لم يكن المؤرخ كمال الصليبي يكتب خواطره أو رؤيته الشخصية للكيان السياسي في لبنان، بواقعه الطوائفي، والخلفيات الدولية التي حكمت الصراع على المنطقة، حين وضع مؤلفه الممتاز "بيت بمنازل كثيرة". كان ينبّه إلى خطر بتنا الآن فيه.

الجديد أن هذا التوصيف مرشح الآن للتعميم على دول المشرق العربي كله، وربما فاض عنه إلى أنحاء أخرى في المغرب العربي.

أما في ما يعني لبنان فإن واقعه السياسي والديموغرافي والاقتصادي والأمني قد تجاوز خيال ذلك المؤرخ العبقري... فهو، الآن، أرخبيل من الجزر الأشبه بدويلات طائفية ومذهبية، تتقاسم جغرافية الوطن الصغير ومؤسساته، لكل منها كيانها القائم بقوة الأمر الواقع. الطريف أن "الدولة" تخضع في قراراتها السياسية والقضائية والأمنية الشرعية لمنطوق هذه الكيانات، فتسحب جيشها ـ بالطلب، حتى لا نقول بالأمر ـ من هذه المنطقة أو تلك، وترسله بالطلب، وبعد مفاوضات شاقّة إلى منطقة أخرى، وتجمّد أحكام القضاء وتعدّل فيها، بل هي تجمّد القضاء جميعاً وتعطّل عمله في انتظار "التوافق" داخل الطائفة ذاتها، ثم مع الطوائف الأخرى حول من يكون من أهله في هذا الموقع أو ذاك... حفظاً للتـوازن داخل الطائفـة حتى لا يخـتل موقعها ضمن مربع التوازنات الطائفية العامة.

لم يعد في الدولة مؤسسة جامعة، بالمعنى الوطني: كل جهاز تنفيذي سياسي ـ اقتصادي أو أمني له جهاز رديف، ومن لم يتوفر له جهاز يرضيه تمّ تعويضه بمؤسسة مستحدثة، أو هُمس في أذنه بما يفيد: إن حصته في النفط أو الغاز ستعوّضه شقاء الماضي وبؤس الحاضر سؤدداً في المستقبل!

الطرق الدولية في لبنان ليست سالكة دائماً. لها محطات "حدودية" ثابتة، وأحياناً متحركة. المطار مفتوح باستمرار، لكن للطريق حماتها الذين لهم حق القرار. للشمال معابر. ما قبل طرابلس غير ما هو فيها، وما بعدها مختلف جداً. للجنوب معبر واحد بدءاً من صيدا.. والمعبر الثاني تحت الإنذار. للبقاع معابر، تفتح وتغلق بالطلب. ولا يذهب الجيش لتأمينها إلا بعد تحقيق المطالب التي تلغي دور الجيش ووظيفته.

الحكومة حكومات مختلفة. والمجلس النيابي الذي برع رئيسه لفترة طويلة في تحييده ضربه التقسيم، وصارت الجلسات موضع مساومات بين "الحلفاء" وابتزاز من الخصوم، والتشريع لمخالفة التشريع على باب الله.

ثم إن ما يجري خلف حدود "الكيان" اللبناني، سوريا أساساً، الآن، والعراق من قبل، (والأردن في وقت لاحق؟)، يطرح على بساط البحث، مجدداً، اتفاق سايكس ـ بيكو: هل الزلزال الذي يضرب سوريا متجاوزاً الموقف من النظام ومعارضاته يندرج في "السياق اللبناني"، أم هو اقتراب أكثر من النموذج العراقي بعد الاحتلال الأميركي وإسقاط نظام صدام حسين؟

هل ثمة خطة لإعادة النظر في التقسيم القديم الذي استولد هذه الكيانات، أم إن التداعيات غير المحدودة لانفراط الدول، لا سيما تلك التي كانت أنظمتها تبدو مخلّدة ولا تتورّع عن إبادة عشرات الآلاف ومئات الآلاف إذا اقتضى ذلك "أمن النظام"، ستتجاوز "سايكس ـ بيكو" إلى فرض أمر واقع تصبح فيه إسرائيل مركز الاستقرار في المنطقة، والقوة الضابطة لحركة شعوبها... لا سيما أنها "الدولة" التي لا تتأثر بعملية الانتقال السلمي للسلطة، ثم إنها "الأغنى" و"الأقوى" والتي تحظى بدعم دولي إجماعي لا تخرج عليه أي من الدول الكبرى... ولم يعد للكثرة العربية من حولها، بمئات الملايين من البشر، أي تأثير جدي، وانتفى "خطر التهديد" بالمطلق. بل لعل بعض الكيانات العربية المستحدثة أو التي تفترض أنها مهددة في أمنها تلتفت إلى إسرائيل كضمانة لوجودها ولاستقرارها في طوفان النفط أو الغاز القادر على شراء التأييد الدولي من الشرق إضافة إلى الغرب بعد استئصال الشبح المقلق للشيوعية والاشتراكية وسائر المشتقات؟!

لقد عقدت صفقة سايكس ـ بيكو في غيبة الشعوب العربية، وعبر وضع "العروبة" مقابل "العثمانية"، وباسترهان لقب شريف في طموحاته التي لا تستند إلى أي من مصادر القوة، لتمريرها باعتبارها تحقيقاً لحلم الخلافة أو الملكية العربية الشاملة كل ناطق بالضاد؟

وها هي الشعوب تتمزق في صراعها ضد أنظمة القهر التي لا تتورّع عن المخاطرة بالكيان ذاته لاستنقاذ سلطتها.

فكما أن العراق لم يعد واحداً بعد "جلاء" قوات الاحتلال الأميركي فمن غير المضمون أن تخرج سوريا من مأزقها الدموي الراهن وهي موحدة الكيان ـ الدولة بعد الشروخ التي أصابت وحدة شعبها والتي يتوقع أن تتزايد عمقاً بفعل الدم المراق، والتي ستحتاج إلى فترة من العناية الفائقة لكي تستعيد سويتها... والسؤال: من أين ستأتي مثل تلك العناية؟

إن العراق أقاليم وكيانات الآن، والكرد قد استقلوا مبتعدين بأنفسهم عن حمى الصراع العربي ـ العربي (بين السنة والشيعة).

وفي سوريا استنبت الصدام الدموي المفتوح بين النظام ومعارضته (في الداخل أساساً) دعوات كانت مكبوتة إلى إعادة الحق إلى أصحابه (طائفياً)، وارتفعت صرخات الكرد والتركمان تلوّح بحقوقهم القومية.

.. وفي العراق حدود وحمايات مسلحة للحدود بين "القوميات".

وقد يتخذ الصراع في سوريا سياقاً مشابهاً، بدأت تطل ملامحه من الشمال وربما من الشرق.

"بيت بمنازل كثيرة" في كل واحدة من "دول سايكس ـ بيكو"؟!

لا بد من مراجعة معمّقة لسياق الأحداث التي تفجّر "دولنا" بغضب شعوبها التي اكتشفت أو اكتشف لها أنها لم تكن في أي يوم شعوباً سوية (كالأميركيين) مثلاً، بل هي مجاميع من الأقليات التي لكل منها الحق في كيانها الخاص... وبين الكيانات "مقابر"، وللمعابر من يحميها، وللحماة مطالب وشروط لا مجال معها لأناشيد العزة والحرية والسيادة والاستقلال.

هل طريق هذه الكلمات إليك، أيها القارئ العزيز، سالكة وآمنة؟!

 

السفير

  • فريق ماسة
  • 2012-07-15
  • 9672
  • من الأرشيف

بيـت بمنــازل كثيــرة" فـي كـل "دول" سـايـكـس ـ بيكـو؟

لم يكن المؤرخ كمال الصليبي يكتب خواطره أو رؤيته الشخصية للكيان السياسي في لبنان، بواقعه الطوائفي، والخلفيات الدولية التي حكمت الصراع على المنطقة، حين وضع مؤلفه الممتاز "بيت بمنازل كثيرة". كان ينبّه إلى خطر بتنا الآن فيه. الجديد أن هذا التوصيف مرشح الآن للتعميم على دول المشرق العربي كله، وربما فاض عنه إلى أنحاء أخرى في المغرب العربي. أما في ما يعني لبنان فإن واقعه السياسي والديموغرافي والاقتصادي والأمني قد تجاوز خيال ذلك المؤرخ العبقري... فهو، الآن، أرخبيل من الجزر الأشبه بدويلات طائفية ومذهبية، تتقاسم جغرافية الوطن الصغير ومؤسساته، لكل منها كيانها القائم بقوة الأمر الواقع. الطريف أن "الدولة" تخضع في قراراتها السياسية والقضائية والأمنية الشرعية لمنطوق هذه الكيانات، فتسحب جيشها ـ بالطلب، حتى لا نقول بالأمر ـ من هذه المنطقة أو تلك، وترسله بالطلب، وبعد مفاوضات شاقّة إلى منطقة أخرى، وتجمّد أحكام القضاء وتعدّل فيها، بل هي تجمّد القضاء جميعاً وتعطّل عمله في انتظار "التوافق" داخل الطائفة ذاتها، ثم مع الطوائف الأخرى حول من يكون من أهله في هذا الموقع أو ذاك... حفظاً للتـوازن داخل الطائفـة حتى لا يخـتل موقعها ضمن مربع التوازنات الطائفية العامة. لم يعد في الدولة مؤسسة جامعة، بالمعنى الوطني: كل جهاز تنفيذي سياسي ـ اقتصادي أو أمني له جهاز رديف، ومن لم يتوفر له جهاز يرضيه تمّ تعويضه بمؤسسة مستحدثة، أو هُمس في أذنه بما يفيد: إن حصته في النفط أو الغاز ستعوّضه شقاء الماضي وبؤس الحاضر سؤدداً في المستقبل! الطرق الدولية في لبنان ليست سالكة دائماً. لها محطات "حدودية" ثابتة، وأحياناً متحركة. المطار مفتوح باستمرار، لكن للطريق حماتها الذين لهم حق القرار. للشمال معابر. ما قبل طرابلس غير ما هو فيها، وما بعدها مختلف جداً. للجنوب معبر واحد بدءاً من صيدا.. والمعبر الثاني تحت الإنذار. للبقاع معابر، تفتح وتغلق بالطلب. ولا يذهب الجيش لتأمينها إلا بعد تحقيق المطالب التي تلغي دور الجيش ووظيفته. الحكومة حكومات مختلفة. والمجلس النيابي الذي برع رئيسه لفترة طويلة في تحييده ضربه التقسيم، وصارت الجلسات موضع مساومات بين "الحلفاء" وابتزاز من الخصوم، والتشريع لمخالفة التشريع على باب الله. ثم إن ما يجري خلف حدود "الكيان" اللبناني، سوريا أساساً، الآن، والعراق من قبل، (والأردن في وقت لاحق؟)، يطرح على بساط البحث، مجدداً، اتفاق سايكس ـ بيكو: هل الزلزال الذي يضرب سوريا متجاوزاً الموقف من النظام ومعارضاته يندرج في "السياق اللبناني"، أم هو اقتراب أكثر من النموذج العراقي بعد الاحتلال الأميركي وإسقاط نظام صدام حسين؟ هل ثمة خطة لإعادة النظر في التقسيم القديم الذي استولد هذه الكيانات، أم إن التداعيات غير المحدودة لانفراط الدول، لا سيما تلك التي كانت أنظمتها تبدو مخلّدة ولا تتورّع عن إبادة عشرات الآلاف ومئات الآلاف إذا اقتضى ذلك "أمن النظام"، ستتجاوز "سايكس ـ بيكو" إلى فرض أمر واقع تصبح فيه إسرائيل مركز الاستقرار في المنطقة، والقوة الضابطة لحركة شعوبها... لا سيما أنها "الدولة" التي لا تتأثر بعملية الانتقال السلمي للسلطة، ثم إنها "الأغنى" و"الأقوى" والتي تحظى بدعم دولي إجماعي لا تخرج عليه أي من الدول الكبرى... ولم يعد للكثرة العربية من حولها، بمئات الملايين من البشر، أي تأثير جدي، وانتفى "خطر التهديد" بالمطلق. بل لعل بعض الكيانات العربية المستحدثة أو التي تفترض أنها مهددة في أمنها تلتفت إلى إسرائيل كضمانة لوجودها ولاستقرارها في طوفان النفط أو الغاز القادر على شراء التأييد الدولي من الشرق إضافة إلى الغرب بعد استئصال الشبح المقلق للشيوعية والاشتراكية وسائر المشتقات؟! لقد عقدت صفقة سايكس ـ بيكو في غيبة الشعوب العربية، وعبر وضع "العروبة" مقابل "العثمانية"، وباسترهان لقب شريف في طموحاته التي لا تستند إلى أي من مصادر القوة، لتمريرها باعتبارها تحقيقاً لحلم الخلافة أو الملكية العربية الشاملة كل ناطق بالضاد؟ وها هي الشعوب تتمزق في صراعها ضد أنظمة القهر التي لا تتورّع عن المخاطرة بالكيان ذاته لاستنقاذ سلطتها. فكما أن العراق لم يعد واحداً بعد "جلاء" قوات الاحتلال الأميركي فمن غير المضمون أن تخرج سوريا من مأزقها الدموي الراهن وهي موحدة الكيان ـ الدولة بعد الشروخ التي أصابت وحدة شعبها والتي يتوقع أن تتزايد عمقاً بفعل الدم المراق، والتي ستحتاج إلى فترة من العناية الفائقة لكي تستعيد سويتها... والسؤال: من أين ستأتي مثل تلك العناية؟ إن العراق أقاليم وكيانات الآن، والكرد قد استقلوا مبتعدين بأنفسهم عن حمى الصراع العربي ـ العربي (بين السنة والشيعة). وفي سوريا استنبت الصدام الدموي المفتوح بين النظام ومعارضته (في الداخل أساساً) دعوات كانت مكبوتة إلى إعادة الحق إلى أصحابه (طائفياً)، وارتفعت صرخات الكرد والتركمان تلوّح بحقوقهم القومية. .. وفي العراق حدود وحمايات مسلحة للحدود بين "القوميات". وقد يتخذ الصراع في سوريا سياقاً مشابهاً، بدأت تطل ملامحه من الشمال وربما من الشرق. "بيت بمنازل كثيرة" في كل واحدة من "دول سايكس ـ بيكو"؟! لا بد من مراجعة معمّقة لسياق الأحداث التي تفجّر "دولنا" بغضب شعوبها التي اكتشفت أو اكتشف لها أنها لم تكن في أي يوم شعوباً سوية (كالأميركيين) مثلاً، بل هي مجاميع من الأقليات التي لكل منها الحق في كيانها الخاص... وبين الكيانات "مقابر"، وللمعابر من يحميها، وللحماة مطالب وشروط لا مجال معها لأناشيد العزة والحرية والسيادة والاستقلال. هل طريق هذه الكلمات إليك، أيها القارئ العزيز، سالكة وآمنة؟!   السفير

المصدر : طلال سلمان\ السفير


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة