دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
كأن "14 آذار" لم تعد تفهم على الأميركيين ماذا يريدون، تتساءل إذا الغاية هي إسقاط نظام الرئيس بشار الاسد لماذا ليس هناك من دعم لمن يدعون الى هذا الأمر علناً في لبنان، بدلاً من دعم حكومة يعتبر تحالف المعارضة اللبنانية أن موقفها بهذا الشأن ملتبس على الاقل؟ فماذا تغير في المقاربة الاميركية ولماذا هذا التباعد مع "14 آذار" وماذا تريد واشنطن من لبنان في هذه الأيام؟
بعد مرحلة الرئيس الاسبق أمين الجميل حيث كان هناك سياسة اميركية قائمة بذاتها حيال بيروت، دخل لبنان في غيبوبة العلاقات الاميركية السورية لحوالي عقدين من الزمن. الكلمة المفتاح حينها كانت إنهاء الحرب الأهلية مهما كان الثمن. لكن السياسة الاميركية حيال لبنان إنفصلت مجدداً عن سياستها حيال سوريا في العام 2005، حين أدى اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الاسبق رفيق الحريري الى حالة استقلالية لبنانية تحوّلت مع الوقت الى جزء رئيسي من استراتيجية المواجهة مع ايران عبر النظام السوري وحلفائه.
هذا الطلاق الاستراتيجي في النظرة الاميركية الى البلدين لا يزال قائماً، مع العلم انه في البيت الابيض والبنتاغون، هناك مسؤول واحد يتابع الملفين معاً على عكس وزارة الخارجية. هذه الوظيفة الإقليمية لـ"14 آذار" بدأت بالأفول مع انتهاء التجاذب بين النظام السوري والادارة الاميركية على الساحة اللبنانية، ومع انطلاقة شرارة الحراك الداخلي السوري، تغيرت الدينامية وانقلبت الاولويات. قوى "14 آذار" تريد الآن تلازم المسارين بين لبنان وسورية بعدما طالبت لسنوات بفصلهما، وقوى "8 آذار" تطرح فصل لبنان عن مسار سورية بعد المطالبة بتلازم المسارين في مرحلة سابقة!
مع بداية الحراك العربي في مطلع العام الماضي، كانت تعتبر الادارة الأميركية أن المنطقة تعيش غلياناً لا يتوقف من مصر مروراً بليبيا وصولاً الى سورية، وكان لبنان بالتالي نعمة استقرار يجب الحفاظ عليها في ظل هذا البركان العربي. لكن هذا الأمر تغيّر في الاشهر الأخيرة بعد التوتر المتنقل بين طرابلس وصيدا وعكار وبيروت، والضغوط السياسية التي مارستها المعارضة على الحكومة في بعض الأحيان والضغوط التي جلبتها الحكومة لنفسها في احيان أخرى. وباتت السياسة الأميركية تختصر في لازمة تتكرر في كل المناسبات: "التزام الولايات المتحدة باستقرار وسيادة واستقلال لبنان"، مع الأعراب عن القلق من الاوضاع الامنية ودعوة الاطراف الى التهدئة والاهتمام بالنازحين السوريين.
لكن تقول مصادر أميركية غير حكومية تتابع عن كثب الملف اللبناني مع الإدارة لـ"السفير" إن هناك رسائل حكومية اميركية وصلت و ما تزال تصل الى "14 آذار" في كل مراحل المخاض السوري. وحين كانت قوى "14 آذار" تصف حكومة رئيس الوزراء نجيب ميقاتي بأنها "حكومة حزب الله"، كان هناك تحفظ في واشنطن لأنها تتعامل مع هذه الحكومة يومياً.
ومع اشتداد حملة المعارضة على حكومة ميقاتي، تمنت الادارة الأميركية على الاطراف كافة التي تستمع اليها، "تخفيض نبرة الخطاب" وعدم تصعيد المواقف الداخلية والاقليمية في هذه المرحلة. ومع كل الافكار حول الحكومات البديلة، تمسكت واشنطن بموقفها ان هذه الحكومة على سيئاتها افضل من الفراغ. وفي هذا السياق، لم تنقطع زيارات المسؤولين الاميركيين الشهرية الى بيروت منذ تشرين الاول الماضي مع تحول الموقف الاميركي من حكومة ميقاتي، والرسالة الرئيسية من هذه الزيارات بحسب المصادر "هي متابعة الشأن اللبناني عن كثب واعطاء مؤشرات الى الداخل والخارج أن واشنطن موجودة على الساحة اللبنانية وبالتالي لن يكون سهلاً على اطراف اخرى الاستفراد بلبنان او جره الى نزاعات داخلية.
الحكومة الحالية بكل بساطة تناسب المصالح الاميركية في هذه المرحلة، ولائحة المطالب التي يناقشها المسؤولون الاميركيون مع نجيب ميقاتي ليست تعجيزية وتندرج ضمن تفهم قدراته على التحرك السياسي، وهي تتمحور عادة حول طلب مواقف علنية أكثر جرأة بالتنديد في ما يحصل في سوريا وعدم التمادي في التعاون الرسمي مع الحكومة الايرانية والتعاون في مجال فرض العقوبات الدولية على النظامين السوري والايراني. ميقاتي يتجاوب عادة مع اي طرح اميركي ضمن الممكن والمتاح، لكن هناك إدراكاً اميركياً لمدى ضعفه سياسيا برغم هامش المناورة الذي يتمتع به.
وهناك في المقابل شعور عام بين قيادات "14 آذار" ان واشنطن تخلت عنها مرة أخرى، وهذا الامر ازداد اكثر بعد مغادرة جيفري فيلتمان منصبه. المصادر الاميركية ترد على هذه النقطة وتقول إنه اذا كانت واشنطن لا تدعم عودة "14 آذار" الى الحكم، فهذا لا يعني انها تخلت عن مبادئها الاساسية في دعم لبنان. بعد الحراك السوري فرضت الظروف أن تتغير اللعبة، وواشنطن تدعم لبنان الآن بطريقة مختلفة من خلال ميقاتي، اي ما تغير هو اللاعب السياسي او الخريطة السياسية وليس المقاربة الاميركية.
تتابع المصادر ان مواقف الادارة الاميركية تتقاطع في الكثير من الأحيان مع مواقف "14 آذار"، لكن البعض في "14 آذار" يريد أن تكون واشنطن معه 100 في المئة من المواقف التي يتخذها.
النقطة الاخيرة، تحاول الادارة الاميركية ان تشرح لاصدقائها في لبنان ان سعيها الى تحول سياسي في سوريا منفصل عن مقاربتها في لبنان، حيث تريد الاستقرار، وبالتالي يجب عدم الخلط بين الامرين.
هناك تكتيك اميركي واضح الملامح حيال لبنان الى جانب ارتباك اميركي حيال الموقف من سوريا حيث الديبلوماسية الروسية تحاصر المبادرات الاميركية لوقف العنف وتسريع المرحلة الانتقالية. وهناك رفض في واشنطن لفكرة الخيار العسكري في وقت الادارة المركزية مشلولة تترقب الانتخابات الرئاسية الأميركية. وبالتالي الحلّ في سوريا ليس سريعاً ولا سحرياً، وفي هذا الوقت الضائع ليس هناك حاجة أميركية لمغامرات جديدة في لبنان تؤدي الى وضع غير مستقر او حالة حكومية تنحاز الى النظام السوري.
الادارة الأميركية موقفها واضح وغير ملتبس من "حزب الله" وسلاحه، وهذا لن يتغير في المدى المنظور. لكن بحسب المصادر ترى الإدارة "فرصة ذهبية في أفضل توقيت" للانخراط في حوار داخلي مع "حزب الله" لأنه مرتبك الآن في ظل ما يجري في سوريا، وحكومة ميقاتي تضمن هذا الغطاء لتبقى حسابات "حزب الله" ضمن المعادلة اللبنانية. ليس هناك اشتباك سياسي علني بين "حزب الله" والادارة الاميركية في هذه الايام، الوضع في الجنوب أكثر من مستقر والقلق الاميركي الآن على الحدود الشمالية، القلق الاميركي على التخبط في الحالة "السنية" صار أكثر من القلق على الاحتكار في الحالة الشيعية، والحوار الأميركي مفتوح مع رئيس المجلس النيابي نبيه بري حول الحدود المائية مع اسرائيل وغيرها من القضايا. الفكرة الاميركية انه في هذه الفترة، الافضل استيعاب "حزب الله" في حوار داخلي يحفظ الاستقرار في المرحلة الانتقالية عندما تحصل فعلياً في سوريا، وبعدها لكل حادث حديث، ولا احد يعرف متى سينتهي الوضع في سوريا وكيف ستكون ملامح النظام الجديد.
في بدايات الحراك السوري، كانت أجواء "8 آذار" تؤكد ان العملية العسكرية (السورية) على مشارف الانتهاء والنظام السوري يستعيد توازنه في حالة من الإنكار الذاتي كأن ما يحصل تظاهرة مطلبية او مجموعة من "المخربين". في المقابل، كانت هناك بورصة مواعيد نهائية عند "14 آذار" تتوقع الاسابيع أو الأشهر التي سيسقط فيها النظام السوري ورهان على "الحلف الاطلسي" بعد تجربة ليبيا.
برهن عامل الوقت ان الطرفين على خطأ في اتخاذ المواقف وفي تقييم الوضع السوري لأن المسألة طويلة ومعقدة. النظام السوري لم يعد كما هو، ولن يعود الى ما كان عليه، لكنه لن يسقط غداً وبالسرعة التي توقعها الكثيرون. هذا الواقع طغى على حسابات طرفي النزاع في لبنان، وما يجري في سوريا على بال كل الاطراف المحلية، لكن يبدو أنها قررت التزام الصمت حالياً حتى تتضح الصورة.
القيادات اللبنانية بدأت بالفعل تخرج تدريجياً من الاستثمار في الأحداث السورية وهي تدور حالياً في فلك الانتخابات النيابية المنتظرة في العام المقبل. هذا القلق الانتخابي يحرك مزاج كل التحالفات السياسية التي قد تتغير حتى أكثر مع إعلان نتائج الانتخابات في العام المقبل. تقول المصادر إن واشنطن تأمل بقاعدة سياسية أوسع لدعم فعالية هذه الحكومة، وتشير إلى أن حتى أحد المسؤولين البارزين في الإدارة عندما سمع من قيادات حزب "الكتائب" شكوى جديدة عن تعامل حلفائه في "14 آذار" مع الحزب رد عليه بكلام لم يكن متوقعاً. قال المسؤول الاميركي، أيضاً بحسب هذه المصادر، وضع "14 آذار" في الإدارة "لا يمكن الدفاع عنه"، ملمّحاً إلى انه في حال كان هناك تباين واسع لماذا لا يبحث "الكتائب" عن تحالفات سياسية خارج "14 آذار"، في إشارة ضمنية إلى التحالف الوسطي داخل الحكومة.
في اللقاءات الرسمية مع المسؤولين الأميركيين، يمر لبنان مرور الكرام هذه الايام، ويتمحور معظم الكلام حول الملف السوري من مبادرات الامم المتحدة المكوكية الى "الفيتو" الروسي المتحرك. تقول المصادر إنه يبقى القطاع المصرفي اللبناني تحت المجهر أكثر من القطاعات المصرفية الاقليمية نظراً لتعقيداته وامتداداته، ويعود هذا الامر الى اعتبار الادارة ان هذا القطاع هو الأكثر حيوية في المنطقة، وهناك "شطارة اللبناني" في ابتداع وسائل جديدة لتجاوز القانون او العقوبات وبالتالي المتابعة الاميركية على مدار الساعة في وقت هناك إجماع لبناني على التعاون في هذه القضية.
كما يُستبعد إعلان اي جديد في ملف المساعدات العسكرية قبل نهاية العام الحالي وطي صفحة الانتخابات الرئاسية الاميركية، لكن هناك تقدير وحرص على التواصل مع قائد الجيش العماد جان قهوجي وتوفير دعم سياسي لمهمات الجيش. واكبر تحول، بالنسبة الى المصادر، انه في النهاية، رفع الكونغرس اي حظر على تسليم المساعدات العسكرية الى الجيش اللبناني في ظل حكومة تم وصفها لفترة طويلة على انها "حكومة حزب الله".
الارقام والمؤشرات في نشاط السفارة الاميركية العلني في بيروت تعكس هذا التوجه الاميركي الجديد. السفيرة مورا كونيلي اجتمعت حتى الآن سبع مرات بميقاتي هذه السنة، ومرتين بكل من الرئيس ميشال سليمان والنائب ميشال عون ومدير عام قوى الامن الداخلي اللواء اشرف ريفي، ومرة واحدة بنبيه بري والنائب سليمان فرنجية وجان قهوجي وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة والمدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم.
في العام الماضي، التقت كونيلي اربع مرات بميقاتي وثلاث مرات بعون ومرتين ببري ومرة واحدة بميشال سليمان. طبعا تواصل السفارة الاميركية مع "14 آذار" لم ولن ينقطع، لكن اللافت للانتباه كان الحرص الاميركي على التواصل مع اركان الحكومة الحالية ومواصلة اللقاءات مع قيادات المعارضة بدون اصدار بيان علني عنها، لا سيما خلال المخاض الاقليمي والدولي في إقناع الاطراف اللبنانية بالمشاركة في جلسات الحوار الوطني.
يقول احد الديبلوماسيين المخضرمين في واشنطن لـ"السفير" إن سوريا دخلت نفقاً مجهولاً وطويلاً ولدى لبنان وقياداته بالتالي فرصة تاريخية لإصلاح النظام السياسي وترسيخ الاستقرار وبناء الدولة فيه بعد عقود من دور مطلق لهذا النظام السوري في لبنان. وينهي حديثه بالسؤال الأصعب: هل هناك من يسمع في بيروت؟
المصدر :
السفير | جو معكرون
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة