لم تكن السعودية وتركيا يوماً في مرتبة الأصدقاء. ما جمعته المصالح بينهما، حديثاً، لم يكف لستر ما فرقته الاختلافات الجوهرية الطاعنة سواء بين مملكة وجمهورية، أو بين إسلامية وعلمانية، أو بين «فلسفة» إدارة السياسة الخارجية وآليات ترجمة هذه الفلسفة.

وفي مرحلة «الربيع العربي» بدا التقارب متيناً بين كل من السعودية وتركيا، ثم اتخذ طابع الجدية مع احتدام الأزمة في سوريا، إلا أن ذلك لم ينف فرضية اندلاع عناصر الاختلاف، الخاملة حالياً، في وقت غير متوقع، بما لا يمكن تكهن تداعياته على المشهد الاستراتيجي للمنطقة بأكملها.

عن العلاقة بين قطبين سنيين بارزين وعناصر التقائها واختلافها، نشرت مجلة «فورين أفيرز» تقريراً يستعيد المسار التفصيلي لحالة «الصداقة اللدودة» التي تجمع الرياض بأنقرة، في محاولات لاستشراف الوتر الذي يمكن أن تعزف عليه مستقبلاً مع تغيّر مجريات الساحة.

تعززت العلاقات الاقتصادية بين السعودية وتركيا في السبعينيات فقط. تركيا احتاجت السعودية لنفطها، والأخيرة لجأت إلى قطاع البناء التركي الضخم من أجل مدنها الحديثة. وفي التسعينيات، اتخذت العلاقة طابعاً عسكرياً. بعد حرب الخليج، تكاتفت السعودية مع مصر وسوريا من أجل التأسيس لنظام عربي جديد. واستطاعت دمشق، التي لم تكن حليفة لأنقرة حينها، أن تؤطر العديد من معاركها مع تركيا بما يتوافق مع المصلحة العربية.

وفي وقت حافظت أنقرة على علاقات جيدة مع الرياض، لم تتخلّ عن حوارها مع إيران، وهذا ما عزّز في مطلع العام 2009 الشكوك حول الموقف التركي المزدوج... أما غزو العراق فقد غيّر المشهد بأكمله، فسقوط صدام حسين وتوسع نفوذ الشيعة العراقيين، زرع مخاوف في المملكة من حراك شيعي باتجاه التغيير. وفي معرض الردّ، شرعت الرياض ببناء تحالفات مع الدول التي تتقاسم وإياها المصالح فيما يسمى بـ«المحور السني» لمواجهة «الهلال الشيعي».

وفي وقت بدا حينها أن كلاً من الأردن ومصر الحليفين الطبيعيين للسعودية في مواجهة مشروع كهذا، اختارت السعودية توسيع الدائرة في محاولة لحشد تركيا. خيار السعودية كانت له أسباب عدة تبرره. كانت أنقرة قد بدأت تتحول إلى قوة إقليمية فاعلة، فضلاً عن أنها عضو في حلف شمال الأطلسي وذات غالبية سنية. وكان من البديهي أن تخاف السعودية من يد طولى لقوة غير عربية في المنطقة، إلا أن «الشرّ التركي» يكاد ينعدم إذا ما قورن بـ«الشرّ الإيراني».. هكذا برّرت الرياض موقفها.

في العام 2006، قام الملك عبد الله بأول زيارة يقوم بها ملك سعودي إلى تركيا منذ عقود. واستتبعت الزيارة الأولى ثانية أخرى في العام 2007. وفي العام التالي، دخلت تركيا ودول مجلس التعاون الخليجي في حوار استراتيجي مع إيران. وبعد ذلك بسنة، ازدهرت العلاقات السعودية – التركية، وقد بلغ حجم التجارة في العام 2011 بين الاثنين 5 مليارات دولار في السنة، كما وصل عدد السياح السعوديين إلى تركيا إلى 84 ألفاً في العام 2010.

من جهتها، كانت تركيا مهتمة بوضع السنة في العراق، فهي كانت تؤمن أن صعود الشيعة واقترانه بتمدّد العنف في العراق سيؤديان إلى تقسيم البلاد على أسس عرقية. إضافة إلى ذلك، خشيت أنقرة من أن يدفع استقلال شمال العراق بأكرادها إلى طلب الانضمام إليه، وهي أرادت بموازاة ذلك إخماد طموحات إيران الإقليمية. ولكن فيما كانت حريصة على الانفتاح على السعودية، لم ترغب أنقرة بأن تصبح ركناً أساسياً من أركان المحور السني في الشرق الأوسط لأن ذلك لم يتناسب مع سياستها «صفر مشاكل» مع الجيران.. لقد أرادت أنقرة أن تحتوي النفوذ الإيراني في المنطقة عبر التوازن الناعم، لا سيما في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية والشأن العراقي والملفين اللبناني والسوري.

«ربيع» العلاقة التركية ـ السعودية.. و«خريفها»؟

... أتى «الربيع العربي». وفيما كانت السعودية متوجسة بعض الشيء من دعم الاحتجاجات خوفاّ من انتقال «موسى التغيير إلى ذقنها»، بدا موقف تركيا أكثر وضوحاً في تأييد حراك الشارع. عندما وصل الدور لسوريا، توفرت الظروف لوضع العلاقة على خط الرياض ـ أنقرة على مسارها الصحيح. ولكن على الرغم من أنه بات لدى كل من السعودية وتركيا هدف مشترك، إلا أن ذلك لم يمنع من وجود منسوب ملحوظ من التوتر في مواقف الطرفين. أولاً، لم يكن ينحصر هدف امتصاص الأزمة السورية بالحدّ من التأثير الإيراني، كما لدى السعودية، بقدر ما هو حماية لتركيا من الفوضى التي قد تخترق أراضيها عبر الحدود الجنوبية. وهذا التباين إن كان بارزاً في حدّه الأدنى في سوريا، فقد ظهر جلياً في ما يتعلق بملفات مصر واليمن والبحرين.

يُضاف إلى ما سبق واقع أن الرؤى التركية والسعودية لمرحلة ما بعد الأسد تختلف. وفي وقت تدافع السعودية عن إقامة نظام إسلامي سني، تفضل تركيا مشاركة جميع الأطراف، وهي تحتضن وتدعم «الإخوان المسلمين»، وتستفيد من ذلك لتدفعهم باتجاه المزيد من المشاركة وحصد التمثيل على الأرض.

وفي النهاية، على الرغم من أن احتمالات التقارب بين السعودية وتركيا تتضاعف من وقت إلى آخر، إلا أن قيوداً صعبة تقف عائقاً أمام توطد هذه العلاقة أو ضمان استقرارها. الطرفان يختلفان على ما يريدانه من المنطقة، وعلى السياسات المفترض تطبيقها لتحقيق هذه الإرادات. وفي الكفة الأخرى، تبقى للمصالح الاقتصادية كلمة مهمة في ضمان هذه العلاقة الثنائية، حيث سيحاول الطرفان التستر أو التغاضي عن الخلافات بأقصى حدود المستطاع.

  • فريق ماسة
  • 2012-05-16
  • 15481
  • من الأرشيف

السـعوديـة وتـركيـا: الصداقـة اللـدودة

لم تكن السعودية وتركيا يوماً في مرتبة الأصدقاء. ما جمعته المصالح بينهما، حديثاً، لم يكف لستر ما فرقته الاختلافات الجوهرية الطاعنة سواء بين مملكة وجمهورية، أو بين إسلامية وعلمانية، أو بين «فلسفة» إدارة السياسة الخارجية وآليات ترجمة هذه الفلسفة. وفي مرحلة «الربيع العربي» بدا التقارب متيناً بين كل من السعودية وتركيا، ثم اتخذ طابع الجدية مع احتدام الأزمة في سوريا، إلا أن ذلك لم ينف فرضية اندلاع عناصر الاختلاف، الخاملة حالياً، في وقت غير متوقع، بما لا يمكن تكهن تداعياته على المشهد الاستراتيجي للمنطقة بأكملها. عن العلاقة بين قطبين سنيين بارزين وعناصر التقائها واختلافها، نشرت مجلة «فورين أفيرز» تقريراً يستعيد المسار التفصيلي لحالة «الصداقة اللدودة» التي تجمع الرياض بأنقرة، في محاولات لاستشراف الوتر الذي يمكن أن تعزف عليه مستقبلاً مع تغيّر مجريات الساحة. تعززت العلاقات الاقتصادية بين السعودية وتركيا في السبعينيات فقط. تركيا احتاجت السعودية لنفطها، والأخيرة لجأت إلى قطاع البناء التركي الضخم من أجل مدنها الحديثة. وفي التسعينيات، اتخذت العلاقة طابعاً عسكرياً. بعد حرب الخليج، تكاتفت السعودية مع مصر وسوريا من أجل التأسيس لنظام عربي جديد. واستطاعت دمشق، التي لم تكن حليفة لأنقرة حينها، أن تؤطر العديد من معاركها مع تركيا بما يتوافق مع المصلحة العربية. وفي وقت حافظت أنقرة على علاقات جيدة مع الرياض، لم تتخلّ عن حوارها مع إيران، وهذا ما عزّز في مطلع العام 2009 الشكوك حول الموقف التركي المزدوج... أما غزو العراق فقد غيّر المشهد بأكمله، فسقوط صدام حسين وتوسع نفوذ الشيعة العراقيين، زرع مخاوف في المملكة من حراك شيعي باتجاه التغيير. وفي معرض الردّ، شرعت الرياض ببناء تحالفات مع الدول التي تتقاسم وإياها المصالح فيما يسمى بـ«المحور السني» لمواجهة «الهلال الشيعي». وفي وقت بدا حينها أن كلاً من الأردن ومصر الحليفين الطبيعيين للسعودية في مواجهة مشروع كهذا، اختارت السعودية توسيع الدائرة في محاولة لحشد تركيا. خيار السعودية كانت له أسباب عدة تبرره. كانت أنقرة قد بدأت تتحول إلى قوة إقليمية فاعلة، فضلاً عن أنها عضو في حلف شمال الأطلسي وذات غالبية سنية. وكان من البديهي أن تخاف السعودية من يد طولى لقوة غير عربية في المنطقة، إلا أن «الشرّ التركي» يكاد ينعدم إذا ما قورن بـ«الشرّ الإيراني».. هكذا برّرت الرياض موقفها. في العام 2006، قام الملك عبد الله بأول زيارة يقوم بها ملك سعودي إلى تركيا منذ عقود. واستتبعت الزيارة الأولى ثانية أخرى في العام 2007. وفي العام التالي، دخلت تركيا ودول مجلس التعاون الخليجي في حوار استراتيجي مع إيران. وبعد ذلك بسنة، ازدهرت العلاقات السعودية – التركية، وقد بلغ حجم التجارة في العام 2011 بين الاثنين 5 مليارات دولار في السنة، كما وصل عدد السياح السعوديين إلى تركيا إلى 84 ألفاً في العام 2010. من جهتها، كانت تركيا مهتمة بوضع السنة في العراق، فهي كانت تؤمن أن صعود الشيعة واقترانه بتمدّد العنف في العراق سيؤديان إلى تقسيم البلاد على أسس عرقية. إضافة إلى ذلك، خشيت أنقرة من أن يدفع استقلال شمال العراق بأكرادها إلى طلب الانضمام إليه، وهي أرادت بموازاة ذلك إخماد طموحات إيران الإقليمية. ولكن فيما كانت حريصة على الانفتاح على السعودية، لم ترغب أنقرة بأن تصبح ركناً أساسياً من أركان المحور السني في الشرق الأوسط لأن ذلك لم يتناسب مع سياستها «صفر مشاكل» مع الجيران.. لقد أرادت أنقرة أن تحتوي النفوذ الإيراني في المنطقة عبر التوازن الناعم، لا سيما في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية والشأن العراقي والملفين اللبناني والسوري. «ربيع» العلاقة التركية ـ السعودية.. و«خريفها»؟ ... أتى «الربيع العربي». وفيما كانت السعودية متوجسة بعض الشيء من دعم الاحتجاجات خوفاّ من انتقال «موسى التغيير إلى ذقنها»، بدا موقف تركيا أكثر وضوحاً في تأييد حراك الشارع. عندما وصل الدور لسوريا، توفرت الظروف لوضع العلاقة على خط الرياض ـ أنقرة على مسارها الصحيح. ولكن على الرغم من أنه بات لدى كل من السعودية وتركيا هدف مشترك، إلا أن ذلك لم يمنع من وجود منسوب ملحوظ من التوتر في مواقف الطرفين. أولاً، لم يكن ينحصر هدف امتصاص الأزمة السورية بالحدّ من التأثير الإيراني، كما لدى السعودية، بقدر ما هو حماية لتركيا من الفوضى التي قد تخترق أراضيها عبر الحدود الجنوبية. وهذا التباين إن كان بارزاً في حدّه الأدنى في سوريا، فقد ظهر جلياً في ما يتعلق بملفات مصر واليمن والبحرين. يُضاف إلى ما سبق واقع أن الرؤى التركية والسعودية لمرحلة ما بعد الأسد تختلف. وفي وقت تدافع السعودية عن إقامة نظام إسلامي سني، تفضل تركيا مشاركة جميع الأطراف، وهي تحتضن وتدعم «الإخوان المسلمين»، وتستفيد من ذلك لتدفعهم باتجاه المزيد من المشاركة وحصد التمثيل على الأرض. وفي النهاية، على الرغم من أن احتمالات التقارب بين السعودية وتركيا تتضاعف من وقت إلى آخر، إلا أن قيوداً صعبة تقف عائقاً أمام توطد هذه العلاقة أو ضمان استقرارها. الطرفان يختلفان على ما يريدانه من المنطقة، وعلى السياسات المفترض تطبيقها لتحقيق هذه الإرادات. وفي الكفة الأخرى، تبقى للمصالح الاقتصادية كلمة مهمة في ضمان هذه العلاقة الثنائية، حيث سيحاول الطرفان التستر أو التغاضي عن الخلافات بأقصى حدود المستطاع.

المصدر : السفير


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة