دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
من الجرائم التي ارتكبتها الولايات المتحدة ومعها «الموساد» الإسرائيلي من أجل القضاء على العراق، كانت تفريغه من عقوله وعلمائه. وجرى هذا الأمر باتجاهين، إما عبر تقديم الإغراءات لتهجير هذه العقول الى أميركا والدول الأوروبية، أو من خلال التصفية الجسدية لمن يرفض هذه الإغراءات، ليخسر العراق خلال سنوات الحرب أكثر من 5500 عالم
غزا الاحتلال الأميركي بلاد الرافدين قبل 9 أعوام بحجج القضاء على ديكتاتورية صدام حسين، والإرهاب، وتهديد أسلحة الدمار الشامل، التي زعم أنها بحوزة النظام العراقي في حينه، لتسقط لاحقاً جميع هذه المزاعم، وتنكشف الأهداف المعروفة، وهي وضع اليد على نفط العراق، وإسقاط نظام «مارق» وتفتيت البلاد وزجها في تناحرات أهلية وفوضى دائمين، لإبعاد تهديده عن إسرائيل بالدرجة الأولى. وتحقق بذلك الهدفين الاستراتيجيين للإدارات الأميركية المتعاقبة: النفط وإسرائيل.
ولكي تكتمل أهداف الاحتلال في بلاد الرافدين، كان لا بد أيضاً من سلب ثروة لا تقلّ بأهميتها عن النفط، وهي علماء العراق. سلب هذه الثروة تم باتجاهين: إما عبر الترغيب والتهجير من أجل تفريغ العراق من العقول، أو من خلال التصفية المباشرة. وهجرة الأدمغة العراقية الى الخارج لم تبدأ في الواقع مع الاحتلال، بل كانت قائمة قبل 2003. وفي هذا الإطار، تحتضن بريطانيا أقدم الجاليات العراقية في أوروبا والمهجر. وتظهر الإحصائيات أنّ نسبة المتعلمين من هذه الجالية عالية جداً، حيث نسب الشهادات الجامعية 75 في المئة، ونسبة الذين يحملون شهادات عليا هي 33 في المئة للذكور و9 في المئة للإناث. ويوجد أكثر من ألفي طبيب يعملون في بريطانيا. وتجدر الإشارة الى أن كلفة تدريس وتخريج طالب كلية الطب في العراق بلغت أكثر من 15 ألف دينار عراقي في السبعينيات أي نحو 45 ألف دولار. أي إن وجود أكثر من 2000 طبيب عراقي في بريطانيا كلف خزينة الدولة أكثر من 100 مليون دولار.
وان كانت الهجرة قبل الاحتلال اختيارية لأسباب اجتماعية أو اقتصادية، فبعد الاحتلال كان هناك خطة ممنهجة لتفريغ العراق من كفاءاته وعقوله. وقد اعتمدت الولايات المتحدة على 3 خيارات لتنفيذ مخططها. الأول هو الخيار الألماني، ويتمثل في إفشاء المعلومات من قبل العلماء العراقيين إلى الجهات الغربية. بدأت هذه المحاولات بمشروع السيناتور جوزيف بايدن الذي صادق عليه مجلس الشيوخ الأميركي في تشرين الثاني 2002، وقضى بمنح العلماء العراقيين الذين يوافقون على إفشاء معلومات مهمة عن برامج بلادهم التسليحية بطاقة الهجرة الأميركية الخضراء، ووعدهم بآفاق بديلة أكثر إشراقا، ثم كان القرار الأممي 1441 الذي أصرت واشنطن على تضمينه بنداً يقضي باستجواب العلماء العراقيين، لكنه فشل.
وبعد الاحتلال، خصصت الولايات المتحدة برنامجاً بقيمة 25 مليون دولار لتأهيل العلماء العراقيين، الذين عملوا في برامج التسلح العراقية. والهدف المعلن هو الاستفادة منهم في برامج للاستخدام السلمي للطاقة، لكن الهدف الحقيقي هو استغلال عدد كبير من هؤلاء العلماء عبر ترحيلهم إلى الولايات المتحدة وإعطائهم الجنسية الأميركية ودمجهم في مشاريع معرفية هناك. وذكر الخبير في الشؤون الإسرائيلية، عماد جاد، أن الولايات المتحدة نقلت جوا 70 من العلماء العراقيين إلى خارج العراق، ووضعتهم في مناطق نائية خشية أن يسربوا ما لديهم من معلومات، أو يحولوا تلك المعلومات إلى منظمات أو دول معادية. وأسفرت هذه المغريات عن زيارة عدد من العلماء العراقيين للكيان الصهيوني، أبرزهم أستاذ علم الفيزياء النووية الدكتور طاهر لبيب، والمتخصص في مجال التكنولوجيا الدكتور محمود أبو صالح.
أما الخيار الثاني، فكان ما سمي «الخيار السلفادوري»، ويتمثل في تصفية العلماء. وتُنسب التسمية الى «مجزرة السلفادور» التي أشرفت عليها «سي آي ايه» في أميركا اللاتينية لتصفية العلماء. وكشف علماء العراق مع بداية الغزو ان قوات الاحتلال كانت تحمل قوائم بأسماء العلماء العراقيين الذين وردت أسماؤهم في قوائم مفتشي الأسلحة الدوليين وعناوينهم والأبحاث التي يعملون عليها، وهو ما أدى إلى اعتقالهم أو قتلهم.
ويشير العالم العراقي في مجال التكنولوجيا النووية، الدكتور نور الدين الربيعي، الى أن «العراق فقد 5500 عالم منذ الغزو الأنجلوأميركي في نيسان 2003، معظمهم هاجروا إلى شرق آسيا وشرق أوروبا والباقي تم اغتياله».
أما الثالث يتمثل في الاستهداف المباشر وغير المباشر، ويقوم على فلسفة المزاوجة بين الخيارين «الألماني»، أي احتواء العلماء وإعادة توظيفهم خدمة للمصلحة الأميركية، كما حدث مع العالم الألماني براون (بعد الحرب العالمية الثانية) وزملائه ممن قامت الولايات المتحدة بترحيلهم إلى أراضيها، والخيار «السلفادوري» القائم على تصفية من يرفض الإغراءات الأميركية.
وعادةً كان يتلقى العلماء والأكاديميون تهديدات مباشرة لدفعهم الى الهجرة قبل الإقدام على تصفيتهم. وفي هذا الإطار، تورد الدكتورة وفاء البياتي، الحاصلة على دكتوراه في طب وجراحة النساء، شهادتها وتقول «غادرت العراق بعد اشتداد الأزمة فيه وتزايد العنف والقتل للعلماء وعلى الهوية، ولأني كنت اعمل في مستشفيين أحدهما في الأعظمية والثاني في الكرادة، إضافة إلى عيادتي في منطقة الحارثية، بات من الصعب علي التنقل بين أماكن عملي بسبب التفجيرات، اضافة الى تعرضي لتهديد وصلني مرتين عن طريق الجوال. وكان فحوى التهديد يشير إلى تصفية قريبة خاصة بعد خطف زميلي. لذلك، نصحني زملائي بترك العراق. وأنا اعتقد أن من قام بتهديدي لا يعرفني ولكنه كان يعرف درجتي العلمية، لأن هناك مخططاً لإفراغ العراق من علمائه وقتل العلم فيه».
مخطط تصفية علماء العراق وأكاديمييه لم تعدّه وتنفذّه الولايات المتحدة بصورة أُحادية، بل جرى بالتنسيق والتعاون، بل وإرشاد وتدبير، جهاز الاستخبارات الاسرائيلي «الموساد». وأظهرت عدة دراسات نُشرت أخيراً تورط فرق الموت الاسرائيلية في اغتيال علماء وأكاديميي العراق ما بين 2003 و 2006. وفي تقرير أعدته وزارة الخارجية الأميركية عام 2005، كُشف عن قيام عناصر إسرائيلية وأجنبية أرسلها «الموساد» بالتعاون مع الولايات المتحدة إلى العراق لاغتيال 530 عالماً عراقياً على الأقل وأكثر من 200 استاذ جامعة وشخصيات أكاديمية أخرى منذ الغزو 2003.
وكانت عناصر «الموساد» هذه تعمل في العراق بقصد تصفية علماء الذرة والبيولوجيا من بين علماء آخرين وأساتذة جامعة بارزين، وذلك بعدما فشلت الولايات المتحدة في إقناع هؤلاء بالتعاون معها أو العمل في خدمتها. ونقل مركز المعلومات الفلسطيني عن تقرير وزارة الخارجية الأميركية قوله إنه «أُجبر بعض العلماء العراقيين على العمل في مراكز الأبحاث الأميركية، وعلى أي حال الأغلبية رفضوا التعاون في بعض الحقول وهربوا من الولايات المتحدة إلى دول أخرى». ووافق البنتاغون على اقتراح الموساد لتصفية العلماء كأفضل طريقة للتخلص منهم.
وتشير معلومات الى أن «الموساد» جند 2400 عنصر، إضافة إلى وحدة نخبة سرية تتضمن أكثر من 200 عنصر مؤهل من قوات البشمركة من أجل الإجهاز على العلماء وتصفيتهم. وقدّمت أجهزة الأمن الأميركية لإسرائيل سير حياة كاملة للعلماء العراقيين والأكاديميين من أجل تسهيل عملية قتلهم، بحسب التقرير.
وتقول دراسة للاستاذ اسماعيل جليلي بعنوان «محنة الأكاديميين العراقيين»، قُدّمت الى مؤتمر مدريد الدولي في نيسان 2006، إن «الموساد» الاسرائيلي شنّ 307 اعتداءات على الأكاديميين والأطباء، وتمكن من اغتيال 74 في المئة منهم. وهؤلاء موزعون بحسب التخصص، 31 في المئة منهم علماء في العلوم، و23 في المئة في الطب، و 21 في المئة في الإنسانيات.
أما في المجال العلمي فموزّعون على الشكل التالي، 33 في المئة هندسة، و14 في المئة زراعة، و 13 في المئة فيزياء، و 10 في المئة كيمياء، و 7 في المئة بيولوجيا. وبحسب المحافظات، فان نسبة الاغتيالات موزعة على الشكل التالي، 57 في المئة في بغداد، و14 في المئة في الموصل، و6 في المئة في النجف، ونسب أقل في الأنبار وتكريت والحلة وكربلاء وكروك وديالى. وتلحظ الدراسة ارتفاع نسبة الاغتيالات تدريجياً منذ 2003 حتى تصل الى ذروتها في 2006.
ويورد جليلي في دراسته مجموعة ملاحظات، منها أن اغتيال الأكاديميين العراقيين ظاهرة جديدة في العراق لم تحدث قبل نيسان 2003، وأن نمط القتل يكشف عن حملة وأهداف مرعبة، وأن عملية الاغتيال والخطف والتهديدات للأكاديميين والأطباء لإجبارهم على مغادرة العراق لا تتبع أي نمط طائفي.
المصدر :
الماسة السورية/ الأخبار
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة