أثبتت تركيا انها أطلسية قبل كل شيء وبعد كل شيء على الرغم من انها مبعدة أوروبيا بكل المعاني ولا تستطيع أن تجعل نفسها مقبولة من أوروبا التي تشكل الجانب الاكبر من حلف الاطلسي. ذلك ان تركيا مفيدة أطلسيا، ولا يرى الاطلسيون لها فائدة اذا سمحوا لها بالدخول في الاتحاد الاوروبي.

سنوات طويلة وتركيا تبذل أقصى ما بوسعها لتثبت للاطلسيين انها أوروبية بلا جدوى. وصحيح ان الزعيم التركي كمال اتاتورك سبق حلف الاطلسي بنحو عشرين عاما في نقل تركيا من الشرق الى الغرب لغة وثقافة وسياسة ولم يكن الحلف قد تكون بعد، إلا ان الغرب لا يزال حتى اليوم يرفض تركيا إلا عضواً في منظمة حلف شمال الاطلسي. ويصر على أن تبقى تركيا في دور الخادم العسكري للحلف في مواجهاته مع العالم العربي والاسلامي الذي حكمته تركيا العثمانية لنحو أربعة قرون متصلة.

وقد أثبتت أحداث سورية الدامية انها فرصة أطلسية جديدة قد لا تكون اخيرة ـ بل من المؤكد ان لا تكون الاخيرة ـ للبرهنة على أطلسية تركيا في هذا الدور، ضد العرب وضد المسلمين مرة اخرى واخرى. كانت قذيفة حربية واحدة لم يثبت بعد اذا كانت طائشة أو مقصودة كافية لاندفاع تركيا نحو توجيه سيل من القذائف الى القوات الحكومية السورية القريبة من حدودها. وعندما تبين مقاتلو التنظيمات المتطرفة من الجنسيات كافة في سورية مدى فاعلية القذائف الطائشة في خلق رد فعل تركي مضروبا في عشرة أمثال، وجدت تركيا ان الفرصة سانحة لأداء دور اطلسي أكثر ضررا وأعمق في تأكيد انتمائها العسكري ـ العسكري فقط ـ الى الحلف الغربي، ولتبقى تركيا كما كانت، لأكثر من تسعين عاما، راغبة في البرهنة على استحقاقها انتماء أوروبيا، كان لا بد ان تثبت لحلف الاطلسي بزعامة الولايات المتحدة، انها جاهزة بالقوة العسكرية اللازمة لتوجيه أقصى وأقسى ما يمكنها من ضربات الى سورية الجريحة التي تنزف دما كما لم تنزف في أي وقت.

ولكن ـ وهذه «لكن» ضرورية وبالغة الاهمية في الظروف التركية الراهنة ـ هل يتفق الشعب التركي اتفاقا كاملا مع الحكم التركي في الانتماء الاطلسي الذي يضحّي بحسن الجوار والمشاركة الدينية والجغرافية والتاريخية؟

لقد أراد الاتراك ـ الذين تمنّ عليهم حكومتهم بالنسبة العالية من النمو الاقتصادي وكأنها هي صاحبة الفضل فيه ـ أن يبرهنوا لحكامهم، بل للعالم الاسلامي كله، وللدنيا بأجمعها، على ان أطلسية الحكم لا تنسحب عليه ولا تلزمه بأي حال. لقد قامت التظاهرات الشعبية التركية ضد الاستجابة العسكرية الحكومية لمعاقبة سورية، باعتبار ذلك تصرفا مرفوضا من الشعب التركي. أوضحت التظاهرات الشعبية التركية ضد حكومة الطيب اردوغان، الاطلسية الانتماء والسياسة، ان الشعب التركي أكثر وعيا من حكومته ومن حكومات الحلف الغربي الضخم، بل أكثر وعيا من معظم البلدان المحيطة به وبسوريا، بحقيقة الأحداث الدامية التي تريد تدمير سورية على أيدي القوى القتالية، التي تدربت على القتل والتدمير لأهداف اخرى، لا علاقة لها بسورية أو بأي بلد عربي آخر. أوضحت التظاهرات الشعبية التي ردت عليها حكومة اردوغان بكل ما لديها من ميل للعنف، ان الشعب التركي يعرف أن هذه ليست معركته، بل معركة حلف الاطلسي ضد العرب والمسلمين وضد تركيا نفسها.

ستبرهن الايام المقبلة على إمكان نجاح محاولة الزج بتركيا في المعركة الدموية الدائرة في سورية والى جانب المقاتلين المجمّعين من الشيشان وأفغانستان واليمن والصومال ومصر وليبيا وغيرها. ستبرهن على ما اذا كانت تركيا يمكن ان تستيقظ من غفوتها الاطلسية لتعرف أن علاقاتها مع سورية والمنطقة العربية كلها والعالم الاسلامي، أهم من كل أهداف حلف الاطلسي التدميرية، أو ان تركيا ستبقى مستسلمة لهذا الانتماء الاطلسي الذي يقربها ـ لا أكثر ـ من أوروبا والولايات المتحدة ولو في دور الخادم الامين. فإما حرب تركية على سورية في أحلك ظروف يمكن ان تكون فيها سورية، وإما وعي تركي يصل الى مشارف الحكومة ولا يظل حبيس أحاسيس الشعب التركي وتظاهراته الدامية في الشمال والجنوب.

لقد تواكبت تظاهرات الاتراك المؤيدة لسورية الشعب، ضد تصرفات حكومتهم التي أعطت الاولوية لحلف الاطلسي وخططه وأهدافه، مع تظاهرات قام بها فريق من المصريين ضد هذه الحكومة السورية نفسها، في نسيان يبدو تاما للعلاقات الخاصة التاريخية والقومية التي ربطت بين مصر وسوريا على مدى التاريخ منذ أزمنة الفراعنة. وتكشف المقارنة بين التظاهرات الشعبية التركية وتظاهرات المصريين عن اختلاف في مستوى الوعي في الفترة الراهنة لدى الاتراك من ناحية، ولدى هذا الفريق من المصريين الذي تدعم سلوكه حكومة «الاخوان المسلمين». ففي مصر حكم «اخواني» يتمنى ان يرى سورية تسقط بدورها تحت حكم «الاخوان المسلمين»، أو إخوانهم الآخرين الآتين من أفغانستان وباكستان والعراق، من ذيول حروب فجرتها الولايات المتحدة، والآن تريد ان تستخدم جندهم، مقاتلين من أجل سيطرة الاهداف الاميركية في بلدان «الربيع العربي». وليس من المستبعد ان تؤدي التظاهرات الشعبية دورها في كبح جماح حكومة اردوغان ومنعها من الانقضاض العسكري على سورية التي تنزف دما منذ أكثر من ثمانية عشر شهرا.

لقد نظمت أحزاب سياسية معارضة ومنظمات مدنية ومهنية وحرفية ـ أي عمالية ـ تظاهرات شارك فيها الآلاف ليلة الرابع من تشرين الاول / اكتوبر الحالي في اسطنبول وفي وسط انقرة إعلانا لرفض هذه الجماهير الشعبية التركية للحرب على سورية، واحتجاجا على منح البرلمان التركي لحكومة أردوغان صلاحية ارسال قوات تركية الى سورية. وأفادت وكالات الانباء، بما فيها الوكالات الغربية، ان المتظاهرين الاتراك هاجموا سياسة حكومة حزب اردوغان ـ العدالة والتنمية ـ مرددين شعارات كان من بينها «أميركا المجرمة وشريكتها حكومة أردوغان»، «أميركا ارفعي يديك عن أراضي المسلمين»، «الموت لحلف الاطلسي، يعيش التضامن ضد الامبريالية»، «حزب العدالة يختار الحرب والشعوب تختار السلام».

 

في الوقت نفسه أبدت أوروبا قدرا كبيرا من الحذر إزاء الموقف المعقد الذي تجد تركيا نفسها فيه. وعلى سبيل المثال رفض المتحدث باسم وزارة الخارجية النمساوية التكهن «بمدى قدرة أوروبا على مواصلة تقديم الدعم لتركيا في تعاملها مع الازمة السورية، خاصة بعد تصاعد التوتر على الحدود على خلفية تبادل القصف بين جيشي البلدين». وأضاف «اننا عندما نتحدث عن دعم انقرة نصر على ربط ذلك بعدم التصعيد والتزام ضبط النفس». ولا يعني مثل هذا التصريح إلا شيئا واحدا هو انه اذا أرادت تركيا ان تشن حربا على سورية يكون ذلك على مسؤولية تركيا وحدها (…)

اذا كان من الممكن الخروج بشيء إيجابي من هذه الازمة داخل الازمة فهو ان احتمالات الحرب التي يمكن ان تشنها الحكومة التركية على سورية في هذه الظروف، فهو انها بدأت في إفاقة الشعوب العربية ـ وحتى داخل بلدان «الربيع العربي» ـ على حقيقة ما يجري في سورية منذ نحو ثمانية عشر شهرا. ولقد بدأت في الظهور في الصحف ووسائل الاعلام العربية كتابات تدل على فهم جديد وواضح لأحداث سورية باعتبارها من صنع اميركا وحلف الاطلسي، بالاضافة الى الادوار المركزية التي تلعبها السعودية وقطر والامارات والبحرين، بصورة أقرب الى العلنية منها الى الخفاء. ومن بين هذه النماذج الجديدة قول صحيفة «الوطن» المصرية الجديدة بلهجة بالغة السخرية «ان المعارضتين الداخلية والخارجية تلطمان الخدود وتشقان الجيوب على حال الشعب السوري المنكوب، والجماعات الجهادية المسلحة جاءت من افغانستان والعراق وكوسوفو وبعض الدول الاوروبية والعربية، لتدعم جهاد الاخوة وأجهزة الاستخبارات وعناصر القوات الخاصة من دول غربية بعينها، تعمل من أجل نصرة الشعب السوري المغلوب على أمره».

هذا نموذج واحد هو كل ما تتسع له هذه المساحة للكتابات الجديدة التي كانت غائبة تماما بصورة مريبة طوال الشهور منذ بداية المحنة السورية. الآن بدأ الكتاب الذين يتوخون ذكر الحقيقة بصرف النظر عما يرضي «الاخوان المسلمين» أو يثير غضبهم في مصر أو سورية أو الاردن أو في أي مكان ينتشر فيه فكر «الاخوان» وممارساتهم السلطوية أو المسلحة. والمسألة ان معارضة ـ مثل معارضة الشعب المصري لممارسات «الاخوان المسلمين» وقد أصبحوا يمسكون بالسلطة ـ خلقت الدافع الكافي لدى الملايين والمعبرين عن أفكارهم من الكتاب والصحافيين لكي يقولوا الحقيقة، ليس فقط عما يجري تحت سلطة «الاخوان» في مصر انما ايضا تحت نيران «الاخوان المسلمين» وحلفائهم في سوريا. ان ممارسات التنظيمات الدينية المتطرفة ـ سواء كانت في الحكم او في المعارضة ـ تخلق رد الفعل الجدير بها هنا وهناك. فما بالنا وهذه التنظيمات تتحول من أعداء وخصوم للامبريالية الاميركية الى حلفاء لها، سواء كانت هذه التنظيمات في الحكم أو في المعارضة.

ان النتيجة المؤكدة لهذا التحالف الشرير الذي كشف الوجه الحقيقي للتنظيمات المتطرفة بقبولها التمويل والتسليح من الولايات المتحدة ومن حلفائها في النظم العربية لن تختلف كثيرا عن النتائج الملموسة التي أسفرت عنها تدخلات الاميركيين في العراق وأفغانستان، بل حتى في ليبيا مؤخرا، حيث الثورة تتصدع وتنهار، لان الشعب الليبي يرفض التسليم بهيمنة الاميركيين على شؤونه ومصائره. ولن تكون النتيجة في سورية إلا انعكاسا لما نراه الآن من صعود وعي الجماهير بما تقصده أميركا، وما يقصده حلفاؤها الجدد الذين كانوا يعدون أكثر المتطرفين عداء لأميركا والسياسات الاميركية، وهم الآن يعملون لحساب أميركا والسياسات الاميركية.

ولن تكون الحالة التركية في المواجهة مع سورية حالة خاصة إلا بقدر ما ستكون اختبارا لقدرة حكومة تتمسك بأهداب الاصول الدينية، مثل حكومة حزب العدالة والتنمية التركي معتبرة ذلك سلاحا لا يقهر في مواجهة الجماهير الشعبية، على مواجهة المعارضة الجماهيرية التي خرجت بالآلاف الى الشارع.

ان العوامل التي تجبر الولايات المتحدة على الإحجام عن التدخل العسكري المباشر في سورية تبقى هي ذاتها العوامل التي ينبغي ان تجبر حكومة تركيا على الإحجام عن التدخل العسكري في سورية. وليست تركيا أقدر من ناحية القوة العسكرية من الولايات المتحدة خاصة في مواجهة حالة بالغة الوعورة مثل سورية. كل ما في الامر ان تركيا متاخمة لسورية. وتريد أميركا استغلال الاطلسية التركية في ما تعتقد انه مواصلة القتال في سورية بينما تقف اميركا في موقع المراقب ولا تستطيع أوروبا ان تفعل أكثر من اميركا.

  • فريق ماسة
  • 2012-10-11
  • 13191
  • من الأرشيف

تـركـيـا أطـلـسيـة بـامـتـيـاز

أثبتت تركيا انها أطلسية قبل كل شيء وبعد كل شيء على الرغم من انها مبعدة أوروبيا بكل المعاني ولا تستطيع أن تجعل نفسها مقبولة من أوروبا التي تشكل الجانب الاكبر من حلف الاطلسي. ذلك ان تركيا مفيدة أطلسيا، ولا يرى الاطلسيون لها فائدة اذا سمحوا لها بالدخول في الاتحاد الاوروبي. سنوات طويلة وتركيا تبذل أقصى ما بوسعها لتثبت للاطلسيين انها أوروبية بلا جدوى. وصحيح ان الزعيم التركي كمال اتاتورك سبق حلف الاطلسي بنحو عشرين عاما في نقل تركيا من الشرق الى الغرب لغة وثقافة وسياسة ولم يكن الحلف قد تكون بعد، إلا ان الغرب لا يزال حتى اليوم يرفض تركيا إلا عضواً في منظمة حلف شمال الاطلسي. ويصر على أن تبقى تركيا في دور الخادم العسكري للحلف في مواجهاته مع العالم العربي والاسلامي الذي حكمته تركيا العثمانية لنحو أربعة قرون متصلة. وقد أثبتت أحداث سورية الدامية انها فرصة أطلسية جديدة قد لا تكون اخيرة ـ بل من المؤكد ان لا تكون الاخيرة ـ للبرهنة على أطلسية تركيا في هذا الدور، ضد العرب وضد المسلمين مرة اخرى واخرى. كانت قذيفة حربية واحدة لم يثبت بعد اذا كانت طائشة أو مقصودة كافية لاندفاع تركيا نحو توجيه سيل من القذائف الى القوات الحكومية السورية القريبة من حدودها. وعندما تبين مقاتلو التنظيمات المتطرفة من الجنسيات كافة في سورية مدى فاعلية القذائف الطائشة في خلق رد فعل تركي مضروبا في عشرة أمثال، وجدت تركيا ان الفرصة سانحة لأداء دور اطلسي أكثر ضررا وأعمق في تأكيد انتمائها العسكري ـ العسكري فقط ـ الى الحلف الغربي، ولتبقى تركيا كما كانت، لأكثر من تسعين عاما، راغبة في البرهنة على استحقاقها انتماء أوروبيا، كان لا بد ان تثبت لحلف الاطلسي بزعامة الولايات المتحدة، انها جاهزة بالقوة العسكرية اللازمة لتوجيه أقصى وأقسى ما يمكنها من ضربات الى سورية الجريحة التي تنزف دما كما لم تنزف في أي وقت. ولكن ـ وهذه «لكن» ضرورية وبالغة الاهمية في الظروف التركية الراهنة ـ هل يتفق الشعب التركي اتفاقا كاملا مع الحكم التركي في الانتماء الاطلسي الذي يضحّي بحسن الجوار والمشاركة الدينية والجغرافية والتاريخية؟ لقد أراد الاتراك ـ الذين تمنّ عليهم حكومتهم بالنسبة العالية من النمو الاقتصادي وكأنها هي صاحبة الفضل فيه ـ أن يبرهنوا لحكامهم، بل للعالم الاسلامي كله، وللدنيا بأجمعها، على ان أطلسية الحكم لا تنسحب عليه ولا تلزمه بأي حال. لقد قامت التظاهرات الشعبية التركية ضد الاستجابة العسكرية الحكومية لمعاقبة سورية، باعتبار ذلك تصرفا مرفوضا من الشعب التركي. أوضحت التظاهرات الشعبية التركية ضد حكومة الطيب اردوغان، الاطلسية الانتماء والسياسة، ان الشعب التركي أكثر وعيا من حكومته ومن حكومات الحلف الغربي الضخم، بل أكثر وعيا من معظم البلدان المحيطة به وبسوريا، بحقيقة الأحداث الدامية التي تريد تدمير سورية على أيدي القوى القتالية، التي تدربت على القتل والتدمير لأهداف اخرى، لا علاقة لها بسورية أو بأي بلد عربي آخر. أوضحت التظاهرات الشعبية التي ردت عليها حكومة اردوغان بكل ما لديها من ميل للعنف، ان الشعب التركي يعرف أن هذه ليست معركته، بل معركة حلف الاطلسي ضد العرب والمسلمين وضد تركيا نفسها. ستبرهن الايام المقبلة على إمكان نجاح محاولة الزج بتركيا في المعركة الدموية الدائرة في سورية والى جانب المقاتلين المجمّعين من الشيشان وأفغانستان واليمن والصومال ومصر وليبيا وغيرها. ستبرهن على ما اذا كانت تركيا يمكن ان تستيقظ من غفوتها الاطلسية لتعرف أن علاقاتها مع سورية والمنطقة العربية كلها والعالم الاسلامي، أهم من كل أهداف حلف الاطلسي التدميرية، أو ان تركيا ستبقى مستسلمة لهذا الانتماء الاطلسي الذي يقربها ـ لا أكثر ـ من أوروبا والولايات المتحدة ولو في دور الخادم الامين. فإما حرب تركية على سورية في أحلك ظروف يمكن ان تكون فيها سورية، وإما وعي تركي يصل الى مشارف الحكومة ولا يظل حبيس أحاسيس الشعب التركي وتظاهراته الدامية في الشمال والجنوب. لقد تواكبت تظاهرات الاتراك المؤيدة لسورية الشعب، ضد تصرفات حكومتهم التي أعطت الاولوية لحلف الاطلسي وخططه وأهدافه، مع تظاهرات قام بها فريق من المصريين ضد هذه الحكومة السورية نفسها، في نسيان يبدو تاما للعلاقات الخاصة التاريخية والقومية التي ربطت بين مصر وسوريا على مدى التاريخ منذ أزمنة الفراعنة. وتكشف المقارنة بين التظاهرات الشعبية التركية وتظاهرات المصريين عن اختلاف في مستوى الوعي في الفترة الراهنة لدى الاتراك من ناحية، ولدى هذا الفريق من المصريين الذي تدعم سلوكه حكومة «الاخوان المسلمين». ففي مصر حكم «اخواني» يتمنى ان يرى سورية تسقط بدورها تحت حكم «الاخوان المسلمين»، أو إخوانهم الآخرين الآتين من أفغانستان وباكستان والعراق، من ذيول حروب فجرتها الولايات المتحدة، والآن تريد ان تستخدم جندهم، مقاتلين من أجل سيطرة الاهداف الاميركية في بلدان «الربيع العربي». وليس من المستبعد ان تؤدي التظاهرات الشعبية دورها في كبح جماح حكومة اردوغان ومنعها من الانقضاض العسكري على سورية التي تنزف دما منذ أكثر من ثمانية عشر شهرا. لقد نظمت أحزاب سياسية معارضة ومنظمات مدنية ومهنية وحرفية ـ أي عمالية ـ تظاهرات شارك فيها الآلاف ليلة الرابع من تشرين الاول / اكتوبر الحالي في اسطنبول وفي وسط انقرة إعلانا لرفض هذه الجماهير الشعبية التركية للحرب على سورية، واحتجاجا على منح البرلمان التركي لحكومة أردوغان صلاحية ارسال قوات تركية الى سورية. وأفادت وكالات الانباء، بما فيها الوكالات الغربية، ان المتظاهرين الاتراك هاجموا سياسة حكومة حزب اردوغان ـ العدالة والتنمية ـ مرددين شعارات كان من بينها «أميركا المجرمة وشريكتها حكومة أردوغان»، «أميركا ارفعي يديك عن أراضي المسلمين»، «الموت لحلف الاطلسي، يعيش التضامن ضد الامبريالية»، «حزب العدالة يختار الحرب والشعوب تختار السلام».   في الوقت نفسه أبدت أوروبا قدرا كبيرا من الحذر إزاء الموقف المعقد الذي تجد تركيا نفسها فيه. وعلى سبيل المثال رفض المتحدث باسم وزارة الخارجية النمساوية التكهن «بمدى قدرة أوروبا على مواصلة تقديم الدعم لتركيا في تعاملها مع الازمة السورية، خاصة بعد تصاعد التوتر على الحدود على خلفية تبادل القصف بين جيشي البلدين». وأضاف «اننا عندما نتحدث عن دعم انقرة نصر على ربط ذلك بعدم التصعيد والتزام ضبط النفس». ولا يعني مثل هذا التصريح إلا شيئا واحدا هو انه اذا أرادت تركيا ان تشن حربا على سورية يكون ذلك على مسؤولية تركيا وحدها (…) اذا كان من الممكن الخروج بشيء إيجابي من هذه الازمة داخل الازمة فهو ان احتمالات الحرب التي يمكن ان تشنها الحكومة التركية على سورية في هذه الظروف، فهو انها بدأت في إفاقة الشعوب العربية ـ وحتى داخل بلدان «الربيع العربي» ـ على حقيقة ما يجري في سورية منذ نحو ثمانية عشر شهرا. ولقد بدأت في الظهور في الصحف ووسائل الاعلام العربية كتابات تدل على فهم جديد وواضح لأحداث سورية باعتبارها من صنع اميركا وحلف الاطلسي، بالاضافة الى الادوار المركزية التي تلعبها السعودية وقطر والامارات والبحرين، بصورة أقرب الى العلنية منها الى الخفاء. ومن بين هذه النماذج الجديدة قول صحيفة «الوطن» المصرية الجديدة بلهجة بالغة السخرية «ان المعارضتين الداخلية والخارجية تلطمان الخدود وتشقان الجيوب على حال الشعب السوري المنكوب، والجماعات الجهادية المسلحة جاءت من افغانستان والعراق وكوسوفو وبعض الدول الاوروبية والعربية، لتدعم جهاد الاخوة وأجهزة الاستخبارات وعناصر القوات الخاصة من دول غربية بعينها، تعمل من أجل نصرة الشعب السوري المغلوب على أمره». هذا نموذج واحد هو كل ما تتسع له هذه المساحة للكتابات الجديدة التي كانت غائبة تماما بصورة مريبة طوال الشهور منذ بداية المحنة السورية. الآن بدأ الكتاب الذين يتوخون ذكر الحقيقة بصرف النظر عما يرضي «الاخوان المسلمين» أو يثير غضبهم في مصر أو سورية أو الاردن أو في أي مكان ينتشر فيه فكر «الاخوان» وممارساتهم السلطوية أو المسلحة. والمسألة ان معارضة ـ مثل معارضة الشعب المصري لممارسات «الاخوان المسلمين» وقد أصبحوا يمسكون بالسلطة ـ خلقت الدافع الكافي لدى الملايين والمعبرين عن أفكارهم من الكتاب والصحافيين لكي يقولوا الحقيقة، ليس فقط عما يجري تحت سلطة «الاخوان» في مصر انما ايضا تحت نيران «الاخوان المسلمين» وحلفائهم في سوريا. ان ممارسات التنظيمات الدينية المتطرفة ـ سواء كانت في الحكم او في المعارضة ـ تخلق رد الفعل الجدير بها هنا وهناك. فما بالنا وهذه التنظيمات تتحول من أعداء وخصوم للامبريالية الاميركية الى حلفاء لها، سواء كانت هذه التنظيمات في الحكم أو في المعارضة. ان النتيجة المؤكدة لهذا التحالف الشرير الذي كشف الوجه الحقيقي للتنظيمات المتطرفة بقبولها التمويل والتسليح من الولايات المتحدة ومن حلفائها في النظم العربية لن تختلف كثيرا عن النتائج الملموسة التي أسفرت عنها تدخلات الاميركيين في العراق وأفغانستان، بل حتى في ليبيا مؤخرا، حيث الثورة تتصدع وتنهار، لان الشعب الليبي يرفض التسليم بهيمنة الاميركيين على شؤونه ومصائره. ولن تكون النتيجة في سورية إلا انعكاسا لما نراه الآن من صعود وعي الجماهير بما تقصده أميركا، وما يقصده حلفاؤها الجدد الذين كانوا يعدون أكثر المتطرفين عداء لأميركا والسياسات الاميركية، وهم الآن يعملون لحساب أميركا والسياسات الاميركية. ولن تكون الحالة التركية في المواجهة مع سورية حالة خاصة إلا بقدر ما ستكون اختبارا لقدرة حكومة تتمسك بأهداب الاصول الدينية، مثل حكومة حزب العدالة والتنمية التركي معتبرة ذلك سلاحا لا يقهر في مواجهة الجماهير الشعبية، على مواجهة المعارضة الجماهيرية التي خرجت بالآلاف الى الشارع. ان العوامل التي تجبر الولايات المتحدة على الإحجام عن التدخل العسكري المباشر في سورية تبقى هي ذاتها العوامل التي ينبغي ان تجبر حكومة تركيا على الإحجام عن التدخل العسكري في سورية. وليست تركيا أقدر من ناحية القوة العسكرية من الولايات المتحدة خاصة في مواجهة حالة بالغة الوعورة مثل سورية. كل ما في الامر ان تركيا متاخمة لسورية. وتريد أميركا استغلال الاطلسية التركية في ما تعتقد انه مواصلة القتال في سورية بينما تقف اميركا في موقع المراقب ولا تستطيع أوروبا ان تفعل أكثر من اميركا.

المصدر : الماسة السورية/ سمير كرم


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة