دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
تتصدّر واشنطن العالم بتوقّعها انهياراً قريباً للنظام السوري، وتعدّ له الساعات. تقول إن أيامه معدودة. في سرّها تروي سوى ذلك. الجيش يمنع تهاوي النظام، والمعارضة أضعف من تقويضه. لا تريد رؤية الأسد في السلطة، وتكتفي بتصعيد المواقف والتذمّر من معارضة مفككة
سواء انشقّ رئيس الحكومة السورية رياض حجاب قبل أن يُقال، أو أقيل قبل أن ينشقّ، فإن الحدث مهم بمقدار ما يمثل ضربة معنوية لنظام الرئيس بشّار الأسد، عندما يرتفع مستوى العصيان والإنشقاق والفرار من داخل النظام من مرتبة جنود وضبّاط وموظفين وديبلوماسيين إلى منزلة رئيس الحكومة الذي أصدر الرئيس مرسوم تعيينه وناط به، في الظاهر على الأقل، السلطة الإجرائية والإشراف على عمل الحكومة، رغم أن الدستور السوري الجديد يضع لدى الرئيس صلاحية تعيين رئيس الحكومة ونوابه، والوزراء ونوابهم، وإقالتهم. وهم يؤدون اليمين أمام رئيس الدولة الذي يرأس أيضاً، عملاً بالدستور، مجلس الوزراء.
منذ تعيينه رئيساً للحكومة في 23 حزيران، لم يطل بقاء حجاب في النظام بعدما كان وزيراً للزراعة في حكومة عادل سفر. بعض القريبين من النظام قال إن حجاب لم يكن مرة رجله، ونظر إليه الأسد على أنه مقبول لدى المعارضة عندما وزّره للمرة الأولى في 15 نيسان 2011، وعندما رأسه ثانية حكومات الأزمة السورية قبل أشهر.
لكن حدث انشقاق حجاب قد يكون أيضاً قليل الأهمية، ولا يتعدى تأثيره الضجيج الإعلامي الذي تسبّب به أمس ما دام لا يخلّ بموازين القوى، العسكرية خصوصاً، على الأرض. منذ أخفقت مهمة المراقبين الدوليين في حزيران، واستقالة الموفد الدولي ــــ العربي كوفي أنان الجمعة، ناهيك بعجز مجلس الأمن ثلاث مرات عن التصويت على قرار يطيح نظام الأسد، تتحكّم الأرض وحدها بمسار الأزمة السورية. يربح المعركة مَن يقتطع أكثر من الأرض ويقلّص سيطرة الآخر، كي يُرغمه على تفاوض خاسر. ولا يعدو التعثّر الدولي حيال أحداث سوريا سوى تسليم الأفرقاء المتنازعين على أرضها، ومن خلالهم الرئيس ومعارضيه المسلحين، بأن الخيار عسكري حتى إشعار آخر.
يبرّر ذلك تشبّث الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وتركيا والسعودية وقطر بإرادة إقصاء الأسد بأي ثمن وتقويض نظامه، وإصرار روسيا والصين وإيران على دعمه ومدّه بكل مقوّمات الصمود والإستمرار.
وإلى أن يُحرز الرئيس السوري أو المعارضة المسلحة، انتصاراً عسكرياً كبيراً يُترجَم للفور مكسباً سياسياً كبيراً يحمل أطراف الخارج على التفاوض، لا بديل من تواصل العمليات العسكرية وخيار الإقتتال. أصبحت المعارضة المسلحة ــــ بكل ما تنطوي عليه من مقاتلين سوريين وعرب وجنسيات أجنبية، سلفيين وعقائديين، وعتاد عسكري يتطوّر ويتضاعف يوماً بعد آخر ــــ أكثر تنظيماً وأهلية لحرب طويلة الأمد. كذلك أضحى النظام والجيش أكثر استعداداً لخوض معركة لا محرّمات فيها، يُبرّر لها استخدام كل ما يملك من دون أن ينظر إلى الأرض.
بات الطرفان متيقّنين من أن الإنتصار في معركة عسكرية كبيرة، كالسيطرة على حلب لا على الأرياف والقرى النائية، يتطلّب أقسى عنف متوقّع من أجل دفع الأزمة إلى طريق النهاية، وليس بالضرورة إلى التسوية القريبة.
حتى نهاية الأسبوع الماضي، كانت بضعة انطباعات أسرّ بها ديبلوماسيون رفيعون في الإدارة الأميركية إلى شخصيات لبنانية زارت واشنطن، تُنبىء بالأهمية التي توليها الإدارة لتطورات الأزمة السورية، ولا سيما منها العسكرية التي بلغت في الأسابيع الأخيرة ذروة غير مشهودة من العنف والدلالات السياسية التي استخلصها الديبلوماسيون الأميركيون لاستنتاج مسار الحرب في سوريا. باتت وقائع المواجهات العسكرية اليومية، بعد اغتيال الضبّاط الكبار أركان «خلية إدارة الأزمة» ومعركتي دمشق وحلب، هي المفسّر الحقيقي لما قد يحصل. برّر ذلك تقليل واشنطن تعويلها على الجهود الديبلوماسية، بما فيها مهمة أنان قبل تنحيه، مسكونة بهاجس عدم مقدرتها على تخطي الفيتو الروسي والصيني في مجلس الأمن.
هكذا أصبح الأميركيون، تبعاً للملاحظات التي عادت بها الشخصيات اللبنانية من واشنطن، أكثر تورّطاً في الأزمة السورية لإرغام الأسد على الإعتزال، شأن ما يُلحّ عليه الأتراك والسعوديون والقطريون.
وتتركز انطباعات الديبلوماسيين الرفيعين في الإدارة على الآتي:
1 ــ تعتقد واشنطن بأن لدى الرئيس السوري إمكانات عسكرية كبيرة تمنع سقوطه الوشيك، وقد تمنع هذا السقوط إلى وقت طويل. لكنها بالتأكيد تمنع المعارضة من تحقيق أي انتصار عسكري كبير عليه في ظل موازين القوى الحالية.
2 ــ صارت واشنطن على يقين مطلق بأن النظام الذي صنعه الرئيس حافظ الأسد منذ عام 1971، وأكمله وارثه ابنه منذ عام 2000 بعد وفاة الأب، وتعرفه تماماً، انتهى إلى الأبد. الجدل الواسع الدائر في الإدارة الأميركية اليوم بين مسؤولي وزارتي الخارجية والدفاع والإستخبارات هو: أي نظام متوقّع لسوريا مع الأسد أو من دونه، وإن يجهر هؤلاء بأن من الأفضل حتماً أن يكون من دونه.
3 ــ تميل الإدارة، ولا تتردّد في القول إنها باتت اليوم تصرّ أكثر من أي وقت آخر، على بناء نظام سياسي في سوريا لا مكان فيه للأسد أو معاونيه. تقول أيضاً إنها تفضّل انتقالاً للسلطة ينبذ الأسد، ولكنه يُحافظ على وحدة سوريا وينتقل بها تدريجاً إلى الديموقراطية، ومن دون أن تعقب ذلك إجراءات انتقامية في حقّ مَن أرغمهم النظام على طاعته والتزام أوامره. لم تعد الإدارة تصدّق كثيراً آمال انتقال سياسي للسلطة من الأسد إلى أي نظام أو رئيس آخر تقرّره المعارضة والسوريون، وتعتقد بأن خروجه سيكون مؤلماً له، وقد يمسي درامياً ما دام النزاع المسلح هو الذي يقود مسار الأزمة اليوم.
ومع أن المعطيات المتوافرة لدى الإدارة لا توحي بقرب انهيار الأسد في ظلّ قدرات غير كافية ــــ أو متكافئة ــــ تملكها المعارضة لإرغامه على التنحّي، فإن النزاع الدموي مستمر إلى وقت طويل، وربما إلى أكثر ممّا يتوقعه السوريون أنفسهم.
4 ــ لا تزال الإدارة الأميركية تفتقر إلى معلومات دقيقة ووافية، وأحياناً جازمة، عن الوضع الداخلي للمعارضة التي تدعمها، وهي المجلس الوطني الذي يتخبّط في خلافات ناجمة عن وفرة الاتجاهات السياسية والعقائدية التي يمثلها وتناقضاتها، وعن جموح إلى السلطة يتحكّم بردود الفعل، ناهيك بتعارض مواقف المجلس مع الجيش السوري الحرّ الذي يعمل في منأى عنه.
يقول الديبلوماسيون الأميركيون، وهم يستشهدون بتقارير الصحافة الأميركية، إن المعارضة السورية غير منظّمة، بلا مرجعية واضحة وموحّدة، فاقدة زمام السيطرة على نفسها، كما سيطرة القوى المعنية بمواجهة النظام كتركيا وقطر والسعودية عليها. لكل من هذه فصائل وتنظيمات وشخصيات في المعارضة، من غير أن تحيلها قوة متماسكة. يُضاعف وطأة هذا التفكّك جدل داخلي لا يتوقف بين الاخوان المسلمين والتيّارات المدنية اللذين يتنافسان على السيطرة على المجلس الوطني. الأمر نفسه بالنسبة إلى تعاظم دور تنظيم «القاعدة» وتيّارات سلفية أخرى تعمل بمعزل عن المجلس والجيش السوري الحرّ، وتسيء إلى صورة المعارضة وأهدافها. بل يعتقد الأميركيون بأن هؤلاء يدفعون بالبلاد ــــ كالنظام ــــ إلى نزاعات واقتتال مذهبي وطائفي.
المصدر :
الاخبار/نقولا ناصيف
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة