كان الاخ الرائع نقولا يواكيم الذي خلع، في وقت لاحق، ثوب الكهنوت، يقول لنا في الكلية الشرقية في زحلة، انه يكفي ان تكون العتابا لدى اللبنانيين ليكونوا شعبا واحدا، لا شعوبا ولا طوائف ولا مذاهب. واذ كان يستعرض كلمات "هيهات يابو الزلف"، كانت هذه الكلمات تأخذه الى ما كان يدعوه" دستور الروح".

في نظره، وهو الآتي من سورية، ان على اللبنانيين ان يمارسوا لعبة الروح لانها لعبة الازل مثلما هي لعبة الانسان، لان التاريخ مرهق ومعقد وبربري في كثير من الاحيان، ولان الجغرافيا شديدة الالتباس لانها مثلما تلد زهرة النرجس تلد رجالا مثل معظم الذين يحكموننا والذين بعضهم اختزال مجهري لهولاكو وبعضهم الاخر اختزال مجهري لينرون. اما الذين هم اختزال مجهري لافلاطون او لزينون( الرواقي) فهؤلاء يُدفعون بفظاظة الى خارج ملكوت الجمهورية..

على مر العقود لم يتبدل شيء من هذا. ربما التاريخ ازداد جنونا، الجغرافيا ازدادت جنونا، فيما كان ديزموند ستيوارت يوافق اندريه مالرو في ان القرن العشرين سيكون دينيا، ولكن ليتحدث، بوجه خاص، عن الشرق الاوسط الذي اذ ضاع فيه التاريخ، وضاعت فيه الجغرافيا،فإن الايديولوجيا التي يفترض ان تنبعث من اعماق الروح، لا من اعماق الاقبية، سرعان ما تتحول الى وحش هائج تلتهم حتى …الدين!

هذا الكلام من سبعينات او ستينات القرن الماضي. ولا ندري ما اذا كان هذا العرض ضروريا لنخلص الى القول ان هناك تواصلا بين جهات لبنانية وجهات فرنسية من اجل البحث في امكانية اقناع الولايات المتحدة بالاتجاه الى اعلان لبنان دولة محايدة، وعلى غرار النموذج السويسري ما دام اللبنانيون الذين تجمعهم " هيهات يابو الزلف" بكل ابعادها الثقافية والتاريخية والسوسيولوجية قد اثبتوا انهم شعوب متفرقة وتمتهن التبعية على انها الاساس في فلسفة البقاء

ديزموند ستيوارت قال انه دعي ذات يوم الى العشاء لدى احد القادة العرب الذي كان يتحدث على المائدة بلغة اريسطو ويأكل بلغة هولاكو، ليضيف انه كان ينظر الى اسنانه اكثر مما كان يصغي الى كلماته. الآن، في لبنان كما في القارة العربية، ننظر الى اسنان بعضنا البعض اكثر مما نصغي الى كلمات بعضنا البعض، وان كان محمد الماغوط قد لاحظ ان كلماتنا اخذت شكل وحيد القرن

اعلان حياد لبنان في هذه الحقبة البربرية، فلا يعود الوصف الاميركي له بالفائض الجغرافي ولا يعود الوصف الاسرائيلي له بالخطأ التاريخي، وكاد رافاييل ايتان يصفه بالخطأ الالهي، وعلى طريقة الحاخام مئير كاهان الذي كان يعدد حتى داخل الكنيس "اخطاء الله" في الشرق الاوسط ومنها انه خلق الفلسطينيين او بعث بهم الى ارض الميعاد

الفرنسيون يعترفون بصعوبة الطرح او باستحالته في الظروف الراهنة، فالمنطقة تمر، وعلى كل المستويات، في حالة هيستيرية قل نظيرها، والازمة في سوريا لم تعد قطعا بالازمة الداخلية، بل تقاطع فيها العربي مع التركي مع الايراني مع الروسي مع الاميركي، ما يعني ان سوريا إما انها تتجه الى حل دولي، او الى صفقة دولية قد تشارك فيها اطراف اقليمية باعتبار لا مكان للعرب في اللعبة الدولية (إلا حيثما يكون الضحايا او صناديق المال)، او انها تتجه الى فوضى ميتولوجية وبما تعنيه الكلمة، ودون ان تبقى الحرائق او الشظايا داخل الاراضي السورية في حال من الاحوال..

ومع ذلك، فالاتصالات لا تزال ناشطة، وثمة كلام يتردد وراء الضوء بأن شخصيات مسؤولة في الفاتيكان طرحت فكرة تحييد لبنان، بقرار اممي وبأحكام اممية، على البابا بنديكتوس السادس عشر على ان تكون الزيارة التي قام بها اخيرا الى لبنان بمثابة مدخل الى تكريس هذا البلد واحة للشراكة وللسلام باعتبار انه عاش كل عذابات المنطقة وازماتها، دون ان تظهر في الافق اي بارقة لحلول او لتسويات ممكنة لهذه الازمات

وحين اطلق الحبر الاعظم ارشاده الرسولي للشرق الاوسط، وبدا واضحا انها صرخة في واد(سحيق)، كان كمن يطلق " دستور الروح" إياه وبمنأى عن المصطلحات، والادبيات، الهيستيرية التي يطلقها دعاة او رجال دين غفلوا عن ان عظمة الاسلام هي في التسامح لا في التذابح

النموذج السويسري؟ من يقرأ النشيد السويسري الذي هو اقدم نشيد وطني في العالم اطلق في عام 1603، يحسب انه امام ترانيم كنسية حيث نرى الله، والقلب، والروح، والسماء، والحياة التي هي كنز ثمين وليست رهينة في يد اصحاب السواطير. ولكن الم تقل ناتالي ساروت ان الالمان ابدلوا بيسمارك بالاسبيرين، وان الايطاليين ابدلوا موسوليني بجينا لولوبريجيدا وان الفرنسيين ابدلوا بونابرت بأحمر الشفاه؟

الآن، لا شيء من هذا في الشرق الاوسط: قبائل ترث قبائل، وسواطير ترث سواطير. دخلنا في الظلام

  • فريق ماسة
  • 2012-09-22
  • 11405
  • من الأرشيف

كلمات اريسطو واسنان هولاكو

 كان الاخ الرائع نقولا يواكيم الذي خلع، في وقت لاحق، ثوب الكهنوت، يقول لنا في الكلية الشرقية في زحلة، انه يكفي ان تكون العتابا لدى اللبنانيين ليكونوا شعبا واحدا، لا شعوبا ولا طوائف ولا مذاهب. واذ كان يستعرض كلمات "هيهات يابو الزلف"، كانت هذه الكلمات تأخذه الى ما كان يدعوه" دستور الروح". في نظره، وهو الآتي من سورية، ان على اللبنانيين ان يمارسوا لعبة الروح لانها لعبة الازل مثلما هي لعبة الانسان، لان التاريخ مرهق ومعقد وبربري في كثير من الاحيان، ولان الجغرافيا شديدة الالتباس لانها مثلما تلد زهرة النرجس تلد رجالا مثل معظم الذين يحكموننا والذين بعضهم اختزال مجهري لهولاكو وبعضهم الاخر اختزال مجهري لينرون. اما الذين هم اختزال مجهري لافلاطون او لزينون( الرواقي) فهؤلاء يُدفعون بفظاظة الى خارج ملكوت الجمهورية.. على مر العقود لم يتبدل شيء من هذا. ربما التاريخ ازداد جنونا، الجغرافيا ازدادت جنونا، فيما كان ديزموند ستيوارت يوافق اندريه مالرو في ان القرن العشرين سيكون دينيا، ولكن ليتحدث، بوجه خاص، عن الشرق الاوسط الذي اذ ضاع فيه التاريخ، وضاعت فيه الجغرافيا،فإن الايديولوجيا التي يفترض ان تنبعث من اعماق الروح، لا من اعماق الاقبية، سرعان ما تتحول الى وحش هائج تلتهم حتى …الدين! هذا الكلام من سبعينات او ستينات القرن الماضي. ولا ندري ما اذا كان هذا العرض ضروريا لنخلص الى القول ان هناك تواصلا بين جهات لبنانية وجهات فرنسية من اجل البحث في امكانية اقناع الولايات المتحدة بالاتجاه الى اعلان لبنان دولة محايدة، وعلى غرار النموذج السويسري ما دام اللبنانيون الذين تجمعهم " هيهات يابو الزلف" بكل ابعادها الثقافية والتاريخية والسوسيولوجية قد اثبتوا انهم شعوب متفرقة وتمتهن التبعية على انها الاساس في فلسفة البقاء… ديزموند ستيوارت قال انه دعي ذات يوم الى العشاء لدى احد القادة العرب الذي كان يتحدث على المائدة بلغة اريسطو ويأكل بلغة هولاكو، ليضيف انه كان ينظر الى اسنانه اكثر مما كان يصغي الى كلماته. الآن، في لبنان كما في القارة العربية، ننظر الى اسنان بعضنا البعض اكثر مما نصغي الى كلمات بعضنا البعض، وان كان محمد الماغوط قد لاحظ ان كلماتنا اخذت شكل وحيد القرن… اعلان حياد لبنان في هذه الحقبة البربرية، فلا يعود الوصف الاميركي له بالفائض الجغرافي ولا يعود الوصف الاسرائيلي له بالخطأ التاريخي، وكاد رافاييل ايتان يصفه بالخطأ الالهي، وعلى طريقة الحاخام مئير كاهان الذي كان يعدد حتى داخل الكنيس "اخطاء الله" في الشرق الاوسط ومنها انه خلق الفلسطينيين او بعث بهم الى ارض الميعاد… الفرنسيون يعترفون بصعوبة الطرح او باستحالته في الظروف الراهنة، فالمنطقة تمر، وعلى كل المستويات، في حالة هيستيرية قل نظيرها، والازمة في سوريا لم تعد قطعا بالازمة الداخلية، بل تقاطع فيها العربي مع التركي مع الايراني مع الروسي مع الاميركي، ما يعني ان سوريا إما انها تتجه الى حل دولي، او الى صفقة دولية قد تشارك فيها اطراف اقليمية باعتبار لا مكان للعرب في اللعبة الدولية (إلا حيثما يكون الضحايا او صناديق المال)، او انها تتجه الى فوضى ميتولوجية وبما تعنيه الكلمة، ودون ان تبقى الحرائق او الشظايا داخل الاراضي السورية في حال من الاحوال.. ومع ذلك، فالاتصالات لا تزال ناشطة، وثمة كلام يتردد وراء الضوء بأن شخصيات مسؤولة في الفاتيكان طرحت فكرة تحييد لبنان، بقرار اممي وبأحكام اممية، على البابا بنديكتوس السادس عشر على ان تكون الزيارة التي قام بها اخيرا الى لبنان بمثابة مدخل الى تكريس هذا البلد واحة للشراكة وللسلام باعتبار انه عاش كل عذابات المنطقة وازماتها، دون ان تظهر في الافق اي بارقة لحلول او لتسويات ممكنة لهذه الازمات… وحين اطلق الحبر الاعظم ارشاده الرسولي للشرق الاوسط، وبدا واضحا انها صرخة في واد(سحيق)، كان كمن يطلق " دستور الروح" إياه وبمنأى عن المصطلحات، والادبيات، الهيستيرية التي يطلقها دعاة او رجال دين غفلوا عن ان عظمة الاسلام هي في التسامح لا في التذابح… النموذج السويسري؟ من يقرأ النشيد السويسري الذي هو اقدم نشيد وطني في العالم اطلق في عام 1603، يحسب انه امام ترانيم كنسية حيث نرى الله، والقلب، والروح، والسماء، والحياة التي هي كنز ثمين وليست رهينة في يد اصحاب السواطير. ولكن الم تقل ناتالي ساروت ان الالمان ابدلوا بيسمارك بالاسبيرين، وان الايطاليين ابدلوا موسوليني بجينا لولوبريجيدا وان الفرنسيين ابدلوا بونابرت بأحمر الشفاه؟ الآن، لا شيء من هذا في الشرق الاوسط: قبائل ترث قبائل، وسواطير ترث سواطير. دخلنا في الظلام…

المصدر : نبيه برجي\ الديار


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة