دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
قليلة إلى حد الندرة هي الأشياء المؤكدة هذه الأيام بشأن الوضع في الوطن العربي وبشأن الموقف الأميركي ازاء هذا الوضع، باستثناء عدم ثقة اميركا بقدرة المعارضة السورية على تحقيق انتصار حاسم على الدولة السورية.
وقد وصل الأمر إلى حد تخشى معه أميركا أن التدخل الاميركي – الاطلسي في سورية ـ بقرار مؤيد من الأمم المتحدة او بدون هذا القرار ـ لا يضمن للمعارضة السورية القدرة على التغلب على الدولة السورية. وهذا ما يصرح به المسؤولون الاميركيون، بل والناطقون بلسان المعارضة السورية في باريس وغيرها من العواصم، إلا ما يقوله المعارضون السوريون في عواصم الوطن العربي. فهؤلاء تنطق تصريحاتهم ببيانات مغايرة تماماً لتلك التي تنطلق خارج المنطقة العربية. ولهذا تبدو المعارضة السورية، التي تصورها تصريحات الناطقين بلسانها، في العواصم العربية مختلفة تماما عن المعارضة السورية التي تكشف انقساماتها ونقاط ضعفها تصريحات الناطقين بلسانها في العواصم الغربية.
يضاف الى هذا الاختلاف البالغ الدلالة صمت "الأطلسي" البالغ الدلالة ايضا بشأن أحداث سورية وبشأن المعارضة السورية. مع أن الحلف الغربي بقيادة الولايات المتحدة يملك خبرات واسعة وعميقة تراكمت مع اتساع دوره في بلدان يوغوسلافيا السابقة (ما كان يسمى في حينه حرب كوسوفو في اواخر التسعينيات من القرن الماضي) وتأكيد هذا الدور في ليبيا.
المسألة بالنسبة لسورية لا تدعو واشنطن أو بروكسل إلى الاطمئنان إلى دور يتحتم على المعارضة السورية القيام به لكي تستطيع القوات الأميركية والأطلسية ان تؤدي الدور الذي كانت تستعد للقيام به. وبطبيعة الحال فإنه ليس في الوضع العربي العام ما ينبئ بأن مواقف عربية معينة تحول دون التدخل في سورية عسكرياً بشكل مواز للتدخل السياسي. بل الواقع إن موقف الجامعة العربية والامم المتحدة اختلفت بداياته عن نهاياته نتيجة لما بدا من ضعف المعارضة السورية وانكماش قدرتها في مواجهة الدولة السورية (النظام السوري وفقاً للتعبير السائد في الاعلام الرسمي وغير الرسمي في البلدان العربية).
وصل الأمر إلى حد أن الناطقين بلسان المعارضة السورية في عواصم الغرب أبدوا مخاوفهم من انه بشأن سورية بالذات تبدو القيادات العسكرية في الولايات المتحدة أكثر انغماساً في التفكير بتجاربها الأليمة السابقة للتدخل العسكري في فيتنام وفي كوبا وغيرهما، منها بالتفكير في تجربتها الناجحة في ليبيا مؤخراً. كما ان الهزائم المتوالية لقوات المعارضة السورية في الداخل ـ وعلى الرغم من استمرار الإمدادات بالأموال والأسلحة من المملكة السعودية ومن قطر والإمارات وغيرها ـ حملت الولايات المتحدة وقيادة "الأطلسي" على التفكير في سيناريو مختلف لما يمكن ان يحدث في سورية: "إن جماعات المعارضة تصبح اكثر إدراكاً بأن فرصتها الأفضل في تغيير ذي مغزى لا تكمن في القتال العسكري الذي ستخسره بالتأكيد والذي سيؤدي إلى قتلها إلى جانب فقدانها الدعم والمصداقية، انما عن طريق المفاوضات والمشاركة في عملية اصلاحية وفي الحوار الذي عرضته الحكومة". (الباحث الأميركي دان غلازبروك في موقع "انفورميشن كليرنغ هاوس" على شبكة "الإنترنت" بتاريخ 5 /5 / 2012).
ويرجح الباحث الاميركي هذا الاحتمال: "نهاية للحرب الاهلية وصلح عن طريق التفاوض الذي يؤدي الى عملية إصلاحية من دون زعزعة استقرار البلد، بأنه هو الاحتمال الذي ادى الى اليأس بين القوى الامبريالية. فعلى الرغم من زعمها بنقيض ذلك فإن آخر ما تريده هو عملية تؤدي الى سوريا مستقرة، لأن هذا الاحتمال يترك الباب مفتوحاً لإمكانية ان تبقى سوريا دولة قوية مستقلة ومناهضة للامبريالية. وهذا على وجه التحديد ما تريد هذه القوى الامبريالية ان تزيله. من هنا وخلال ايام من كسب خطة كوفي انان استجابة إيجابية من كلا الطرفين في أواخر آذار/ مارس الماضي تعهدت القوى الامبريالية للمرة الاولى بملايين الدولارات لـ"الجيش السوري الحر".
ان مثل هذه التحليلات لا تجد طريقها الى النشر في الاعلام العربي الذي يستمر في تصوير الوضع في سورية بصورة مغايرة للمسار الحقيقي الذي تصوره كتابات مثل تلك التي صاغها الباحث الاميركي غليزبروك. وأخطر ما في هذه الكتابات ما تؤكده عن اهتمام الغرب بمواصلة نزف الدم والطاقة في سورية، ليس فقط بهدف استمرار الصدامات المسلحة في سورية، انما بهدف مواصلة إضعاف سورية وتبديد طاقاتها. وهذا يفسر تبني الولايات المتحدة و"حلف الاطلسي" استراتيجية استمرار الامر الواقع وليس استراتيجية تغيير هذا الامر الواقع لصالح اي من الطرفين المتصارعين في سورية.
ان الاستراتيجية الأميركية – الأطلسية تواجه الآن احتمالات الفشل بسبب ما تراقبه من اختلافات بين قوى المعارضة السورية في الداخل وفي الخارج. وأخطر ما تراقبه هذه الاستراتيجية الاختلاف بين معارضة سورية تريد ان تعمل من داخل الاراضي التركية وبدعم من الولايات المتحدة و"حلف الاطلسي"، ومعارضة ترفض هذا باعتبار ان نشاطها من داخل الاراضي التركية يفقدها القدرة على العمل من دون الرضوخ لتوجيهات الحكومة التركية، ويفقدها بالتالي اي تأييد او حتى احترام يمكن ان تأمل فيه من جانب الشعب السوري.
مع ذلك، فإن صانعي القرار الغربيين يصرون على إفشال اي اتفاق يمكن التوصل اليه لوقف إطلاق النار بين الدولة السورية والمعارضة، مهما كان رأي المعارضة السورية، وبالطبع مهما كان رأي الحكومة السورية، فإنهم يضعون نصب اعينهم ان يستمر نزف الدم السوري ونزف الطاقة السورية. ووراء هذا الهدف يأتي التطور الاخير الذي تمثل في تمكين مرتزقة اجانب من دخول الاراضي السورية، من اجل القيام بدور اصبحت أقسام من المعارضة السورية ترفضه. وقد ذكرت صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية ان هذه الخطة الجديدة لإدخال عناصر اجنبية الى سوريا لخوض معارك ضد الدولة السورية يتم تنفيذها بواسطة روبرت فورد السفير الاميركي في دمشق. ولكي تؤكد الصحيفة الاميركية صحة معلوماتها عن هذه الخطة فإنها تذكّر قراءها بأن السفير فورد هو من أتباع جون نيغروبونتي. اما من هو نيغروبونتي فهو الدبلوماسي الاميركي السابق الذي نظم استخدام وحدات القتل التي حملت اسم "الكونترا" عندما كانت الخطة الاميركية تنفذ لزعزعة استقرار نيكاراغوا في الثمانينيات من القرن الماضي. وتؤكد "واشنطن بوست" ان السفير فورد ينظم جماعات مماثلة في سوريا في الوقت الحاضر، وهو نفــس ما فعله في ســوريا ايضا في العام الماضي لأغراض ممـاثلة. كما تؤكد الصحيفة ان هذه الجماعات الأجنبية التي تجند الآن في سوريا على يد الاميركيين والتي يمكن ان نطلق عليها ايضاً وصف "الكونترا" هي المسؤولة عن التفجيرات الوحشية التي حدثت في كل من دمشق وحلب في الاسابيع الماضية.
مع ذلك يبدو ان حالة الإحباط التي اصابت المعارضة السورية آخذة في الازدياد لأن الخطط الأميركية والأطلسية لا تولي اهتماماً او اعتباراً بسمعة المعارضة السورية من وراء استخدام "الكونترا" الأجنبية، الامر الذي لا يتطابق مع رؤية بعض قوى المعارضة السورية، وخاصة القوى التي ارادت وأعلنت بوضوح إنها تؤيد خطة كوفي أنان لتحقيق وقف حقيقي لإطلاق النار في سوريا. وبطبيعة الحال فإن خطة "الكونترا"، التي تشرف على تنفيذها الدبلوماسية الاميركية السرية، تزيد من اتساع الهوة بين جماعات المعارضة السورية في الداخل وجماعات المعارضة في الخارج. وكتب المعلق السياسي الاميركي جون غليزر (وكالة "اسوشييتد برس" الأميركية للأنباء في 4/ 5/ 2012) إن إحدى حركات المعارضة السورية النشطة تدعو الآن لوقف الصراع المسلح وتدعو بشكل خاص الجماعات المعارضة لإلقاء اسلحتها والعودة للالتزام بالاحتجاج السلمي. مع ذلك ـ يمضي غليزر ـ "فإن بعض جماعات المعارضة المسلحة لا تزال ترفض وضع أسلحتها جانباً وتعلن صراحة تطلعها الى تدخل دولي. في الوقت نفسه تعلن ادارة الرئيس اوباما اعتقادها بأن وقف اطلاق النار الذي تتوسط فيه الامم المتحدة آخذ بالفشل…".
الى هذا الحد يتناقض ما تنشره الصحافة الاميركية، وما ينشره الاعلام الاميركي بوجه عام، عن الصـراع الدائر في سوريا وعلى سوريا، مع ما ينتـشر في الاعلام العربي ـ ليس فقط في الاعلام السعودي والخليجي وإنما في الاعلام المصري بالمثل، حيث يبدو الصراع السوري الجاري تعبيرا عن ثورة شعبـية، وحيث يبدو ان الاحتمالات تشير الى نهاية حـتمية واحــدة هي نهاية النظام السوري، وأما بعد ذلك فإن الاعــلام العربي ـ مع استثناءات قليلة للغاية ـ لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم (…).
لا يزال الاعلام العربي في مجمله يتحدث عن "أصدقاء سوريا"، بينما الإعلام الغربي يجاهر صراحة بأن "اصدقاء سوريا ليسوا اصدقاء الشعب السوري"، وفقاً لما قاله موقع "آكسس اوف لوجيك" على شبكة الانترنت في 2/ 5/ 2012). وفي هذا التحقيق نفسه تظهر اسرائيل بين "اصدقاء سوريا" ومعها ـ بطبيعة الحال ـ الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والمملكة السعودية وتركيا وقطر والكويت والاردن ومصر والبحرين. وهي جميعاً بوصف هذا الموقع "دول قمعية ومنتهكة لحقوق الانسان… لقد دعمت الولايات المتحدة وحلفاءها ولا تزال مستمرة في دعم اكثر نظم الحكم قمعية وارتكاباً لجرائم القتل على كوكب الارض". ان من المهم ان نتذكر ان "اصدقاء سوريا" هم نفس الاصدقاء الذين تواطأوا مع الرئيس الاميركي السابق جورج بوش في غزو وتدمير العراق.
ان تحيز الاعلام العربي ـ في مجمله ـ لخيبة الامل الاميركية وضد الشعب السوري ومصالحه ومستقبله ليس من شأنه ان يغير شيئا من الواقع. ولكن الحقيقة ستتضح وتسطع حين تعطي الاحداث ختاماً مختلفاً عن توقعات الإعلام العربي لما يجري من صراع في سوريا وخارجها. ربما لا يتضح الا امر واحد وهو ان الاعلام العربي يضع نفسه على قائمة "اصدقاء سوريا"(…).
المصدر :
السفير : سمير كرم
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة