خلافاً لشركائه في 14 آذار، لا يستخدم الرئيس أمين الجميّل الأزمة السورية لشدّ عصب المحازبين إلى انتخابات 2013. ولا يجعل من المواجهة مع النظام السوري والانخراط في حملة إسقاطه شعاراً لمعركة استعادة الغالبية. يتمسّك بالحياد عمّا يجري هناك لتجنيب لبنان ارتداداته

يؤكد الرئيس أمين الجميّل مجدّداً موقفاً يُميّزه، منذ أشهر، عن حلفائه في قوى 14 آذار في مقاربة أحداث سوريا، بعدما شاركهم في شعارات التحقيق الدولي في الاغتيالات السياسية ثم المحكمة الدولية وسلاح حزب الله ــ وهي ملفات لبنانية ــ في انتخابات 2005 و2009، يبتعد عن الرئيس سعد الحريري ورئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية سمير جعجع، وكذلك عن رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط، برفضه إدخال ملف خارجي لا علاقة للبنان به في صلب استحقاق يديره اللبنانيون بأنفسهم، ولا يريدون تدخّل الآخرين فيه هو انتخابات 2013.

يفصل الجميّل تماماً بين الانتصار في انتخابات 2013 واستعادة الغالبية النيابية، وبين الانتصار على الرئيس بشّار الأسد في المعركة التي يخوضها ضد معارضيه على السلطة في بلاده. لا يبدو الجميّل متيقّناً من سهولة إسقاط الأسد قريباً. يختلف مع حلفائه أيضاً على تسمية «المجلس الوطني اللبناني» لقوى 14 آذار ويرفضها، ويريد استعادة تجربة «لقاء البريستول» إطاراً للتحالف: «تسمية المجلس الوطني غير متفق عليها ولا أؤيدها. لسنا مجلساً وطنياً بل حركة سياسية، ولا يسعنا أن نزعم ذلك».

يقول إنه لا يتوقع أن ينقز حلفاؤه من شعار الحياد الإيجابي الذي أطلقه قبل أشهر، واستفاض في الحديث عنه الثلاثاء في محاضرته في «مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية»، عندما اختار حياد اللبنانيين عن الثورة والصراع الدائر في سوريا، وتجنّب التدخّل في شؤونها لانتزاع الذرائع التاريخية لدمشق بغية التدخّل في لبنان.

لا ينسى الجميّل التذكير بحقبة طويلة، بين منتصف الخمسينات ونهاية الستينات، وجّهت خلالها الأنظمة المتعاقبة هناك، قبل حزب البعث وبعده، الاتهام إلى لبنان بالتدخّل في شؤونها ورعاية المعارضين وحماية قادة انقلابات سابقة وتوفير ملاذ لهم من الملاحقة، وتحريضهم أحياناً وتسهيل اجتماعاتهم لتحضير انقلابات على الانقلابات. لا ينسى كذلك ردّ الفعل السوري بتصفية الحساب مع لبنان والتلاعب بمصيره وإرادته في مرحلة الوصاية. لا ينسى أن يذكر أن أحداً ممّن توالوا على حكم سوريا، قبل الانقلابات العسكرية وبعدها بمَن فيهم رجال المرحلة الديموقراطية بين مطلع الأربعينات وآخرها، لم يغمض له جفن عن لبنان، ويظلّ يعتقد بضراوة أنه قطعة من سوريا. شأن نظرة تاريخية مماثلة لم يتخلَّ عنها مرة حكّام العراق، على مرّ العهود، إلى الكويت على أنها قطعة منه إلى أن حدث ما حدث عام 1990.

يقرأ الجميّل الجغرافيا والتاريخ على السواء عندما يحدّد موقفه من سوريا وأحداثها، على نحو ما كان خَبِره عن تماسه المباشر، السلبي والإيجابي، طوال ست سنوات رئيساً للجمهورية في قممه مع الرئيس حافظ الأسد والعلاقة المترجّحة مع نائب الرئيس عبد الحليم خدام.

يقول في شرح موقفه من الحياد الإيجابي: «لا مبرّر لأن ينقز أحد من حلفائي. ولا يُوجد موقفنا مسافة معهم لأننا منسجمون مع أنفسنا. موقف حزب الكتائب جزء من تقليد درجنا عليه تاريخياً. خضنا معركة شرسة ضد الرئيس جمال عبد الناصر عام 1958. لكن ذلك لم يمنع عبد الناصر من محاورة بيار الجميّل السنة التالية وتوجيه دعوة رسمية إليه، وإجراء محادثات معه، وتقليده وشاح النيل الأكبر بعد كل الذي حدث بين الطرفين عام 1958. طوى عبد الناصر الصفحة بمبادرة منه وبلا وساطة. كذلك الأمر مع ياسر عرفات. كان بيار الجميّل محاوره الدائم في أحلك الظروف. زارنا في بيتنا في حيّ اليسوعية، وأجرينا حواراً طويلاً إبّان حرب السنتين. مع سوريا كانت الزيارات مكوكية. يزورنا مسؤولون سوريون ونزورها، بيار الجميّل وأنا وبشير وكتائبيون كثيرون من أجل مناقشة الأزمة والعلاقات اللبنانية ــ السورية. لم ينقطع الحوار بيننا وبين الإيرانيين منذ بدء المرحلة الإيرانية في لبنان عام 1985، وظللنا على اتصال مستمر بالسفارة. هذه هي قراءتنا إذاً. أياً تكن الخلافات ثمّة مصلحة لبنانية في اتخاذ موقف عقلاني غير انفعالي في مقاربة كل المشكلات الناشئة، فكيف إذاً كانت الأزمات أكبر من لبنان، طابعها إقليمي ودولي يخشى أن تجعلنا جميعاً، كلبنانيين، ضحية صراع المحاور. لبنان بلد صغير ليست لديه المقدرة على الاحتمال عسكرياً واقتصادياً، وتُضاعف تركيبته التعدّدية الداخلية من دقة الموقف والخيارات. لهذا دعوت ولا أزال إلى الحياد الإيجابي».

كيف يصفه؟

يقول: «الحياد الإيجابي متحرّك ودينامي، وأميّزه عن الحياد السلبي الذي يعني التفرّج. أعني أن يستفيد لبنان من تركيبته وموقعه كي يلعب دوراً مؤثراً في خضم صراعات المنطقة، وهذا ما سعيت إليه في مؤتمر الضبية في كانون الثاني الماضي، وطرحي الشرعة ــ الإطار للأنظمة المنبثقة من الثورات العربية، وكذلك زياراتي مصر وتركيا وبلجيكا. ناقشت الأمر مع الأزهر والجامعة العربية، وعرضت في مجلس الشيوخ الإيطالي اقتراحاً بمشروع مارشال عربي من أجل العالم العربي يذكّر بمشروع مارشال الغربي على أثر الحرب العالمية الثانية، بدءاً بالتركيز على ثقافة الحرية والديموقراطية وصولاً إلى الإنماء والاقتصاد».

وهل يرى سوريا دخلت الفوضى، يجيب: «أخشى أنها دخلت فعلاً مرحلة الفوضى وعدم الاستقرار. قال لي أحد الآتين من هناك أخيراً: في النهار يسيطر نظام الأسد على البلاد، وفي الليل تسيطر المعارضة. وهذا مؤشر إلى أن الأزمة الدموية طويلة، كأننا نعيش توازن الرعب بين الطرفين، وكلاهما عاجز عن حسم المعركة لمصلحته ضد الآخر. أضف عدم رغبة الدول الكبرى في التدخّل العسكري على غرار ما حصل في ليبيا. ما يجري هناك مسؤولية النظام أولاً. أردّد دائماً عبارة للسياسي الفرنسي الذائع الصيت تاليران هي أن حربة البندقية يمكن استعمالها لكل شيء سوى الجلوس عليها. قامت شرعية النظام السوري على القمع وكبت الحريات والإرادات ومنع نشوء الأحزاب، وعلى النظام الأمني وتعطيل الحياة السياسية. طبيعي أن يقود ذلك إلى هذا الكمّ من الاحتقان الذي رأيناه ولا نزال، منذ أكثر من سنة، في الثورة الشعبية هناك».

يضيف الجميّل: «طبعاً أنا أخشى ارتدادات ما يحصل على لبنان الذي يتأثر كثيراً بسوريا، وخصوصاً في مثل الظرف الحالي لأسباب شتى، منها وجود مئات الألوف من العمال السوريين الذين يمكنهم نقل الصراع إلى لبنان، فضلاً عن الانقسام الحاد الذي يضرب اللبنانيين بين مؤيد لنظام الأسد ومعارض له. ماذا لو انتقل هذا الصراع بضراوة مماثلة إلى الساحة اللبنانية، وقد اختبرنا وضعاً مشابهاً في مطلع السبعينات وكانت خلفيته المعركة على المقاومة الفلسطينية بين مَن هو معها ومَن هو ضدها؟ هل يريد الشعب اللبناني فعلاً العودة إلى هذه التجربة، ومَن هو المستفيد؟ المؤسف في الوضع الراهن أن العقلانية غير مجدية وغير مرحب بها. موقفنا مستمد من تجربتنا واقتناعاتنا، ومن الثمن الباهظ الذي دفعناه بسبب صراعات الغير على أرضنا، وإقحام أنفسنا في صراعات أكبر منا من دون أن نكون قادرين على التأثير فيها».

لا يلمس أي تناقض بينه وبين الحريري وجنبلاط وجعجع في الموقف من سوريا. لم يفاتحه أي منهم في التمايز «لأن الجميع يعرف الجميع. هم يعرفوننا تماماً. تحالفنا قائم على معرفة أحدنا بطروحات الآخر وتوجّهاته. وهذا عنصر غنى لفريق 14 آذار. لسنا من المؤسسات الأحادية الاتجاه والمتحجّرة، بل فسيفساء على مثال لبنان وصورته، خصوصاً وأن المواقف لا تتناقض في جوهرها. لا خلاف على الإطلاق على المبادئ. جميعنا نرى أن النظام في سوريا يجب أن يتغيّر، وأن الحرية والديموقراطية ينبغي عودتهما إلى هذا البلد بعد طول اغتراب، وأن السياسة التي يتبعها المحور السوري ــ الإيراني مضرّة بمصلحة لبنان واستقراره، في حين أن التباين بيننا وبين حلفائنا يكمن في التفاصيل والمنهجية. ما يجمعنا أقوى ممّا يُفرّقنا. بل نلاحظ أن عدداً من قيادات 14 آذار يعود في مناسبات شتى ــ وما أكثرها ــ إلى الطروحات نفسها التي نقول بها في حزب الكتائب. وليد جنبلاط يعود إلى هذا التوجّه أحياناً، وكذلك الرئيس فؤاد السنيورة يلتقي في معظم الأحيان مع مواقفي في عدم إقحام لبنان في صراعات ونزاعات أكبر منه».

يُعارض الجميّل طرح الأزمة السورية و«إسقاط النظام» شعاراً لانتخابات 2013 على نحو الحريري وجنبلاط وجعجع: «طبعاً لا أؤيد هذا الشعار للانتخابات النيابية، بل أريد شعار لبنان أولاً والتركيز على الشأن اللبناني. هناك ما يكفي من المشكلات الداخلية التي يعاني منها المواطن في حياته اليومية. حرّي إذاً أن لا نقحمه في استحقاق دستوري في قضايا لا تعالج مشكلاته، وقد تلهيه عنها وتتسبّب في مضاعفة الانقسام الداخلي. هل يسعنا تجاهل المشكلات المزمنة للضمان الاجتماعي والكهرباء والاستشفاء والبطالة والرواتب والتربية والشيخوخة والغلاء وحال الطرق والفساد المستشري والهجرة، وسواها من الأزمات التي باتت لا تحصى. لدينا ما يكفي منها كي نستمدها شعاراً لانتخاباتنا. إلى ذلك كله، أنا كمسيحي من جبل لبنان لا تجتذبني أو تستهويني الشعارات الخارجية. تهمني المشكلات الداخلية قبل الملف النووي الإيراني والثورة السورية. قد تكون لتيّار المستقبل خصوصية معينة تحمله على اتخاذ موقف مؤيد للثورة في سوريا وشعار لشدّ العصب، ولا أريد الخوض فيها. لكن بالتأكيد لا تقع الثورة السورية في صلب اهتمامات المسيحيين، ولا تدخل في اهتماماتهم شأن إنماء مناطقهم ووقف هجرتهم وضمان سلامتهم والعيش الكريم. أقول ذلك عن شعار انتخابات 2013، كما أقول عن التذرّع بالثورة السورية لتأجيل الانتخابات. موقفي واضح، وهو تحييد لبنان عن أزمات المنطقة ومحاورها قدر ما يسعنا، واحترام مقتضيات الوحدة الوطنية والاستحقاقات الدستورية. يقتضي عدم ربط هذين الشرطين بأحداث المنطقة، وتالياً رفض تأجيل الانتخابات أو تعطيلها بسبب سوريا أو سواها ممّا يجري في المنطقة، والإصرار على إجرائها في موعدها».

يتجنّب الجميّل تحديد رأيه في قانون الانتخاب في ظلّ تناقض مواقف حلفائه: الحريري وجنبلاط يرفضان مشروع النسبية ويتمسّكان بقانون 2008، وجعجع يرفض قانون 2008 ويطلب صيغة أخرى. يعقب الجميّل: «يجب أن يحظى قانون الانتخاب بحدّ ادنى من إجماع القوى السياسية عليه، ولا يجوز تفصيله على قياس فريق دون آخر. من هنا تشاورنا الدائم في لجنة بكركي وخارجها، واللقاءات التي نعقدها مع حلفائنا وأصدقائنا في تيّار المستقبل والحزب التقدّمي الاشتراكي. المهم توافقنا مع الحلفاء الذي يدفعنا إلى التضامن مع تيّار المستقبل والحزب التقدّمي الاشتراكي في رفضهما مشروع النسبية. علينا البحث عن حلّ آخر».

  • فريق ماسة
  • 2012-05-11
  • 10661
  • من الأرشيف

الجميّل: الثورة السورية ليست في صلب اهــتمامات المسيحيين

خلافاً لشركائه في 14 آذار، لا يستخدم الرئيس أمين الجميّل الأزمة السورية لشدّ عصب المحازبين إلى انتخابات 2013. ولا يجعل من المواجهة مع النظام السوري والانخراط في حملة إسقاطه شعاراً لمعركة استعادة الغالبية. يتمسّك بالحياد عمّا يجري هناك لتجنيب لبنان ارتداداته يؤكد الرئيس أمين الجميّل مجدّداً موقفاً يُميّزه، منذ أشهر، عن حلفائه في قوى 14 آذار في مقاربة أحداث سوريا، بعدما شاركهم في شعارات التحقيق الدولي في الاغتيالات السياسية ثم المحكمة الدولية وسلاح حزب الله ــ وهي ملفات لبنانية ــ في انتخابات 2005 و2009، يبتعد عن الرئيس سعد الحريري ورئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية سمير جعجع، وكذلك عن رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط، برفضه إدخال ملف خارجي لا علاقة للبنان به في صلب استحقاق يديره اللبنانيون بأنفسهم، ولا يريدون تدخّل الآخرين فيه هو انتخابات 2013. يفصل الجميّل تماماً بين الانتصار في انتخابات 2013 واستعادة الغالبية النيابية، وبين الانتصار على الرئيس بشّار الأسد في المعركة التي يخوضها ضد معارضيه على السلطة في بلاده. لا يبدو الجميّل متيقّناً من سهولة إسقاط الأسد قريباً. يختلف مع حلفائه أيضاً على تسمية «المجلس الوطني اللبناني» لقوى 14 آذار ويرفضها، ويريد استعادة تجربة «لقاء البريستول» إطاراً للتحالف: «تسمية المجلس الوطني غير متفق عليها ولا أؤيدها. لسنا مجلساً وطنياً بل حركة سياسية، ولا يسعنا أن نزعم ذلك». يقول إنه لا يتوقع أن ينقز حلفاؤه من شعار الحياد الإيجابي الذي أطلقه قبل أشهر، واستفاض في الحديث عنه الثلاثاء في محاضرته في «مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية»، عندما اختار حياد اللبنانيين عن الثورة والصراع الدائر في سوريا، وتجنّب التدخّل في شؤونها لانتزاع الذرائع التاريخية لدمشق بغية التدخّل في لبنان. لا ينسى الجميّل التذكير بحقبة طويلة، بين منتصف الخمسينات ونهاية الستينات، وجّهت خلالها الأنظمة المتعاقبة هناك، قبل حزب البعث وبعده، الاتهام إلى لبنان بالتدخّل في شؤونها ورعاية المعارضين وحماية قادة انقلابات سابقة وتوفير ملاذ لهم من الملاحقة، وتحريضهم أحياناً وتسهيل اجتماعاتهم لتحضير انقلابات على الانقلابات. لا ينسى كذلك ردّ الفعل السوري بتصفية الحساب مع لبنان والتلاعب بمصيره وإرادته في مرحلة الوصاية. لا ينسى أن يذكر أن أحداً ممّن توالوا على حكم سوريا، قبل الانقلابات العسكرية وبعدها بمَن فيهم رجال المرحلة الديموقراطية بين مطلع الأربعينات وآخرها، لم يغمض له جفن عن لبنان، ويظلّ يعتقد بضراوة أنه قطعة من سوريا. شأن نظرة تاريخية مماثلة لم يتخلَّ عنها مرة حكّام العراق، على مرّ العهود، إلى الكويت على أنها قطعة منه إلى أن حدث ما حدث عام 1990. يقرأ الجميّل الجغرافيا والتاريخ على السواء عندما يحدّد موقفه من سوريا وأحداثها، على نحو ما كان خَبِره عن تماسه المباشر، السلبي والإيجابي، طوال ست سنوات رئيساً للجمهورية في قممه مع الرئيس حافظ الأسد والعلاقة المترجّحة مع نائب الرئيس عبد الحليم خدام. يقول في شرح موقفه من الحياد الإيجابي: «لا مبرّر لأن ينقز أحد من حلفائي. ولا يُوجد موقفنا مسافة معهم لأننا منسجمون مع أنفسنا. موقف حزب الكتائب جزء من تقليد درجنا عليه تاريخياً. خضنا معركة شرسة ضد الرئيس جمال عبد الناصر عام 1958. لكن ذلك لم يمنع عبد الناصر من محاورة بيار الجميّل السنة التالية وتوجيه دعوة رسمية إليه، وإجراء محادثات معه، وتقليده وشاح النيل الأكبر بعد كل الذي حدث بين الطرفين عام 1958. طوى عبد الناصر الصفحة بمبادرة منه وبلا وساطة. كذلك الأمر مع ياسر عرفات. كان بيار الجميّل محاوره الدائم في أحلك الظروف. زارنا في بيتنا في حيّ اليسوعية، وأجرينا حواراً طويلاً إبّان حرب السنتين. مع سوريا كانت الزيارات مكوكية. يزورنا مسؤولون سوريون ونزورها، بيار الجميّل وأنا وبشير وكتائبيون كثيرون من أجل مناقشة الأزمة والعلاقات اللبنانية ــ السورية. لم ينقطع الحوار بيننا وبين الإيرانيين منذ بدء المرحلة الإيرانية في لبنان عام 1985، وظللنا على اتصال مستمر بالسفارة. هذه هي قراءتنا إذاً. أياً تكن الخلافات ثمّة مصلحة لبنانية في اتخاذ موقف عقلاني غير انفعالي في مقاربة كل المشكلات الناشئة، فكيف إذاً كانت الأزمات أكبر من لبنان، طابعها إقليمي ودولي يخشى أن تجعلنا جميعاً، كلبنانيين، ضحية صراع المحاور. لبنان بلد صغير ليست لديه المقدرة على الاحتمال عسكرياً واقتصادياً، وتُضاعف تركيبته التعدّدية الداخلية من دقة الموقف والخيارات. لهذا دعوت ولا أزال إلى الحياد الإيجابي». كيف يصفه؟ يقول: «الحياد الإيجابي متحرّك ودينامي، وأميّزه عن الحياد السلبي الذي يعني التفرّج. أعني أن يستفيد لبنان من تركيبته وموقعه كي يلعب دوراً مؤثراً في خضم صراعات المنطقة، وهذا ما سعيت إليه في مؤتمر الضبية في كانون الثاني الماضي، وطرحي الشرعة ــ الإطار للأنظمة المنبثقة من الثورات العربية، وكذلك زياراتي مصر وتركيا وبلجيكا. ناقشت الأمر مع الأزهر والجامعة العربية، وعرضت في مجلس الشيوخ الإيطالي اقتراحاً بمشروع مارشال عربي من أجل العالم العربي يذكّر بمشروع مارشال الغربي على أثر الحرب العالمية الثانية، بدءاً بالتركيز على ثقافة الحرية والديموقراطية وصولاً إلى الإنماء والاقتصاد». وهل يرى سوريا دخلت الفوضى، يجيب: «أخشى أنها دخلت فعلاً مرحلة الفوضى وعدم الاستقرار. قال لي أحد الآتين من هناك أخيراً: في النهار يسيطر نظام الأسد على البلاد، وفي الليل تسيطر المعارضة. وهذا مؤشر إلى أن الأزمة الدموية طويلة، كأننا نعيش توازن الرعب بين الطرفين، وكلاهما عاجز عن حسم المعركة لمصلحته ضد الآخر. أضف عدم رغبة الدول الكبرى في التدخّل العسكري على غرار ما حصل في ليبيا. ما يجري هناك مسؤولية النظام أولاً. أردّد دائماً عبارة للسياسي الفرنسي الذائع الصيت تاليران هي أن حربة البندقية يمكن استعمالها لكل شيء سوى الجلوس عليها. قامت شرعية النظام السوري على القمع وكبت الحريات والإرادات ومنع نشوء الأحزاب، وعلى النظام الأمني وتعطيل الحياة السياسية. طبيعي أن يقود ذلك إلى هذا الكمّ من الاحتقان الذي رأيناه ولا نزال، منذ أكثر من سنة، في الثورة الشعبية هناك». يضيف الجميّل: «طبعاً أنا أخشى ارتدادات ما يحصل على لبنان الذي يتأثر كثيراً بسوريا، وخصوصاً في مثل الظرف الحالي لأسباب شتى، منها وجود مئات الألوف من العمال السوريين الذين يمكنهم نقل الصراع إلى لبنان، فضلاً عن الانقسام الحاد الذي يضرب اللبنانيين بين مؤيد لنظام الأسد ومعارض له. ماذا لو انتقل هذا الصراع بضراوة مماثلة إلى الساحة اللبنانية، وقد اختبرنا وضعاً مشابهاً في مطلع السبعينات وكانت خلفيته المعركة على المقاومة الفلسطينية بين مَن هو معها ومَن هو ضدها؟ هل يريد الشعب اللبناني فعلاً العودة إلى هذه التجربة، ومَن هو المستفيد؟ المؤسف في الوضع الراهن أن العقلانية غير مجدية وغير مرحب بها. موقفنا مستمد من تجربتنا واقتناعاتنا، ومن الثمن الباهظ الذي دفعناه بسبب صراعات الغير على أرضنا، وإقحام أنفسنا في صراعات أكبر منا من دون أن نكون قادرين على التأثير فيها». لا يلمس أي تناقض بينه وبين الحريري وجنبلاط وجعجع في الموقف من سوريا. لم يفاتحه أي منهم في التمايز «لأن الجميع يعرف الجميع. هم يعرفوننا تماماً. تحالفنا قائم على معرفة أحدنا بطروحات الآخر وتوجّهاته. وهذا عنصر غنى لفريق 14 آذار. لسنا من المؤسسات الأحادية الاتجاه والمتحجّرة، بل فسيفساء على مثال لبنان وصورته، خصوصاً وأن المواقف لا تتناقض في جوهرها. لا خلاف على الإطلاق على المبادئ. جميعنا نرى أن النظام في سوريا يجب أن يتغيّر، وأن الحرية والديموقراطية ينبغي عودتهما إلى هذا البلد بعد طول اغتراب، وأن السياسة التي يتبعها المحور السوري ــ الإيراني مضرّة بمصلحة لبنان واستقراره، في حين أن التباين بيننا وبين حلفائنا يكمن في التفاصيل والمنهجية. ما يجمعنا أقوى ممّا يُفرّقنا. بل نلاحظ أن عدداً من قيادات 14 آذار يعود في مناسبات شتى ــ وما أكثرها ــ إلى الطروحات نفسها التي نقول بها في حزب الكتائب. وليد جنبلاط يعود إلى هذا التوجّه أحياناً، وكذلك الرئيس فؤاد السنيورة يلتقي في معظم الأحيان مع مواقفي في عدم إقحام لبنان في صراعات ونزاعات أكبر منه». يُعارض الجميّل طرح الأزمة السورية و«إسقاط النظام» شعاراً لانتخابات 2013 على نحو الحريري وجنبلاط وجعجع: «طبعاً لا أؤيد هذا الشعار للانتخابات النيابية، بل أريد شعار لبنان أولاً والتركيز على الشأن اللبناني. هناك ما يكفي من المشكلات الداخلية التي يعاني منها المواطن في حياته اليومية. حرّي إذاً أن لا نقحمه في استحقاق دستوري في قضايا لا تعالج مشكلاته، وقد تلهيه عنها وتتسبّب في مضاعفة الانقسام الداخلي. هل يسعنا تجاهل المشكلات المزمنة للضمان الاجتماعي والكهرباء والاستشفاء والبطالة والرواتب والتربية والشيخوخة والغلاء وحال الطرق والفساد المستشري والهجرة، وسواها من الأزمات التي باتت لا تحصى. لدينا ما يكفي منها كي نستمدها شعاراً لانتخاباتنا. إلى ذلك كله، أنا كمسيحي من جبل لبنان لا تجتذبني أو تستهويني الشعارات الخارجية. تهمني المشكلات الداخلية قبل الملف النووي الإيراني والثورة السورية. قد تكون لتيّار المستقبل خصوصية معينة تحمله على اتخاذ موقف مؤيد للثورة في سوريا وشعار لشدّ العصب، ولا أريد الخوض فيها. لكن بالتأكيد لا تقع الثورة السورية في صلب اهتمامات المسيحيين، ولا تدخل في اهتماماتهم شأن إنماء مناطقهم ووقف هجرتهم وضمان سلامتهم والعيش الكريم. أقول ذلك عن شعار انتخابات 2013، كما أقول عن التذرّع بالثورة السورية لتأجيل الانتخابات. موقفي واضح، وهو تحييد لبنان عن أزمات المنطقة ومحاورها قدر ما يسعنا، واحترام مقتضيات الوحدة الوطنية والاستحقاقات الدستورية. يقتضي عدم ربط هذين الشرطين بأحداث المنطقة، وتالياً رفض تأجيل الانتخابات أو تعطيلها بسبب سوريا أو سواها ممّا يجري في المنطقة، والإصرار على إجرائها في موعدها». يتجنّب الجميّل تحديد رأيه في قانون الانتخاب في ظلّ تناقض مواقف حلفائه: الحريري وجنبلاط يرفضان مشروع النسبية ويتمسّكان بقانون 2008، وجعجع يرفض قانون 2008 ويطلب صيغة أخرى. يعقب الجميّل: «يجب أن يحظى قانون الانتخاب بحدّ ادنى من إجماع القوى السياسية عليه، ولا يجوز تفصيله على قياس فريق دون آخر. من هنا تشاورنا الدائم في لجنة بكركي وخارجها، واللقاءات التي نعقدها مع حلفائنا وأصدقائنا في تيّار المستقبل والحزب التقدّمي الاشتراكي. المهم توافقنا مع الحلفاء الذي يدفعنا إلى التضامن مع تيّار المستقبل والحزب التقدّمي الاشتراكي في رفضهما مشروع النسبية. علينا البحث عن حلّ آخر».

المصدر : الاخبار/نقولا ناصيف


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة