دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
لم تعش تركيا حالة مذهبية وعرقية مثل التي تعيشها الآن. هذا ليس افتراء، بل حالة يشهد عليها كل المحللين الأتراك.
وإذا كانت الأزمة السورية كشفت عن بعض المستور في العلاقات البينية بين مكونات المجتمع التركي، فإن السياسات التي حملها حزب العدالة والتنمية اتكأت على إيديولوجية انفجرت مضامينها مع بداية ما يُسمى بـ«الربيع العربي»، الذي يكاد يتحول، إن لم يكن تحوّل بالفعل، إلى حالة مذهبية فرضت تحالفاً بين قوى عربية بعينها دون غيرها، والتحقت بها تركيا.
وما يُقال عن العرب قد يكون طبيعياً، لكن تركيا في الأساس بلد علماني. وكما يقول الرئيس السابق لحزب الشعب الجمهوري دينيز بايكال، فإن العلمانية لا تتعلق بالداخل التركي فقط، بل يجب أن تطبق أيضاً على السياسة الخارجية.
لا يخطئ محلل تركي واحد، حتى المقربين من حزب العدالة والتنمية، في أن تركيا انتهجت سياسات مذهبية في سياساتها الخارجية. وتركيا بقدر ما تبتعد عن أوروبا بقدر ما تقترب من مستنقع العالم الإسلامي والشرق الأوسطي، المثقل بالحساسيات والصدامات المذهبية والاتنية.
وبعد الإنجازات على جبهة الاتحاد الأوروبي عامي 2003 و2004 انكفأ التقدم على الطريق الأوروبي، وانهمكت تركيا بمحيطها الإسلامي. ثماني سنوات وعلاقات حكومة رجب طيب اردوغان مع الاتحاد الأوروبي تراوح مكانها. لم تتغير قاعدة التعامل التركي مع الأوروبيين. العلمانيون استخدموا الشعار الأوروبي لقمع الإسلاميين. وإسلاميو حزب العدالة والتنمية يستخدمون الشعار الأوروبي للقضاء على نفوذ العسكر. وفي النتيجة فإن الاتحاد الأوروبي لم يكن يوماً هدفاً جدياً للأتراك بعلمانييهم وإسلامييهم. كان مجرد أداة لتصفية حسابات محلية. ومن يرد الدخول إلى الاتحاد الأوروبي لا يصف الحضارة البيزنطية بأنها سوداء، كما فعل اردوغان في القاهرة. ولا يضير الأوروبيين شيء في ذلك، فهم في الأساس لا يريدون تركيا عضواً كامل العضوية فيها.
الوجه الإصلاحي لتركيا حزب العدالة والتنمية انكشف بعد فترة قصيرة. المزيد من تديين المجتمع على حساب العلمنة، والمزيد من النزعة العرقية على حساب العيش المشترك مع الأكراد والمزيد من النزعة المذهبية على حساب اللحمة مع العلويين.
بعد زلزال «فان» في الشتاء الماضي اضطر العديد من الشبان الأكراد الى الهجرة غرباً، فقصدوا بلدة ايميت في محافظة كوتاهية للعمل في ورشات بناء، لكنهم تعرضوا من وقت لآخر للمضايقة في الشوارع وفي ورشات البناء. وفي النهاية اضطروا الى المغادرة. يقول علي طوبوز، في صحيفة «راديكال»، إن المنطق العرقي انتصر، موضحاً «غادر الأكراد فارتاح الوضع».
لم تختلف مقاربة إسلاميي حزب العدالة والتنمية في مقاربة المشكلة الاتنية الكردية عن الحكومات السابقة. تحوّلت النزعة الكردية إلى «فوبيا» لدى حكومة اردوغان. وزير خارجيته احمد داود اوغلو منهمك بالتدقيق بالخرائط الاتنية والمذهبية في سوريا. وبطبيعة الحال هم انهمكوا أكثر في التدقيق بخريطة تركيا الاتنية والمذهبية، شأنهم شأن كل القادة الأتراك منذ العام 1923 وحتى اليوم.
في نهاية الأسبوع الماضي وقعت حادثة في بلدة سورغي في محافظة ملاطية. انه شهر رمضان وطبل رمضان. الحادثة هي أن المسحراتي في البلدة توقف أمام بيت علوي ـ كردي، وبدأ يقرع الطبل وينادي «انهضوا إلى السحور». وما كان من أفراد العائلة إلا أن قاموا وقالوا للمسحراتي بعدم قرع الطبل، لأنهم لا يصومون. وعندها بدأت المشكلة. في اليوم الثاني تجمّعت مجموعة من الشبان، تقدر بستين فرداً، أمام البيت العلوي ـ الكردي وبدأت ترشقه بالحجارة، وبعضها كبير، ويصرخون بأعلى صوتهم «الموت للعلويين، الموت للأكراد»، و«لا مكان لكم هنا ارحلوا وإلا سنقتلكم». تكررت الحادثة في اليوم الثاني.
ردة فعل المسؤولين الرسميين أنها حادثة فردية، ولا تستحق الاهتمام. لكنها في حقيقة الأمر ليست كذلك، وهي تتكرر أمام بيوت العلويين وترسل التهديدات لهم بأن يصوموا، وإلا سيواجهون الموت.
تقول مهوش ايفين، في صحيفة «ميللييت» أمس، إن المشكلة في أن مثل هؤلاء الأشخاص يتغذون من السياسات السنية للسلطة، فلا تحقيق في القضية ولا أي شيء آخر، وهو ما يشجع على تكرار الحوادث من منطلق مذهبي.
صاحبة المنزل العلوي ـ الكردي صوّرت بكاميرا الهاتف الخلوي المعتدين وأعطتها للشرطة، لكن أحداً لم يتحرك ولم يفتح تحقيقاً. حادثة الطبل في سورغي استمرار لحادثة التأشير بالدهان على بيوت العلويين قبل أشهر في مدينة آدي يمان.
أيضاً في الأسبوع الماضي أصدر القضاء التركي قراراً بمنع إعطاء جمعية علوية ترخيصاً، لأن نظامها الداخلي ينص على أنها ستعمل على الاهتمام بإنشاء «بيوت جمع»، أي مراكز عبادة العلويين المقابلة للجامع عند المسلمين والكنيسة عند المسيحيين. والحجة أن الدولة التركية لا تعترف إلا بالجامع مكاناً للعبادة، فيما الاعتراف بالكنيسة أو الكنيس اليهودي منصوص عليه في معاهدة دولية، هي لوزان.
العلويون هم مجموعة يتراوح عددها في تركيا من 15 إلى عشرين مليوناً. حتى لو كانوا عشرة ملايين أو خمسة أو أقل، أو كانوا هم أم غيرهم من المذاهب فلهم الحق، في بلد نظامه علماني أو حتى ديني، أن تكون لهم مراكز عبادة معترف بها، حسبما هم يعتقدون وليس حسبما ما يريده الآخرون لهم أن يؤمنوا ويعتقدوا.
يقول سادات ارغين، في صحيفة «حرييت»، إن النزعة المذهبية المتنامية في تركيا تتغذى أيضاً من تصريحات قادة حزب العدالة والتنمية.
وكان نائب رئيس حزب العدالة والتنمية حسين تشيليك اتهم سابقاً زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كيليتشدار اوغلو إنه يؤيد النظام السوري من منطلقات علوية. واردوغان نفسه تحدّى كيليتشدار اوغلو أن يعلن عن حقيقة موقفه المؤيد للنظام في سوريا، في إشارة إلى انه ينطلق من منطلق مذهبي علوي. علماً أن حزب الشعب الجمهوري لا يؤيد النظام في سوريا، ولكنه يريد إبعاد نار الفوضى والفتنة من أن تمتد إلى الداخل التركي، عبر نأي أنقرة بنفسها عن أن تكون طرفاً في الأحداث السورية.
وكان الرئيس السابق لحزب الشعب الجمهوري دينيز بايكال ادلى بحديث لصحيفة «ميللييت» نشر أمس. كان واضحاً في تشخيص مشكلة السياسة الخارجية التركية. وقال إن «الأحداث في سوريا هي جزء من مشهد عام يجري في العراق وتونس ومصر وليبيا، لكن لسوريا خصوصيتها المختلفة. في سوريا يوجد بعد روسي وإيراني». وأضاف «لا يمكن فهم حالة الحرب الأهلية في سوريا بالديناميات الداخلية فقط، بإنها معركة من اجل الديموقراطية والحريات، فمن الواضح أن العامل الخارجي قد ضغط على الزر هناك».
وتابع إن «سوريا تشهد حرباً مذهبية، وتركيا تحولت إلى طرف فيها. وتحولت السياسة الخارجية التركية إلى سياسة مذهبية بالكامل، وهذا أمر خطير جداً، لأن تركيا بمثل هذه السياسة المذهبية لا يمكنها أن تتلافى خطر انتقال الأحداث الى داخلها. والمسؤول عن هذه السياسة الانفعالية هما اثنان رجب طيب اردوغان واحمد داود اوغلو. في حين أن مبدأ العلمانية يجب أن يطبق أيضاً على السياسة الخارجية».
نموذج آخر على الرابط الإيديولوجي بالسياسة الخارجية قول اردوغان قبل أيام «يسألونني لماذا اهتم بسوريا إلى هذا الحد؟ الجواب عندي بسيط وهو أننا بقية الدولة العلية العثمانية وأحفاد السلاجقة وأحفاد العثمانيين». ما العلاقة بين أن تكون سليل العثمانيين أو السلاجقة وبين الاهتمام بسوريا أو العراق أو إيران أو غيرها من الدول والقضايا؟ ألا يختزن هذا الجواب ويكثف كل الطموحات التركية للسيطرة وتزعم المنطقة استمراراً للنزعة العثمانية؟ نعم فليخرج أحد ويبرر لنا هذا الربط بين سوريا والسلاجقة والعثمانيين؟
يقول حسن جمال، في «ميللييت»، إن من ليس متصالحاً مع مكوناته الداخلية لا يمكن أن يكون متصالحاً مع الخارج، لا في سوريا ولا غير سوريا.
الأمر ذاته يقوله سميح ايديز، موضحاً «لم نكن لننتظر كثيراً لنشهد على إفلاس سياسة «صفر مشكلات». لا مكان لـ«صفر مشكلات» مع من ليس متصالحاً مع شعبه. من 19 تموز بدأ اكراد سوريا السيطرة على مناطقهم، ليظهر حكم ذاتي للأكراد بما هو شمال عراق ثانٍ لتركيا. تركيا لن تسمح لهذه البنية أن تظهر. لكن نظاماً (تركياً) له مشكلات جدية مع أكراده لا يمكن ان يتبع سياسة «صفر مشكلات» مع جيرانه». ويضيف «مع عمق استراتيجي من دون اكراد نصل الى الفراغ. ونظام له مشكلات مع شعبه لا يمكن له ان يقود موجة التغيير في الشرق الأوسط، ولا أن يكون طليعتها. أولا يجب أن تطبق سياسة صفر مشكلات مع الأكراد والعلويين والعلمانيين، وبعدها تكون مع الجيران. لتعش «صفر مشكلات»».
تنهي مهوش ايفين مقالتها بالقول «لقد تحوّلت عبارات الأخوة العلوية ـ السنية والتركية ـ الكردية إلى كلمات جوفاء. والحكومة تتصرف مثل الفيل الذي يدخل إلى دكان الزجاجيات فيطيح كل شيء».
بعد كل هذا يتهم داود اوغلو منتقدي سياسته الخارجية والداخلية بانه «ليس في رأسهم ذرة عقل». هل يمكن أحد أن يصدّق فعلاً هذا الاتهام؟
المصدر :
السفير /محمد نور الدين
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة