لم يكن أحد في سورية يتوقع رداً مختلفاً على تفجيرات مكتب الأمن القومي التي ذهب ضحيتها أربعة من أركان النظام، وتعرّض إثرها اثنان آخران لإصابات بليغة. قرّرت دمشق في أعلى مستويات قيادتها، أن ضربة في الصميم تحتاج إلى رد مدمّر، أياً كانت كلفته.

اختارت كما هو واضح إرسال رسالة مفادها "لا تسامح ولا حسابات تكتيكية في المعالجة العسكرية للتطورات الميدانية الأخيرة". برهنت قيادة الجيش وعيدَها بضربات عسكرية استخدمت فيها الأسلحة الأكثر ثقلاً وتكلفة في المنظومة العسكرية لسحق التمرّد العسكري بكل صوره، حتى لو كان ضمن بيئات اجتماعية حاضنة أو مجبرة على الاحتضان.

وتشير مصادر الإعلام المحلي أو القريبة منه إلى نتائج تحققت في تقييم الحكومة لعمليتها التي تستمر لليوم الثامن على التوالي، وتتزامن في أكثر من منطقة.

قيام الجيش بممارسة قوته الصارمة هي مؤشر على مستوى الأزمة في سورية، والذي وصل مرحلة التحدي الأخير. هو ليس المعركة الأخيرة، ولكنه بنظر كثيرين الضربة التي ستحوّل ما تبقى من الصراع على السلطة لحرب عصابات متفرقة أكثر منه حرب مناطق وسيطرة. هذا يمكن استخلاصه ليس من طبيعة العمل العسكري ولكن أيضاً من أسلوبه، كما من طريقة تعاطي الإعلام الرسـمي مع هذه العملية في تأكيده نتائجها واستعراضه خسائر الطرف الآخر من جثث وعتاد.

المزاج السائد في المؤسسة العسكرية لا ينطبق فقط على العملية بحد ذاتها. بل يسري على كافة التطورات. لم تعد على سبيل المثال الانشقاقات المدنية والعسكرية منها تلقى التأثير ذاته لدى المسؤولين على اختلافهم.

ينظر المخلصون للدولة في سورية إلى تلك الانشقاقات على أنها "تطهير". يقول أحدهم لـ"السفير"، إن "هؤلاء خارج السرب أفضل. فرار الخونة أفضل من بقائهم في سريرك". تستأثر فكرة "أنني أقاتل معركتي الآن. وهي معركة شخصية إضافة لكونها سورية... وربما تكون الأخيرة".

ليس واضحاً إن كانت النظرة هي ذاتها لدى المعارضة المسلحة، والتي مُنيت بخسائر جسيمة في الأيام الماضية، لكن الدولة حسمت أمرها بلا شك، أياً كان تكتيك الطرف الآخر. وفي الأيام المقبلة لن تذيع وسائل الإعلام المنصتة لمصادر الطرفين أخباراً وإحصائيات مختلفة عن الأيام التي سبقت.

لكن يبقى سؤال لا يمكن كبته بعد كل تصعيد لهذا المستوى. ماذا بعد؟

تقوم الحكومة السورية بجهود تقول إنها مخصصة لإعادة الحياة للمناطق المدمرة والتي تأثرت بالصراع. الواقع أن أحياء بكاملها في مدن متفرقة باتت بحاجة لإعادة إعمار وتأمين بنية تحتية جديدة. آلاف العائلات إن لم يكن أكثر، باتت حرفياً من دون مسكن وليس فقط بعيدة عن منازلها. ووفقاً لمسؤول العمليات في منظمة الهلال الأحمر العربي السوري، خالد عرقسوسي "يقدر عدد المتواجدين حالياً خارج منازلهم بحوالى مليون ونصف"، وإن "عدد الذين استقبلهم الهلال الأحمر في مدارس دمشق وريفها يتراوح ما بين 8 و10 آلاف شخص، توزعوا في 18 مدرسة في مدينة دمشق و18 مدرسة في الريف".

هذا كله يحتاج للمال الذي تمّ الإنفاق منه كثيراً في الأشهر الماضية على وجوه الأزمة المختلفة.

معالجة المشكلة المادية ليست هي الوحيدة. الآثار الاجتماعية التي نتجت عن الأزمة وطرق معالجتها هي الأكثر تعقيداً. وقال أحد المعنيين بالأزمة من طرف الدولة مرة "إنه أياً كان عدد المتمردين يمكن القضاء عليهم بمعركة أو أكثر، لكن ما هو صعب هو مداواة الجروح الاجتماعية الناتجة عن ذلك". وهي جروح يعتقد وزير المصالحة الوطنية علي حيدر أنه قادر بجهد كبير وتعاون أطراف أخرى على معالجتها واحتوائها.

ثمة من يرى أن هذه المعالجة كان يمكن أن تبدأ من اللحظة التي بدأ فيها نزوح الأهالي في مناطق التوتر والاشتباك. لكن الاهتمام بهؤلاء اقتصر على نشاط المجتمع المدني، وقد ظهرت حالات تعاون نادرة بين ناشطي المعارضة والسلطة في بعض المناطق، وذلك وفقاً لما أكده ناشطون لـ" السفير" من الطرفين.

لكن هذا يقتصر على هذه الناحية فقط، وجرى بحكم الظرف العام. هذا التعاون غير ممكن عموماً لأن القانون السوري جرم مؤخراً حتى الدعم المعنوي للمعارضة المسلحة باعتبارها إرهاباً، وهو ما يوسّع دائرة الاتهام حتى لتشمل أنواع الناشطين كافة، بمن فيهم الذين ينشطون في القطاع المدني القريب من بيئة المعارضة المسلحة.

من ضمن ما يزيد تعقيد المشكلة أيضاً هو قناعة غلاة الطرفين بأن "التعايش مستحيل بينهما". بين الغلاة تقف الآن مشاهد فيديو وتصريحات تحريضية وأشلاء وضحايا وعنف وعنف مضاد وعنف مضاد عكسي. الدم يقف منتصباً حاراً في وجه الحل السياسي الذي لا أفق له حالياً.

وتنشغل في هذه الأثناء دول محورين كلاهما يقف لجانب الشعب السوري من وجهة نظره. يرتب الطرفان لجولة جديدة من النزاع السياسي. ترى دول الخليج وعلى رأسها السعودية وقطر أن استهداف الدولة السورية يمكن عبر الجمعية العامة للأمم المتحدة وعبر الاستناد لحجج "السلاح الكيميائي". تخوّف دمشق من كمين تنصبه المعارضة لا شك بات واضحاً وعلنياً.

أيضاً تدرس قطر إمكانية إلغاء عضوية سورية في الأمم المتحدة قبل نهاية ولايتها في ايلول المقبل على الجمعية العامة، وهو أمر دونه عقبات قانونية. وتقوم الدولة الصديقة سابقاً للسلطة السورية بدعم المعارضة المسلحة بأشكال مختلفة ومعلنة. من جهتها، لا تقيم روسيا وزناً للتحرك الدولي، وتأمل في أمرين. أن يحصل الحسم العسكري المشتهى سورياً للتمكن من العودة لخطة المبعوث الدولي كوفي أنان في ظروف أكثر استقراراً. لا يعتقد الروس أن الوقت مناسب للتنازل. يرى الرئيس فلاديمير بوتين أن هذه فرصة لا تعوّض لموسكو لتعزيز قوة متجددة بعناصر كثيرة.

خلال زيارة الرئيس الروسي السابق ديميتري ميدفيديف اليتيمة إلى دمشق منذ سنوات قلنا لوزير الخارجية سيرغي لافروف "أهلاً بعودة روسيا إلى المشرق مجدداً". انتفض الرجل وهو يردّ "نحن لم نغب ولم نقلل تواجدنا. يمكنكم أن تسألوا المسؤولين السوريين"، ثم أضاف بعصبية ظاهرة "كلما عرضنا عليهم أمراً قالوا، شكراً لكن نتـعاون مع تركـيا على هذا الأمر"...

من سخرية القدر وتقلبات السياسة أن يحصل الانقلاب الإقليمي بهذا الشكل.

  • فريق ماسة
  • 2012-07-26
  • 10642
  • من الأرشيف

دمشق: تحديات عسكرية واجتماعية .. في ظل لعبة الأمم

لم يكن أحد في سورية يتوقع رداً مختلفاً على تفجيرات مكتب الأمن القومي التي ذهب ضحيتها أربعة من أركان النظام، وتعرّض إثرها اثنان آخران لإصابات بليغة. قرّرت دمشق في أعلى مستويات قيادتها، أن ضربة في الصميم تحتاج إلى رد مدمّر، أياً كانت كلفته. اختارت كما هو واضح إرسال رسالة مفادها "لا تسامح ولا حسابات تكتيكية في المعالجة العسكرية للتطورات الميدانية الأخيرة". برهنت قيادة الجيش وعيدَها بضربات عسكرية استخدمت فيها الأسلحة الأكثر ثقلاً وتكلفة في المنظومة العسكرية لسحق التمرّد العسكري بكل صوره، حتى لو كان ضمن بيئات اجتماعية حاضنة أو مجبرة على الاحتضان. وتشير مصادر الإعلام المحلي أو القريبة منه إلى نتائج تحققت في تقييم الحكومة لعمليتها التي تستمر لليوم الثامن على التوالي، وتتزامن في أكثر من منطقة. قيام الجيش بممارسة قوته الصارمة هي مؤشر على مستوى الأزمة في سورية، والذي وصل مرحلة التحدي الأخير. هو ليس المعركة الأخيرة، ولكنه بنظر كثيرين الضربة التي ستحوّل ما تبقى من الصراع على السلطة لحرب عصابات متفرقة أكثر منه حرب مناطق وسيطرة. هذا يمكن استخلاصه ليس من طبيعة العمل العسكري ولكن أيضاً من أسلوبه، كما من طريقة تعاطي الإعلام الرسـمي مع هذه العملية في تأكيده نتائجها واستعراضه خسائر الطرف الآخر من جثث وعتاد. المزاج السائد في المؤسسة العسكرية لا ينطبق فقط على العملية بحد ذاتها. بل يسري على كافة التطورات. لم تعد على سبيل المثال الانشقاقات المدنية والعسكرية منها تلقى التأثير ذاته لدى المسؤولين على اختلافهم. ينظر المخلصون للدولة في سورية إلى تلك الانشقاقات على أنها "تطهير". يقول أحدهم لـ"السفير"، إن "هؤلاء خارج السرب أفضل. فرار الخونة أفضل من بقائهم في سريرك". تستأثر فكرة "أنني أقاتل معركتي الآن. وهي معركة شخصية إضافة لكونها سورية... وربما تكون الأخيرة". ليس واضحاً إن كانت النظرة هي ذاتها لدى المعارضة المسلحة، والتي مُنيت بخسائر جسيمة في الأيام الماضية، لكن الدولة حسمت أمرها بلا شك، أياً كان تكتيك الطرف الآخر. وفي الأيام المقبلة لن تذيع وسائل الإعلام المنصتة لمصادر الطرفين أخباراً وإحصائيات مختلفة عن الأيام التي سبقت. لكن يبقى سؤال لا يمكن كبته بعد كل تصعيد لهذا المستوى. ماذا بعد؟ تقوم الحكومة السورية بجهود تقول إنها مخصصة لإعادة الحياة للمناطق المدمرة والتي تأثرت بالصراع. الواقع أن أحياء بكاملها في مدن متفرقة باتت بحاجة لإعادة إعمار وتأمين بنية تحتية جديدة. آلاف العائلات إن لم يكن أكثر، باتت حرفياً من دون مسكن وليس فقط بعيدة عن منازلها. ووفقاً لمسؤول العمليات في منظمة الهلال الأحمر العربي السوري، خالد عرقسوسي "يقدر عدد المتواجدين حالياً خارج منازلهم بحوالى مليون ونصف"، وإن "عدد الذين استقبلهم الهلال الأحمر في مدارس دمشق وريفها يتراوح ما بين 8 و10 آلاف شخص، توزعوا في 18 مدرسة في مدينة دمشق و18 مدرسة في الريف". هذا كله يحتاج للمال الذي تمّ الإنفاق منه كثيراً في الأشهر الماضية على وجوه الأزمة المختلفة. معالجة المشكلة المادية ليست هي الوحيدة. الآثار الاجتماعية التي نتجت عن الأزمة وطرق معالجتها هي الأكثر تعقيداً. وقال أحد المعنيين بالأزمة من طرف الدولة مرة "إنه أياً كان عدد المتمردين يمكن القضاء عليهم بمعركة أو أكثر، لكن ما هو صعب هو مداواة الجروح الاجتماعية الناتجة عن ذلك". وهي جروح يعتقد وزير المصالحة الوطنية علي حيدر أنه قادر بجهد كبير وتعاون أطراف أخرى على معالجتها واحتوائها. ثمة من يرى أن هذه المعالجة كان يمكن أن تبدأ من اللحظة التي بدأ فيها نزوح الأهالي في مناطق التوتر والاشتباك. لكن الاهتمام بهؤلاء اقتصر على نشاط المجتمع المدني، وقد ظهرت حالات تعاون نادرة بين ناشطي المعارضة والسلطة في بعض المناطق، وذلك وفقاً لما أكده ناشطون لـ" السفير" من الطرفين. لكن هذا يقتصر على هذه الناحية فقط، وجرى بحكم الظرف العام. هذا التعاون غير ممكن عموماً لأن القانون السوري جرم مؤخراً حتى الدعم المعنوي للمعارضة المسلحة باعتبارها إرهاباً، وهو ما يوسّع دائرة الاتهام حتى لتشمل أنواع الناشطين كافة، بمن فيهم الذين ينشطون في القطاع المدني القريب من بيئة المعارضة المسلحة. من ضمن ما يزيد تعقيد المشكلة أيضاً هو قناعة غلاة الطرفين بأن "التعايش مستحيل بينهما". بين الغلاة تقف الآن مشاهد فيديو وتصريحات تحريضية وأشلاء وضحايا وعنف وعنف مضاد وعنف مضاد عكسي. الدم يقف منتصباً حاراً في وجه الحل السياسي الذي لا أفق له حالياً. وتنشغل في هذه الأثناء دول محورين كلاهما يقف لجانب الشعب السوري من وجهة نظره. يرتب الطرفان لجولة جديدة من النزاع السياسي. ترى دول الخليج وعلى رأسها السعودية وقطر أن استهداف الدولة السورية يمكن عبر الجمعية العامة للأمم المتحدة وعبر الاستناد لحجج "السلاح الكيميائي". تخوّف دمشق من كمين تنصبه المعارضة لا شك بات واضحاً وعلنياً. أيضاً تدرس قطر إمكانية إلغاء عضوية سورية في الأمم المتحدة قبل نهاية ولايتها في ايلول المقبل على الجمعية العامة، وهو أمر دونه عقبات قانونية. وتقوم الدولة الصديقة سابقاً للسلطة السورية بدعم المعارضة المسلحة بأشكال مختلفة ومعلنة. من جهتها، لا تقيم روسيا وزناً للتحرك الدولي، وتأمل في أمرين. أن يحصل الحسم العسكري المشتهى سورياً للتمكن من العودة لخطة المبعوث الدولي كوفي أنان في ظروف أكثر استقراراً. لا يعتقد الروس أن الوقت مناسب للتنازل. يرى الرئيس فلاديمير بوتين أن هذه فرصة لا تعوّض لموسكو لتعزيز قوة متجددة بعناصر كثيرة. خلال زيارة الرئيس الروسي السابق ديميتري ميدفيديف اليتيمة إلى دمشق منذ سنوات قلنا لوزير الخارجية سيرغي لافروف "أهلاً بعودة روسيا إلى المشرق مجدداً". انتفض الرجل وهو يردّ "نحن لم نغب ولم نقلل تواجدنا. يمكنكم أن تسألوا المسؤولين السوريين"، ثم أضاف بعصبية ظاهرة "كلما عرضنا عليهم أمراً قالوا، شكراً لكن نتـعاون مع تركـيا على هذا الأمر"... من سخرية القدر وتقلبات السياسة أن يحصل الانقلاب الإقليمي بهذا الشكل.

المصدر : السفير/ زياد حيدر


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة