل انهم تنظيم إسلامي يتسع ليشمل من ناحية الاهداف والغايات كل العالم الاسلامي على اختلاف الثقافات والسياسات، اذا اتجهنا الى موريتانيا غربا واذا اتجهنا الى اندونيسيا شرقا. وينطوي هذا الاهتمام غير المحدود على خطر تبديد قوى وقدرات ومصادر مصر المادية والروحية.

والامر المؤكد ان هذه التناقضات ستلعب الدور الرئيسي في الصراع السياسي والعقائدي بين الشعب المصري و«الاخوان المسلمين» من أجل تحقيق هدف أولي هو تخليص مصر من قبضة السلطة الاخوانية. فإن ثورة «25 يناير» لم تكن من أجل تسليم السلطة لهم، حتى وان أدت مجموعة تناقضات اعترت مسار الثورة الى تحقيق هذه النتيجة غير المقصودة.

انما يبقى ان من الضروري متابعة هذه التناقضات في تراكمها، وبصفة خاصة كيف تندمج وتتحول الى تناقض أساسي واحد قومي أو طبقي أو ربما ثقافي. فسيكون تبلور هذه التناقضات المتعددة في تناقض أساسي واحد دالا على طبيعة الصراع القادم بين الشعب المصري وقياداته الثورية التي ستبزغ مع هذه التحولات والاخوان المسلمين.

ولا بد هنا من تأكيد حقيقة مهمة هي ان هذا الصراع في صورته النهائية بين الشعب المصري وتنظيم «الاخوان المسلمين» لن يكون سهلا أو سريعا. الاحرى انه سيمتد لفترة تكون بالغة الصعوبة بسبب طبيعة التنظيم الاخواني. وأهم ما في طبيعة هذا التنظيم انه تنظيم يمتلك ميليشيا مسلحة ولن يمتنع عن استخدام هذه الميليشيا ضد أي طرف يقاومه، حتى لو كانت القوات المسلحة نفسها.

وربما نميل الى اعتبار ان التكوين النفسي التاريخي لشعب مصر ينأى عن العنف المسلح اذا قورن ببلدان عربية اخرى. ولكن الامر الذي لا يمكن استبعاده هو أن الصراع القادم بين شعب مصر وسلطة الاخوان المسلمين يمكن ان يحمل سمات مختلفة. ان «الاخوان المسلمين» يبدون من الآن ميلا لا يمكن تجاهله الى التمسك بالسلطة بأي ثمن.

  • فريق ماسة
  • 2012-11-08
  • 9878
  • من الأرشيف

تناقضات بين مصر و الإخوان

يلعب التناقض أكبر ـ وأحيانا أعظم ـ أدواره في تاريخ الشعوب والامم بما يفوق كل المفاهيم العقلية والتاريخية الاخرى. وهناك مدارس تاريخية في الفكر الانساني تقوم فلسفتها على التناقض باعتباره المحرك الاساسي للتاريخ الانساني من مرحلة الى اخرى. ولعل أبرز هذه المدارس التي تعتبر التناقض أهم العوامل المحركة للتاريخ مدرسة المادية التاريخية التي اعتبرت ولا تزال تعتبر الأهم بعد كل ما طرأ على التاريخ الانساني من تغيرات منذ نشأتها الاولى في منتصف القرن التاسع عشر. لقد تبنت هذه المدرسة مفهوم التناقض بين طبقات المجتمع باعتباره المحرك الرئيسي للتاريخ من مرحلة الى مرحلة. ولا تزال هذه المدرسة تتمسك بهذا المفهوم الاساسي وتعتبره محور حركة التطور في تاريخ الشعوب والامم وتاريخ العالم ككل. واذا ما اقتربنا بعض الشيء الى هذه المفاهيم النظرية وتطبيقاتها على مجتمعنا العربي فإننا نجد لها تأثيراتها القوية وفاعليتها في تأكيد حركة التاريخ في هذه المجتمعات. ونتبين هذه الحقيقة خاصة عندما يكون مجتمعنا في حالة حراك اجتماعي وسياسي واقتصادي كالتي نعيشها في الوقت الحاضر، والتي لا تبدو نتائجها واضحة على الرغم من وضوح البدايات في هذا الحراك المتعدد الجوانب والاتجاهات. واذا ما سلّمنا بتأثير الواقع المصري على واقع المجتمع العربي ككل فإننا نجد أنفسنا مطالبين بأن نستكشف دور التناقض في حركة التغيير التي تعتري المجتمع المصري كمقدمة لأي محاولة لفهم اتجاه الحراك الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في حياة الأمة العربية. ولن نستغرق وقتا طويلا في محاولتنا فهم طبيعة التناقض في الواقع المصري منذ بدايات ثورة 25 يناير 2011. فالتناقض هنا واضح جلي بين القوى الاجتماعية المختلفة. ولكنه أوضح ما يكون بين الشعب والسلطة. أي انه يزداد وضوحا مع اقتراب المجتمع المصري من أكثر نقاط الوضوح في هذا التقسيم بين الشعب والسلطة. واذا ابتعدنا عن هذه المحاولة النظرية لفهم طبيعة التناقض في المجتمع المصري في الفترة الأخيرة من الصراع من أجل تنفيذ أهداف ثورة 25 يناير وتحقيقها فإننا نتبين سريعا اننا لسنا بصدد تناقض واحد رئيسي تتمحور حوله حركة التطور التاريخي في مصر. انما نحن في الحقيقة بصدد تناقضات متعددة بين الشعب والسلطة. ونتبين في الوقت نفسه ان هذه التناقضات الكثيرة لا تتبلور في تناقض واحد أساسي ـ مثل التناقض الطبقي أو التناقض القومي أو غيرهما ـ بحيث يمكن قراءة الاتجاه الذي تسير فيه أحداث هذا الوطن في هذا الوقت الملغز. اننا نجد أنفسنا بالاحرى أمام صراعات متعددة الجوانب بين الشعب والسلطة التي وجدت طريقها الى الحكم بصورة لا يمكن وصفها بأنها تاريخية أو بأنها نتيجة طبيعية لتفاعلات الثورة وتفاعلات المصالح المختلفة لهذين القطبين: الشعب والسلطة. لقد تراكمت التناقضات بين الشعب المصري وسلطة «الاخوان المسلمين» التي تصاعدت بصورة لا تبدو حتى الآن ان لها ملامح عقلانية مفهومة في الطريق الذي قطعته من المشاركة متأخرة في مسار الثورة المصرية وصولا الى حكم الوطن. واذا لم نشغل أنفسنا بمسألة الكيفية التي استطاع بها «الاخوان المسلمون» كتنظيم سياسي ذي طابع ديني ان يصل الى مواقع السلطة، باعتبار ان هذا موضوع مستقل جدير بمعالجة خاصة، فإننا نستطيع ان نتحدث عن أسرع تكوين للتناقضات، ان لم يكن في تاريخ الامم عامة، فعلى الاقل في تاريخ الامة العربية، وتحديدا في تاريخ الشعب المصري. تولى «الاخوان المسلمون» السلطة في مصر منذ اقل من ثلاثة اشهر، وخلال هذه الاشهر الثلاثة من أول ممارسة من جانبهم للسلطة في بلد عربي ومسلم أخذت التناقضات تتراكم بصورة لم يسبق لها مثيل بين الشعب المصري وهذه السلطة الاخوانية: اولا: يبلغ التناقض أقصاه في نظرة هذين الطرفين ـ الشعب المصري و«الاخوان» ـ الى علاقات مصر العربية والاسلامية. الشعب المصري لم يعلن في أي وقت تنازله عن دوره القيادي مع بقية شعوب الامة العربية والعالم الاسلامي. بل انه عنى الى أقصى الحدود بتأكيد أهمية أن تستعيد مصر دورها القيادي هذا، بعد سنوات التراجع التي اتسمت بها فترت حكم أنور السادات وحسني مبارك. أما «الاخوان المسلمون» فإنهم بادروا منذ بداية رئاسة محمد مرسي الى تأكيد التسليم بالسير على خطى مبارك بتأكيد أولوية دور المملكة السعودية، بتقديم فروض الولاء والطاعة لها قبل أي إشارة خارجية. ثانيا: التناقض كما يتمثل في علاقات مصر بالعالم الخارجي وتحديدا في العلاقات مع الولايات المتحدة واسرائيل. لقد اتجهت سلطة «الاخوان» الى تأكيد الالتزام بالسلام ومعاهدته مع اسرائيل على الرغم من ان الشعب المصري أعلن بكل وضوح، وأحيانا بعنف، رفضه لهذا الالتزام الذي أسهم في إبعاد مصر عن دورها القيادي بكل ما يعنيه. ثالثا: التناقض الحاد والجازم بين المفهوم الشعبي للوطن ومفهوم «الاخوان» الرافض له. ان هذا التناقض يفضح المسافة الهائلة بين إحساس المصريين بوطنهم بمعانيه التاريخية والحضارية والثقافية وغياب هذا الاحساس لدى «الاخوان المسلمين» كتنظيم وكسلطة كما يتبدى في عدائهم للحقب الفرعونية التي سبقت كل حضارات العالم بما فيها الحضارة الاسلامية. رابعا: التناقض في الموقف من زعامة عبد الناصر والمعاني العظيمة لحقبته التاريخية كما يقدرها الشعب المصري وموقف «الاخوان المسلمين» العدائي من عبد الناصر. وهذا تناقض أوضح من ان يحتاج الى شرح.   خامسا: التناقض في الموقف من السادات ومبارك. فحيث نجد الشعب المصري مدركا بعمق لما قام به هذان الرئيسان في تراجع دور مصر العربي والتحرري بوجه عام نجد سلطة «الاخوان المسلمين» تكشف خلال الشهور القليلة من توليها تصميمها على مواصلة دور مبارك والسادات في مجالات السياسة الداخلية والخارجية. وهنا ايضا فإن التناقض حاد بينهما إزاء ما تعنيه ثورة «25 يناير». سادسا: التناقض في النظرة الى الدين. الشعب المصري أظهر مع توالي العصور وسطيته في فهم التعاليم الدينية للحياة ككل، بينما سلطة «الاخوان» كما يعبر عنها منظرو التنظيم الاخواني تكشف عن ميل نحو التطرف والمغالاة في فهم دور الدين في الحياة العامة والسياسية والثقافية. سابعا: التناقض إزاء مفهومي الاقتصاد العام والخاص. ان إخلاص «الاخوان المسلمين» كسلطة وتنظيم لمصالح رجال الاعمال ـ وهم أنفسهم جزء أساسي منهم ـ يبقي على الاهتمام بتراكم الثروة لدى الاغنياء، حتى في أحلك ظروف الوطن الاقتصادية، بينما يؤكد الشعب المصري معارضته لهذا الاتجاه الذي يرضي المصالح الاميركية والاوروبية أكثر مما يلبي احتياجات الشعب المصري. ثامنا: التناقض كما يتمثل في النظرة العامة الى الرجل والمرأة ودور كل منهما الاجتماعي والسياسي. ان الشعب المصري قد قطع مسافات واسعة نحو تحرير المرأة من سطوة دور الرجل. وجاءت مشاركة المرأة المصرية في ثورة «25 يناير» مؤكدة لتنامي هذا الدور، بينما يبدي «الاخوان المسلمون» حتى في مناقشات صياغة مواد الدستور معارضة ماضوية شديدة الوطأة لدور المرأة وحقوقها وحتى كرامتها. ان المرأة في الفهم الاخواني لا تخرج عن كونها واحدا من متع الرجل. ويكفي ان ننظر الى المناقشة الدائرة حول سن زواج الفتاة. تاسعا: التناقض المتمثل في موقف هذين القطبين من الفن والإبداع. ان المجتمع المصري الذي قطع شوطا بعيدا نحو استيعاب دور الفن والمساهمة فيه عربيا وعالميا يجد نفسه مرغما على الاستعداد لمواجهات خطرة وحرجة مع الدعاة من الاخوان المسلمين الذين يصفون الفن والإبداع الادبي والثقافي بأبشع الأوصاف وأكثرها بعدا عن الحقيقة. وبعد.. فإن ممارسة الاخوان المسلمين للسلطة للمرة الاولى في حياة مصر السياسية ومنذ أن تأسس تنظيمهم في عام 1928 قد كشفت بالفعل عن تناقض عميق وشاسع بينهم وبين مصر، وبالتالي بينهم وبين الوطن العربي والعالم الاسلامي. وتكمن خطورة هذا التناقض الأخذ بالتعدد والاتساع في صميم اعتقاد «الاخوان المسلمين» كتنظيم سياسي ذي واجهة دينية بأنهم لا يشكلون مجرد تنظيم قطري (مصري) بل انهم تنظيم إسلامي يتسع ليشمل من ناحية الاهداف والغايات كل العالم الاسلامي على اختلاف الثقافات والسياسات، اذا اتجهنا الى موريتانيا غربا واذا اتجهنا الى اندونيسيا شرقا. وينطوي هذا الاهتمام غير المحدود على خطر تبديد قوى وقدرات ومصادر مصر المادية والروحية. والامر المؤكد ان هذه التناقضات ستلعب الدور الرئيسي في الصراع السياسي والعقائدي بين الشعب المصري و«الاخوان المسلمين» من أجل تحقيق هدف أولي هو تخليص مصر من قبضة السلطة الاخوانية. فإن ثورة «25 يناير» لم تكن من أجل تسليم السلطة لهم، حتى وان أدت مجموعة تناقضات اعترت مسار الثورة الى تحقيق هذه النتيجة غير المقصودة. انما يبقى ان من الضروري متابعة هذه التناقضات في تراكمها، وبصفة خاصة كيف تندمج وتتحول الى تناقض أساسي واحد قومي أو طبقي أو ربما ثقافي. فسيكون تبلور هذه التناقضات المتعددة في تناقض أساسي واحد دالا على طبيعة الصراع القادم بين الشعب المصري وقياداته الثورية التي ستبزغ مع هذه التحولات والاخوان المسلمين. ولا بد هنا من تأكيد حقيقة مهمة هي ان هذا الصراع في صورته النهائية بين الشعب المصري وتنظيم «الاخوان المسلمين» لن يكون سهلا أو سريعا. الاحرى انه سيمتد لفترة تكون بالغة الصعوبة بسبب طبيعة التنظيم الاخواني. وأهم ما في طبيعة هذا التنظيم انه تنظيم يمتلك ميليشيا مسلحة ولن يمتنع عن استخدام هذه الميليشيا ضد أي طرف يقاومه، حتى لو كانت القوات المسلحة نفسها. وربما نميل الى اعتبار ان التكوين النفسي التاريخي لشعب مصر ينأى عن العنف المسلح اذا قورن ببلدان عربية اخرى. ولكن الامر الذي لا يمكن استبعاده هو أن الصراع القادم بين شعب مصر وسلطة الاخوان المسلمين يمكن ان يحمل سمات مختلفة. ان «الاخوان المسلمين» يبدون من الآن ميلا لا يمكن تجاهله الى التمسك بالسلطة بأي ثمن.

المصدر : السفير/ سمير كرم


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة