ليس بين لبنان وسوريا "حدود" بالمعنى المتعارف عليه بين "الدول": لم يكن في أيام "السلام" في البلدين الجارين خط فاصل، وليس بينهما مثل هذا الخط الآن وفي ظل الأوضاع المتفجرة في سوريا، والتي تتواصل تداعياتها على لبنان في السياسة والأمن كما في الاقتصاد والاجتماع.وليس بين اللبنانيين من تنطبق عليه صفات "المحايد" في ما يتصل بالتطورات الدموية المفجعة في سوريا، وذلك لأسباب عدة أخطرها ـ قبل السياسة وبعدها ـ صلات القربى والنسب، ثم المصالح والمنافع المادية، ذلك أن "الحدود" بين القطرين الشقيقين لم ترسَّم على قواعد من الانفصال الجغرافي المطلق أو في غيبة التواصل العائلي، قبل الحديث عن الموقف السياسي من هذه "الحدود" التي كثيراً ما أسقطها اللبنانيون ـ سياسياً ـ بالتناوب: مرة دعاة "الانفصال" ولو بالحرب، حين اكتشفوا أو نصحهم "الأصدقاء الدوليون" أن تحالفهم مع سوريا يضمن لهم التفوق ومن ثم الغلبة على خصومهم في الداخل، ومرة دعاة التكامل السياسي والأمني والاقتصادي والاجتماعي الذين افترضوا أن تقربهم من الحاكم في دمشق يؤدي ـ حكماً ـ إلى تعزيز موقعهم في السلطة في بيروت.

ثم أن اللبنانيين قد أدركوا وبالتجربة الحسية أن هذه "الحدود" التي تتبدى في بعض الحالات وكأنها "وهمية" هي أصلب بما لا يقاس من الحدود بين المعسكر الغربي والمعسكر الشرقي ـ السوفياتي سابقاً أيام الحرب الباردة، في زمن مضى.

حتى جمال عبد الناصر في ذروة صعود التيار القومي الوحدوي، وبعدما حملته الحماسة الشعبية والعواطف المتأججة إلى رئاسة دولة الوحدة، الجمهورية العربية المتحدة، وإدراكاً منه لخطورة هذه الحدود الهشة بين سوريا ولبنان، فإنه قد ارتضى أن يتم لقاؤه مع الرئيس اللبناني فؤاد شهاب عند التخم تماماً، وبحيث يستحيل "اتهامه" بأنه قد خرق هذه "الحدود" التي تحرسها معاهدات واتفاقات دولية، أقلها معلن ومعظمها مضمر، والتي تؤكد على أن لبنان بلد عربي، واقعاً، لكنه مدوَّل بنظامه الذي يحتوي مصالح دول كثيرة، كبرى وعظمى ومتوسطة وصغرى لكنها تشكل مركزاً دولياً للتواصل بأنواعه كافة.. كيف الحال، إذن، وقد تم تفجير سوريا التي كانت تبدو حصينة وعصية على التغيير، وتمزقت وحدة أرضها وتهددت وحدة شعبها بالانفراط وانتشر جيشها بأسلحته كافة يحاول حفظ وحدة الدولة، وحماية النظام الذي يجهر برفضه الإصلاح تحت الضغط، ويتهم دولاً عدة، عربية ـ غنية أساساً، فضلاً عن تركيا وبعض دول الغرب بالعمل لإسقاطه تحقيقاً لمشروع دولي يهدف لخدمة إسرائيل؟

إن اللبنانيين جميعاً، وعلى اختلاف نزعاتهم وتوجهاتهم، متورطون في الصراع الدموي المفتوح بين السلطة التي ترفض الاعتراف بخطورة الأزمة التي تكاد تذهب بسوريا دولة موحدة لشعب واحد، وبين معارضاتها متعددة الشعارات والتوجيه ومصادر التسليح، وهو صراع يكاد يذهب بسوريا التي هي ـ بمعنى ما ـ "داخل" وليست خارج لبنان.. هلا نسينا أنها وعلى امتداد دهر من الحروب الأهلية، كانت صاحبة الدور الأخطر، ونتيجة تفويض دولي وعربي، في الشأن اللبناني، سياسة وحرباً وتسوية ما زالت معتمدة بأساسياتها حتى اليوم؟ ولأن سوريا "داخل" في لبنان وليست "خارجاً" فإن انعكاسات تفجرها الدموي تمس اللبنانيين جميعاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، فضلاً عن ارتجاج التسوية الطوائفية التي أنجبت نظام الحكم

الراهن، بعجره وبجره، بالتجاوزات الفضائحية العديدة والإنجازات القليلة والتي فقدت بريقها عبر الممارسات الفاحشة والتي أعادت الانقسام أعمق مما كان في زمن مضى، لا سيما بعد محطتين فاصلتين: اغتيال الرئيس رفيق الحريري ثم الحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز 2006 والإنجاز الباهر مجاهدي المقاومة في صدها وإفشال أهدافها الاستراتيجية المعلنة، برغم التأييد الأميركي العلني لها.

ثم إن تفجر الأزمة السورية دموياً، وتمدد تداعياتها الخطيرة على المجتمع السوري، قد خلخل بعض أسس التسوية السياسية في لبنان، خصوصاً مع اندفاع أطراف سياسية لبنانية معروفة إلى استثمار الأزمة طوائفياً بما يهز بل ويخلخل ركائز التسوية في لبنان: يزيد من حدة الانقسام السني ـ الشيعي الذي له من يرعاه وينفق على تمدده وتعميقه، في المحيط العربي وفي الخارج الأجنبي، ويبعث "مخاوف المسيحيين"، بالصح أو بالغلط، فاتحاً المجال أمام من يرغب في استثمارها لأغراض تتجاوز لبنان وسوريا، وما أكثر المستثمرين! ... فإذا أضفنا الثمار المرة للمأساة العراقية التي ما تزال مفتوحة على تداعيات مقلقة، والتي من شأنها أن تزيد من تعقيدات الصراع الداخلي في لبنان، مع الأخذ بالاعتبار الدور الإيراني الكاشف

لعلاقة ملتبسة مع الدور الأميركي، والتطورات المفجعة للمأساة السورية.... وإذا ما أضفنا التغييب المنهجي لفلسطين كقضية جامعة وكعنصر استقطاب للجهد العربي المشترك في مواجهة العدو الإسرائيلي الذي نجح في إحداث اختراقات أساسية لوحدة الموقف العربي.

... وإذا ما انتبهنا أن إسرائيل طرف محرض على التصادم الطائفي والمذهبي باعتبار المسألة الطائفية في الشرق هي أحد أهم الاستثمارات الإسرائيلية ـ الأميركية ـ الغربية... إذا انتبهنا إلى ذلك كله لتأكد لنا كم هو داهم خطر التداعيات السورية على استقرار لبنان بل وعلى وحدته.لقد لعبت "الدول" طويلاً على موضوع الصراع السياسي في لبنان لتحويله إلى فتنة طائفية ومذهبية، بما يوسع مدى تدخلها إما بمساندة بعض الأطراف أو بادّعاء حماية أطراف أخرى... وهي لعبة قديمة جداً لا يمكن أن ينسى اللبنانيون نتائجها التي ما تزال قائمة في حاضره ومؤثرة في تصورهم لمستقبلهم.وها هي "الدول" تسعى لتطويع الانتفاضات الشعبية العظيمة التي باشرت عملية تغيير مرتجاة منذ أمد طويل وفي العديد من الأقطار العربية، مزكية التنظيمات الإسلامية وإنما بشروط أولها العلاقة مع إسرائيل وآخرها تبني قضية مطالب الأقليات الطائفية، لاستثمارها في عملية إعادة صياغة المستقبل.إن لبنان مرصد لقراءة التحولات والتطورات في المنطقة العربية جميعاً، بدءاً بسوريا بطبيعة الحال ومعها الأردن وصولاً إلى مصر وتونس وليبيا جنوباً، وإلى العراق فالجزيرة والخليج شرقاً... والقراءة لا تكتمل ولا تغدو مفهومة بتغييب المشروع الإسرائيلي للمنطقة.. والدول الغربية بالقيادة الأميركية، وكذلك روسيا، وقبلها إيران وتركيا، تقرأ المنطقة مستفيدة من لبنان، وتتحرك فيها بعد أن تتخذ من بيروت ـ العاصمة متعددة الوجوه واللغات ـ مرصداً ممتازاً لكشف القدرات وإمكانات التحول وأكلاف المواجهة. وليس مهماً أن تكون بيروت عاصمة لدولة مزدهرة ومطمئنة إلى غدها.. فهي لا تريد منها إلا "الموقع" و"التسهيلات" والقدرة على ترجمة مختلف اللغات الحية، قبل اتخاذ القرارات المؤلمة لأهل هذه الأرض جميعاً.

 

  • فريق ماسة
  • 2012-09-23
  • 9914
  • من الأرشيف

سورية "داخل" وليست "خارجاً" في لبنان

ليس بين لبنان وسوريا "حدود" بالمعنى المتعارف عليه بين "الدول": لم يكن في أيام "السلام" في البلدين الجارين خط فاصل، وليس بينهما مثل هذا الخط الآن وفي ظل الأوضاع المتفجرة في سوريا، والتي تتواصل تداعياتها على لبنان في السياسة والأمن كما في الاقتصاد والاجتماع.وليس بين اللبنانيين من تنطبق عليه صفات "المحايد" في ما يتصل بالتطورات الدموية المفجعة في سوريا، وذلك لأسباب عدة أخطرها ـ قبل السياسة وبعدها ـ صلات القربى والنسب، ثم المصالح والمنافع المادية، ذلك أن "الحدود" بين القطرين الشقيقين لم ترسَّم على قواعد من الانفصال الجغرافي المطلق أو في غيبة التواصل العائلي، قبل الحديث عن الموقف السياسي من هذه "الحدود" التي كثيراً ما أسقطها اللبنانيون ـ سياسياً ـ بالتناوب: مرة دعاة "الانفصال" ولو بالحرب، حين اكتشفوا أو نصحهم "الأصدقاء الدوليون" أن تحالفهم مع سوريا يضمن لهم التفوق ومن ثم الغلبة على خصومهم في الداخل، ومرة دعاة التكامل السياسي والأمني والاقتصادي والاجتماعي الذين افترضوا أن تقربهم من الحاكم في دمشق يؤدي ـ حكماً ـ إلى تعزيز موقعهم في السلطة في بيروت. ثم أن اللبنانيين قد أدركوا وبالتجربة الحسية أن هذه "الحدود" التي تتبدى في بعض الحالات وكأنها "وهمية" هي أصلب بما لا يقاس من الحدود بين المعسكر الغربي والمعسكر الشرقي ـ السوفياتي سابقاً أيام الحرب الباردة، في زمن مضى. حتى جمال عبد الناصر في ذروة صعود التيار القومي الوحدوي، وبعدما حملته الحماسة الشعبية والعواطف المتأججة إلى رئاسة دولة الوحدة، الجمهورية العربية المتحدة، وإدراكاً منه لخطورة هذه الحدود الهشة بين سوريا ولبنان، فإنه قد ارتضى أن يتم لقاؤه مع الرئيس اللبناني فؤاد شهاب عند التخم تماماً، وبحيث يستحيل "اتهامه" بأنه قد خرق هذه "الحدود" التي تحرسها معاهدات واتفاقات دولية، أقلها معلن ومعظمها مضمر، والتي تؤكد على أن لبنان بلد عربي، واقعاً، لكنه مدوَّل بنظامه الذي يحتوي مصالح دول كثيرة، كبرى وعظمى ومتوسطة وصغرى لكنها تشكل مركزاً دولياً للتواصل بأنواعه كافة.. كيف الحال، إذن، وقد تم تفجير سوريا التي كانت تبدو حصينة وعصية على التغيير، وتمزقت وحدة أرضها وتهددت وحدة شعبها بالانفراط وانتشر جيشها بأسلحته كافة يحاول حفظ وحدة الدولة، وحماية النظام الذي يجهر برفضه الإصلاح تحت الضغط، ويتهم دولاً عدة، عربية ـ غنية أساساً، فضلاً عن تركيا وبعض دول الغرب بالعمل لإسقاطه تحقيقاً لمشروع دولي يهدف لخدمة إسرائيل؟ إن اللبنانيين جميعاً، وعلى اختلاف نزعاتهم وتوجهاتهم، متورطون في الصراع الدموي المفتوح بين السلطة التي ترفض الاعتراف بخطورة الأزمة التي تكاد تذهب بسوريا دولة موحدة لشعب واحد، وبين معارضاتها متعددة الشعارات والتوجيه ومصادر التسليح، وهو صراع يكاد يذهب بسوريا التي هي ـ بمعنى ما ـ "داخل" وليست خارج لبنان.. هلا نسينا أنها وعلى امتداد دهر من الحروب الأهلية، كانت صاحبة الدور الأخطر، ونتيجة تفويض دولي وعربي، في الشأن اللبناني، سياسة وحرباً وتسوية ما زالت معتمدة بأساسياتها حتى اليوم؟ ولأن سوريا "داخل" في لبنان وليست "خارجاً" فإن انعكاسات تفجرها الدموي تمس اللبنانيين جميعاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، فضلاً عن ارتجاج التسوية الطوائفية التي أنجبت نظام الحكم الراهن، بعجره وبجره، بالتجاوزات الفضائحية العديدة والإنجازات القليلة والتي فقدت بريقها عبر الممارسات الفاحشة والتي أعادت الانقسام أعمق مما كان في زمن مضى، لا سيما بعد محطتين فاصلتين: اغتيال الرئيس رفيق الحريري ثم الحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز 2006 والإنجاز الباهر مجاهدي المقاومة في صدها وإفشال أهدافها الاستراتيجية المعلنة، برغم التأييد الأميركي العلني لها. ثم إن تفجر الأزمة السورية دموياً، وتمدد تداعياتها الخطيرة على المجتمع السوري، قد خلخل بعض أسس التسوية السياسية في لبنان، خصوصاً مع اندفاع أطراف سياسية لبنانية معروفة إلى استثمار الأزمة طوائفياً بما يهز بل ويخلخل ركائز التسوية في لبنان: يزيد من حدة الانقسام السني ـ الشيعي الذي له من يرعاه وينفق على تمدده وتعميقه، في المحيط العربي وفي الخارج الأجنبي، ويبعث "مخاوف المسيحيين"، بالصح أو بالغلط، فاتحاً المجال أمام من يرغب في استثمارها لأغراض تتجاوز لبنان وسوريا، وما أكثر المستثمرين! ... فإذا أضفنا الثمار المرة للمأساة العراقية التي ما تزال مفتوحة على تداعيات مقلقة، والتي من شأنها أن تزيد من تعقيدات الصراع الداخلي في لبنان، مع الأخذ بالاعتبار الدور الإيراني الكاشف لعلاقة ملتبسة مع الدور الأميركي، والتطورات المفجعة للمأساة السورية.... وإذا ما أضفنا التغييب المنهجي لفلسطين كقضية جامعة وكعنصر استقطاب للجهد العربي المشترك في مواجهة العدو الإسرائيلي الذي نجح في إحداث اختراقات أساسية لوحدة الموقف العربي. ... وإذا ما انتبهنا أن إسرائيل طرف محرض على التصادم الطائفي والمذهبي باعتبار المسألة الطائفية في الشرق هي أحد أهم الاستثمارات الإسرائيلية ـ الأميركية ـ الغربية... إذا انتبهنا إلى ذلك كله لتأكد لنا كم هو داهم خطر التداعيات السورية على استقرار لبنان بل وعلى وحدته.لقد لعبت "الدول" طويلاً على موضوع الصراع السياسي في لبنان لتحويله إلى فتنة طائفية ومذهبية، بما يوسع مدى تدخلها إما بمساندة بعض الأطراف أو بادّعاء حماية أطراف أخرى... وهي لعبة قديمة جداً لا يمكن أن ينسى اللبنانيون نتائجها التي ما تزال قائمة في حاضره ومؤثرة في تصورهم لمستقبلهم.وها هي "الدول" تسعى لتطويع الانتفاضات الشعبية العظيمة التي باشرت عملية تغيير مرتجاة منذ أمد طويل وفي العديد من الأقطار العربية، مزكية التنظيمات الإسلامية وإنما بشروط أولها العلاقة مع إسرائيل وآخرها تبني قضية مطالب الأقليات الطائفية، لاستثمارها في عملية إعادة صياغة المستقبل.إن لبنان مرصد لقراءة التحولات والتطورات في المنطقة العربية جميعاً، بدءاً بسوريا بطبيعة الحال ومعها الأردن وصولاً إلى مصر وتونس وليبيا جنوباً، وإلى العراق فالجزيرة والخليج شرقاً... والقراءة لا تكتمل ولا تغدو مفهومة بتغييب المشروع الإسرائيلي للمنطقة.. والدول الغربية بالقيادة الأميركية، وكذلك روسيا، وقبلها إيران وتركيا، تقرأ المنطقة مستفيدة من لبنان، وتتحرك فيها بعد أن تتخذ من بيروت ـ العاصمة متعددة الوجوه واللغات ـ مرصداً ممتازاً لكشف القدرات وإمكانات التحول وأكلاف المواجهة. وليس مهماً أن تكون بيروت عاصمة لدولة مزدهرة ومطمئنة إلى غدها.. فهي لا تريد منها إلا "الموقع" و"التسهيلات" والقدرة على ترجمة مختلف اللغات الحية، قبل اتخاذ القرارات المؤلمة لأهل هذه الأرض جميعاً.  

المصدر : طلال سلمان\ السفير


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة