سقوط امبراطورية  مملكة الوهم

بيار أبي صعب

 

بعد فورة التسعينيات الفضائيّة، عرف العرب نوعين من التحرّر. الأوّل «اجتماعي» مع محطّة lbc التي انتصب لها الخليج سيفاً واحداً، تحيّة للحسناوات الخفيفات اللبس والاستعراض والبوح الملتهب والاغراء. وبعد هذه السنوات، جاء الرأسمال السعودي والتهم بشبق الفضائيّة اللبنانيّة المذكورة. أما التحرّر الثاني في المشهد الفضائي العربي، فجاء «سياسيّاً»، مع «الجزيرة» التي فرضت نفسها في وقت قصير اقليميّاً ودوليّاً. إنّها قصّة أليس في بلاد العجائب. في الدولة الصغيرة الغنيّة، تفتّحت تجربة اعلاميّة مثيرة، تراهن على الاختلاف والجرأة والمهنيّة. من التغطية المغايرة للحدث إلى رفع لواء «الرأي الآخر»، تشكّل اعلام بديل لم يكن يتخيّله مشاهدو التلفزيون الرسمي، من المحيط إلى الخليج.

 

الاختراع المحيّر صار مرجعاً للفرد العربي المتعطّش لكشف المسكوت عنه، ومتابعة الجدل السياسي ولو استعراضيّاً. كيف بوسع نظام سياسي لا يختلف عن أنظمة الجوار، أن يفتح تلك الثغرة «التقدميّة»؟ غضّ كثيرون النظر عن الخلطة الغريبة في المكوّنات السياسيّة للمحطّة: من «بعث» (عراقي) آنذاك، و«ليبراليّة» مشرّعة على إسرائيل في فترة ما، إلى الاتجاه الاسلاموي الذي ابتلع كل ما عداه.

ما همّ؟ صار للعرب محطّة تضاهي الـ CNN، وتنظر إلى الأحداث من زاوية أخرى. من الحرب الأميركيّة ـــ البريطانيّة على العراق إلى العدوان الاسرائيلي على لبنان ثم غزّة… وصولاً إلى الانتفاضتين التونسيّة والمصريّة، كان التاريخ يتشكّل مباشرة على «الجزيرة». ثم اكتشف النظام القطري هواية جديدة، وقرّر أن يصبح سبونسور «الثورة» العربيّة. مرّت المحطّة فوق ربيع المنامة مثل الدبابات السعوديّة، لـ«تقود» حركة التغيير في سورية. بسرعة بدأت الزلات المهنيّة التي تحوّلت انحرافات متعمّدة، فتزييفاً منهجيّاً للحدث كما تثبت الوثائق والتصريحات التي تسرّبت في الأسابيع الأخيرة. ليس أن النظام السوري بمنأى عن الاستبداد والقمع، لكن «فجور» الخطاب الاعلامي جاء يسرق من الشعب انتفاضته. على صخرة المأساة السوريّة تكسّرت مملكة الوهم، وعادت المحطّة إلى حجمها الطبيعي. فجأة انتبه المشاهدون إلى أنّهم أمام اعلام رسمي يشبه ما نراه في سائر الأنظمة الشموليّة، بل يفوقها خطورة بحكم التجربة والصيت وادعاءات الاستقلاليّة والموضوعيّة. اليوم تتواصل الفضائح والاستقالات، ليبقى في ذاكرة الاعلام العربي المعاصر، جرح غائر اسمه «الجزيرة».                  

فادي سلامة يصرخ: كفى تزويراً للحقيقة!

وسام كنعان

أجواء غير صحية ومتوتّرة. هكذا يصف مصدر في «الجزيرة» المناخ الذي يعمل فيه موظفو القناة القطرية هذه الأيام. لقد جاءت الأزمات والفضائح المتلاحقة لتطيح حلماً راود كثيرين حول محطة عربية حديثة تخرج عن القاعدة ولا تكون ذراعاً إعلامية للسلطة التي تملكها. آمال كبيرة بناها متابعو القناة القطرية قبل أن تتوالى الفضائح عن الفبركات والتزييف الذي مارسته قناة «الرأي والرأي الآخر» في سورية وسلسلة الاستقالات التي توالت من العاملين في المحطة احتجاجاً على أدائها والحديث عن استقالات جماعية أخرى في الطريق .

وفي الفترة الأخيرة، عقدت اجتماعات عديدة في أروقة المؤسسة لتقييم الوضع على وقع الفضائح التي خرجت إلى العلن. لكن يبدو أنّ كل هذه الاجتماعات لن تفيد في انتشال المحطة من حالة التخبط التي تعانيها مع إطالة أمد الأزمة السورية.

وفي آخر التطوّرات، حصلت «الأخبار» على نسخة من رسالة بعثها مراسل القناة في طوكيو الإعلامي السوري فادي سلامة ضمن نظام الـ Talkback أي مساحة الرأي الخاصة بموظفي المحطة. هنا، شكا الإعلامي السوري طريقة تعامل «الجزيرة» مع الشأن السوري، انطلاقاً من قريته (العثمانية) وتجربته الشخصية. يقول في الرسالة المؤرخة بتاريخ 5 آذار (مارس) 2012: «في قريتي ستة من أبناء عمي قتلوا، واثنان اختفيا بعدما ظهرا على قناة «الجزيرة» على أنهما منشقّان هما عزيز وبشار  عزيز والد لخمسة أطفال، كان صوته يتهدّج خوفاً وهو يقول ما تم تلقينه وظلّ بندقية وراء رأسه  في قريتي آخر القتلى كان ابن عمتي أحمد، وجدت جثته في مكب للقمامة في حمص مقطعة الأطراففي قريتي يحبّون الأسد  وسخر سلامة من سياسة المراسلين غير الرسميين للمحطة أي الناشطين المعارضين الذين يزوّدونها بالأخبار، قائلاً: «مراسلو «الجزيرة» إذاً في سورية يلتزمون المعايير التحريرية والموضوعية والحيادية وتقديم الرأي والرأي الآخر، أشدّ على أيديهم وأدعوهم إلى زيارة قريتي ففيها الكثير من القصص الجميلة».

هكذا، وضع مراسل «الجزيرة» يده على الجرح وحض شبكة الناشطين التي تأخذ على عاتقها تقديم الأخبار للمحطة القطرية على زيارة الأماكن المنكوبة والاطلاع على حقيقة ما يجري من قتل وضرورة الانتباه إلى أنّ الأسد ما زال يحظى بمؤيدين من دون أن يتمكّن صوت هذا المراسل من تغيير شيء في سياسة محطته. وتقول مصادر من داخل المحطة لـ«الأخبار» إنّ الوضع السوري صار الشغل الشاغل لموظفي القناة، وإن الأحداث الواردة من الشام باتت تسيطر على كل الاحاديث الدائرة في أروقة المؤسسة، فلا يجتمع شخصان إلا ويكون ثالثهما الوضع السوري. وتضيف المصادر أنّ لا أحد من مديري القناة يملك أجوبة شافية حول ما يحصل، ولا أحد قادر على الردّ على علامات الاستفهام الكثيرة التي يرسمها عدد كبير من فريق «الجزيرة» الذي ضاق ذرعاً بما تفعله محطته. وقد خال بعضهم أنّ التعاطي مع الملف السوري سيتغيّر بعد إطاحة المدير العام للشبكة وضّاح خنفر إثر فضيحة «ويكيليكس» الشهيرة. لكنّ شيئاً لم يتغيّر، فالأمر مرتبط بالسياسة الخارجية القطرية تجاه سورية.

وضمن سلسلة الاجتماعات التي تدعو إليها إدارة «الجزيرة» لمناقشة الأزمة السورية، كشفت لنا مصادر أنّ اجتماعاً عُقد في الدوحة بين الثامن والعاشر من الشهر الجاري وشمل مديري مكاتب المحطة في العواصم المختلفة. في ذلك الاجتماع، تعالت أصوات المديرين، ووُصف الاجتماع بالعاصف في ظل الانشقاق الحاد في الرأي بين موظفي القناة تجاه الملف السوري. وتنقل المصادر عن أحد مشرفي التحرير في المحطة قوله إنّ الخطأ القاتل الذي ارتكبته القناة في الشأن السوري «أننا استنفدنا كل خططنا من أجل إسقاط النظام في سوريا لكن الأسد فاجأنا بصموده». وتابع أنّ سيناريو تونس ومصر وليبيا سقط فعلياً في سوريا! بينما لم ينكر سقوط القناة المدوي في البحرين وصمتها إزاء ما يجري هناك، واعترف بأنّ التوجهات السياسية هي التي تحكّمت كلّياً بالتغطية الإعلامية للقناة القطرية، ثم ختم حديثه متأسفاً: «في الحقيقة، على «الجزيرة» أن تعمل الآن لسنوات وسنوات كي تستعيد ثقة العرب وتعود لمنافسة كبرى القنوات».

هكذا بعدما بذلت المحطة جهوداً حثيثة منذ انطلاقها عام 1996 حتى بنت لنفسها قاعدة جماهيرية صلبة وحصدت نجاحات متتالية وحازت ثقة شريحة الجمهور، ها هي تقامر من أجل تنفيذ أجندات حكومة بلادها وتدخل في نفق مظلم لعلّه يشي بنهاية حلم اسمه «الجزيرة».

شريط الفضائح بدأ مع وضّاح خنفر

وسام كنعان

منذ انطلاق «الجزيرة» عام 1996، توجّهت إليها أنظار المشاهدين العرب الذين سئموا اللغة الخشبية للقنوات الحكومية. سرعان ما فرضت القناة القطرية نفسها في المشهد الإعلامي بفضل حيويتها، وتغطياتها الحصرية وانتشار مراسليها في مكان الحدث ومواكبته بالصوت والصورة. هكذا، كونت قاعدة شعبية وجماهيرية، متجاوزةً كل الانتقادات التي اتهمتها بالتطبيع مع إسرائيل، وتحويل شاشاتها منبراً للأميركيين لتبرير حروبهم، وخصوصاً بعدما تعرّضت مكاتبها في أفغانستان والعراق للقصف الأميركي. ونسي كثيرون أنّ مَن يملك القناة ليس سوى نظام يستقبل أكبر قاعدة عسكرية أميركية في الشرق الأوسط.

لكنّ الثورات العربية وضعت «الجزيرة» على المحك. بدأ العد التنازلي لسقوط مدوٍّ تلخّص في الانحياز الفاضح، وسياسة الكيل بمكيالين. وفي مقابل تجاهل البحرين، وقعت المحطة في حالة تخبط خلال الأيام الأولى للانتفاضة السورية. بعد ذلك، مضت قدماً في دعم الانتفاضة إلى مرحلة التزوير والتحريض والفبركة الواضحة.

هكذا، أعلنت حربها الإعلامية على دمشق، معتمدة على ما تيسّر لها من مقاطع فيديو عُرضت على الشبكات المعارضة التي تسهل فبركتها، واستعانت بالشهود العيان الذين لا يكشفون أسماءهم الحقيقية ولا يمكن الوثوق بكلامهم. فقد سبق أن بثت «الجزيرة» مئات الأخبار عن تظاهرات حاشدة في مناطق لم تشهد أي تجمّعات وبالغت في عدد القتلى والجرحى، ثم أوردت مرة خبراً عن وصول المتظاهرين إلى ساحة العباسيين وتحليق كثيف للطائرات فوقهم، رغم أنّ الحياة كانت طبيعية بنحو كامل في الساحة الشهيرة.

كل ما سبق لم يكن سوى مقدمة لقنبلة مدوية أسقطت القناع عن «الجزيرة» وفضحت الدور الذي أنشئت من أجله المحطة وفسّرت سبب صعودها الصاروخي مترافقاً مع سطوع نجم المدير العام السابق للشبكة الإخواني الهوى وضاح خنفر الذي حصد إعجاباً كبيراً وعداوات بالجملة، رغم دبلوماسيته وحنكته وخبرته السياسية. لكنّ وثائق «ويكيليكس» (الأخبار عدد ١٠ أيلول/ سبتمبر ٢٠١١) جاءت لتميط اللثام عن تلقّي خنفر التعليمات من الاستخبارات الأميركية. الوثائق الدامغة وما أعقبها من تغطيات إعلامية أجبرت عميد محطة «الجزيرة» على الاستقالة، لكنّه خرج ليُعلن أنّه لم يُقَل بل اختار الاستقالة للتفرغ لمشاريع أخرى. وفي ظل تجاهل قناة «الرأي والرأي الآخر» للفضيحة التي أجهزت على شعارها، تتالت الفضائح. كان الاختراق الذي حققه الجيش السوري الإلكتروني لنظام البريد الإلكتروني الخاص بالمحطة (الأخبار» 24 شباط/ فبراير 2012) ودخوله الرسائل التي تبادلها مراسل بيروت السابق علي هاشم والمذيعة السورية رولا إبراهيم مجرد حلقة في مسلسل فضائح لا ينتهي. يومها، أكّدت المذيعة السورية في رسائلها أنها باتت مرتدة على الثورة وشاهدة على إعلام التحريض الذي يهدف إلى تنفيذ أجندة واضحة في سوريا. وفي ردّه عليها، وافقها هاشم الرأي، وقال إنّه فضل الوقوف على الهامش بعدما أرسل للقناة صوراً عن المسلحين وهم يشتبكون مع الجيش السوري بالقرب من وادي خالد، لكنّها لم تعرض، بل طُلب منه العودة إلى بيروت فضلاً عن اتهامه بأنّه شبيح! أمام هذه الفضيحة، اتبعت المحطة سياسة التجاهل نفسها، وخصوصاً أنّه لا يمكن نفي هذه الواقعة المدعّمة بالوثائق. وأخيراً، توالت استقالات إعلاميين وعاملين في فريق «الجزيرة»، بدءاً من مدير مكتب بيروت غسان بن جدو (عُيِّن مكانه الجزائري عياش دراجي)، مروراً بعلي هاشم وموسى أحمد وانتهاء باستقالة تتكتم عليها المحطة لنحو عشرة إداريين في مكتب الدوحة، وأنباء عن استقالات جماعية تعدّ على نار حامية لمجموعة من الإعلاميين، واحتمال عقدهم مؤتمراً صحافياً يتحدثون فيه عن الضغوط التي تمارسها عليهم إدارة المحطة.

من جهة أخرى، لم يقف الأمر عند سلسلة الاستقالات التي لمّحت بنحو مباشر أو غير مباشر إلى أنّ السبب وراءها كان التغطية التحريضية في سورية والصامتة في البحرين. فاجأ تلفزيون «الدنيا» («الأخبار» عدد ٧ آذار/مارس ٢٠١٢) مشاهديه ببث شرائط تظهر مراسلي المحطة غير الرسميين والناشطين السوريين الذين يتعاملون معها وهم يفبركون رسائلهم. هكذا، ظهر مراسل القناة غير الرسمي في بابا عمرو خالد أبو صلاح في غرفة تبدو كأنّها ملحق لمستشفى ميداني. ويبدو في الشريط وهو يلقّن طفلة مضمدة وطبيب شهادات معدة سلفاً من أجل تلاوتها على الهواء وهو ما حصل وتابعه مشاهدو المحطة القطرية... إذاً، وسط حفلة فضائح انتشرت رائحتها في كل مكان، واصلت المحطة القطرية سياستها التحريضية، لتتحوّل ذراعاً إعلامية للسياسة القطرية تجاه سوريا.

 

البروباغندا الجامحة حجبت (حتى) المسجد الأقصى

مع بداية الأحداث السورية في آذار (مارس) 2011، تعاملت «الجزيرة» بحذر شديد مع هذا الملفّ. لكنّ زيارة خاطفة قام بها وزير خارجية قطر حمد بن جاسم لدمشق، للتشاور مع نظرائه في بداية الأحداث، قلبت الموازين وأعلنت القطيعة النهائية بين النظام السوري والحكومة القطرية.

هنا، دخلت «الجزيرة» مرحلة مختلفة في التعاطي مع الانتفاضة السورية، سرعان ما حوّلتها إدارة المحطة إلى ثورة حقيقية، تصدرت أحداثها وتفاصيلها النشرات الإخبارية. تناولها المفكر عزمي بشارة في برنامجه «حديث الثورة» الذي كان يبث مساء كل يوم جمعة، شارحاً ومفصّلاً حقائق وخفايا كثيرة لمتابعي المحطة، بعدما كان يتجاهل الشأن السوري ويتهرّب من أسئلة المذيع. وتوالت استقالات المذيعين والإعلاميين في المحطة التي بدأت رحلة ابتعادها عن المهنية ودخولها في وحول السياسة. وربما غُفر للقناة أخطاؤها اليومية بأسماء المناطق والجهل الواضح بجغرافية البلد الذي توليه الأهمية والمساحة الكبرى من تغطيتها. مثلاً، أذاعت خبراً لم يفلت من المبالغة والتهويل عن انفجار مدوٍّ في «مقر قيادة حزب البعث في الميدان» وسط دمشق، بينما كانت الحقيقة هي انفجار قنبلة صوتية بالقرب من مبنى فرع الحزب في منطقة المزرعة، إضافة إلى بث أخبار كاذبة تؤكد أنّ السوريين ينفذون إضراباً عاماً في مختلف المحافظات، وعرضها لشريط يظهر الرئيس السوري بشار الأسد وهو يخطب أمام عشرات الأشخاص في فيديو مفبرك صوِّر قبل توافد المؤيدين للنظام إلى ساحة الأمويين في كانون الثاني (يناير) الماضي واتهام الإعلام السوري بأنه فبرك عداد المتظاهرين في الساحة...

ومع دخول الأزمة السورية عامها الثاني، افتتحت «الجزيرة» مرحلة جديدة في تعاطيها مع الملف، لا تبتعد كثيراً عن سياسة الحكومة القطرية التي أعلنت صراحةً انحيازها الكامل إلى المعارضة السورية وتبنّيها المجلس الوطني السوري، ودعمها لما يسمّى الجيش السوري الحر. فعلت ذلك من خلال تقارير كثيرة عرضتها ضمن نشراتها الإخبارية، وصوِّرت في معاقله وبين مجموعاته، لتؤكّد نزاهته ووطنية عناصره، متجاهلة الشهداء الذين سقطوا في العمليات التي نفذتها المجموعات المسلحة، أو تغطية التفجيرات التي تعرضت لها دمشق، ومدينة حلب أخيراً. أما خبر اقتحام القوات الإسرائيلية للمسجد الأقصى في الشهر الماضي والاعتداء الإسرائيلي على غزة منذ أسابيع، فلم تولهما القناة أهمية تذكر. وحدها، أحداث «الثورة السورية» كما تريدها «الجزيرة» بقيت الحدث الأبرز الذي تصدّر نشراتها الإخبارية حتى اللحظة.

رولا إبراهيم: الإعلاميّة الضحية

وسام كنعان

منذ اندلاع الانتفاضة السورية، وقعت المذيعة رولا إبراهيم بين فكي كماشة. لم تستطع محاباة النظام وقمعه للتظاهرات السلمية والصمت عن المجازر، لكنّها لم تتمكن أيضاً من تجاهل تجاوزات «الجزيرة» ونهجها التحريضي في التعاطي مع الملف السوري. وبين هذا وذاك، تبدو الإعلامية السورية كالكثير من أبناء بلدها الذين خسروا طرفي المعادلة بسبب اعتدالهم وحرصهم على قول الحقيقة. منذ نحو عام، تتعرض إبراهيم لمجموعة ضغوط بدأت بمطالبتها بالاستقالة من «الجزيرة» والاعتداء على أملاكها وحرق منزلها في طرطوس وانتشار دعوات بسحب الجنسية منها على مواقع التواصل الاجتماعي. في المقابل، انتشرت صفحات على فايسبوك تدعمها مثل: «رولا إبراهيم صوت يرفض الصمت».

ومع استمرار الانتفاضة السورية وتحولها إلى مواجهات مسلحة، فجرت الوسائل الإعلامية السورية مفاجأة عند اختراق الجيش السوري الإلكتروني نظام البريد الخاص بـ«الجزيرة» وكشفه مجموعة رسائل بعثتها المذيعة إلى زميلها السابق علي هاشم في بيروت. كشفت هذه الرسائل عن الضغوط التي تعرضت لها في المحطة بسبب إحراجها الناطق الرسمي باسم الإخوان المسلمين في سوريا وتذكيرها بتهديدات الجيش الحر قبل انفجارات الميدان والحديث عن منعها من إجراء مقابلات تخص سوريا، إضافة إلى فضحها سياسة محطتها التحريضية واعترافها بأنها باتت مرتدة عن الثورة وحديثها عن العقلية الطائفية التي يتعامل بها بعض زملائها في القناة. هذا الأمر عرّضها لتهميش إضافي في المحطة. لكن ما كادت تمرّ أيام على هذه الفضيحة حتى تناقلت المواقع الإلكترونية خبراً عن اختراق صفحة رولا إبراهيم على فايسبوك ونشر رسائل وتعليقات تشتم فيها النظام السوري. ولم تفد تصريحاتها بأنها لا تملك أي حساب على الموقع الأزرق في رفع التهمة عنها أو تخفيف نقمة النظام عليها. حتى إنّ هناك أنباءً سُرِّبت لـ«الأخبار» عن توصية وجِّهت إلى المحطات الموالية للنظام السوري بالامتناع عن التعامل معها حتى لو استقالت من «الجزيرة».

إذاً، الإعلامية التي تدرجت من الإذاعة السورية ثم عملت لفترة قصيرة في تلفزيون «روسيا اليوم» قبل أن تلتحق بقناة «الرأي» الكويتية ثم تستقر في «الجزيرة» وتحقّق حضوراً وأداءًَ مميزين، تواجه اليوم المجهول. ويبدو أنّها وصلت إلى قطيعة حقيقية مع محطتها وأسلوبها التحريضي فيما تعاني من تهديد النظام والموالين له. حتى إنها دخلت في إجازة مفتوحة انتقلت فيها من الدوحة ففرنسا ثم دبي من دون أن تتضح حتى الآن وجهتها النهائية بسبب إصرارها على قول كلمة حق في زمن الباطل.

... وفيصل القاسم الرابح الأكبر

خلفت الأزمة السورية مشاكل عديدة على مختلف المستويات. لكن في المقابل، أدت دوراً في شهرة بعض الشخصيات، سواء كانت من الموالاة للنظام أو من المعارضة له، إضافة إلى رواج اسم بعض الفضائيات التي رفعت شعارات طائفية بحتة واعتمادها على شيوخ استخدموا التحريض أسلوباً وحيداً لخطاب المحطة الإعلامي.

وسط ذلك، بدا مذيع «الجزيرة» فيصل القاسم من أكثر المستفيدين إعلامياً من الأحداث السورية. بعدما وصل برنامجه الشهير «الاتجاه المعاكس» إلى طريق مسدود استنفد فيه كل أدواته، حتى صار مضطراً إلى طرح مواضيع لا يتوقعها المشاهد كمصاعب مهنة التمريض على اعتبار أنها مهنة القاسم الأساسية، سرعان ما أسهمت الأحداث في سوريا في إحياء موسم جديد من البرنامج. عاد وحقّق حضوراً جماهيرياً واسعاً رغم اعتصام معده ومقدمه عند فكرة واحدة هي جلب خصمين حول فكرة واحدة، وترك المجال لهما للخلاف والصراخ والمقاطعة من دون أن نشاهد ملمحاً واحداً من ملامح الحوار الصحية والسليمة.

هكذا، تحولت حلقات البرنامج إلى حلبة مصارعة ومنبراً لتبادل الشتائم والاتهامات مع الاستعراض الواضح لغالبية الضيوف في استفزاز الآخر من دون التقيد بالحد الأدنى من آداب الحوار الإعلامي. مع ذلك، تزايدت جماهيرية «الاتجاه المعاكس»؛ لأنّه مثل معادلاً سياسياً لبرامج الترفيه والتسلية الفنية التي تعتمد على فضائح المشاهير بوصفها فرصة للترويح عن النفس في ظل بؤس الأوضاع وانقسام الشارع السوري، ولو كان ذلك على مبدأ شر البلية ما يضحك.

هكذا، يظهر فيصل القاسم كل أسبوع بحركات حفظها الجمهور، وبنبرة باتت مدعاة للسخرية على اعتبار أنها جرس إنذار لحفلة شتائم جديدة. وحالما تبدأ الحلقة، يعلو الصراخ ويبدأ تراشق الاتهامات بين الضيفين. طبعاً، كل ذلك يكون بمباركة فيصل القاسم الذي تراه مبتهجاً كلما احتد النقاش أكثر. فيما يضطر في بعض الأحيان إلى استخدام قدراته في إشعال فتيل الحرب عندما يلاحظ أن ضيفيه يحترمان أصول الحوار وآدابه وسلوكياته العامة. وكان القاسم في أكثر لحظات حياته المهنية سعادةً عندما سجّل برنامجه في موسمه الأخير تجاوزات مضحكة، لعلّ أبرزها حين هجم الصحافي اللبناني جوزيف أبو فاضل على عضو المجلس الوطني السوري محيي الدين اللاذقاني على خلفية الملف السوري، فيما كان القاسم يحاول فض الاشتباك الحاصل على الهواء مباشرة.

الإعلامي السوري الذي يختار ضيوفه بنفسه، يحاول دوماً إقناع مشاهديه بأنه لا يتقصّد تصفية حسابه مع النظام في برنامجه الذي يستمرّ أسبوعياً في موعده كل ثلاثاء، لينال مجدداً لقب أول برنامج عربي علّق ورقة نعي الحوار الحقيقي.

قناة «الرأي والرأي الآخر» لم تسمع صراخ البحرين

شهيرة سلّوم

سقطت موضوعية قناة «الجزيرة» عندما قرّرت تجاهل ما يجري في البحرين منذ انتفاضة «14 فبراير» العام الماضي. صحيح أنّها لم تأخذ جهة السلطة بنحو واضح في الأزمة، لكنّ «حيادها» وتجاهلها لممارسات الشرطة والأمن كانا كفيلين في جعلها شريكة في مؤامرة حصار هذا الشعب الأعزل. لم تكن «حيادية» بين الجلاّد والضحية فحسب، بل تجاهلت المحطة الكثير من المواد التي أرسلها إليها ناشطون ومعارضون بحرينيون رغم تأكيد هؤلاء العلاقة «الراقية» التي تجمعهم بمراسلي المحطة القطرية وموظفيها.

تقول مصادر لـ«الأخبار» إنّ صحافياً بحرينياً كان يزوّد مكتب «الجزيرة» في الدوحة يومياً بالأخبار والفيديوات عن القمع الحاصل وتظاهرات دوار اللؤلؤة، لكنّها كانت تقابل جميعها بتجاهل تام من المنتجين ورؤساء التحرير. في المقابل، فتحت المحطة هواءها لتقرير «اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق» في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، علماً أنّ المعارضة البحرينية رفضت التقرير واتهمته بأنّه «أخفى حقائق وممارسات كثيرة».

وهنا لا بدّ من التمييز بين تغطية «الجزيرة» العربية وتلك الإنكليزية التي جال مراسلوها في شوارع البحرين وعاينوا الأحداث ورافقوا الانتفاضة وأهم فصولها على الأرض، وشهدوا على أعمال العنف ووثّقوها، وكانوا خير شاهد على آلام «تصرخ في الظلام». مع ذلك، فقد أثار شريط وثائقي عرضته القناة الإنكليزية بعنوان «البحرين... صراخ في الظلام» أزمة بين قطر والبحرين.

وبعيداً عن أسباب هذا التمايز في التغطية، ما الذي دفع «الجزيرة» العربية إلى إحراج نفسها بعد تغطيتها المكثّفة وحضورها الواضح في الانتفاضتين التونسية والمصرية؟ في بداية الانتفاضة البحرينية، كان خوف قطر ومن ورائها الدول الخليجية عدم امتداد الربيع العربي إلى ربوعها؛ لأن أي اهتزاز للعرش الملكي في البحرين سيرتدّ على بقية العروش. ولهذا جاء الفيتو الخليجي ـــ لا القطري فقط ـــ على تغطية «الجزيرة» لأحداث البحرين وباقي القنوات الخليجية.

اليوم تبدّل الوضع. فلماذا يستمر هذا الصمت؟ (مع أنّ مسيرة التاسع من آذار الضخمة أجبرتها على تغطية الحدث). تعيش الانتفاضة في الوقت الراهن حالة جمود سياسي رغم التظاهرات التي تستمرّ يومياً مهما اشتدّ الخناق. مطلب إسقاط النظام بات شعاراً ترفعه الحركة الشبابية، وتحديداً «ائتلاف شباب 14 فبراير» تعبيراً عن الغضب، أكثر منه مطلباً تتبناه القوى المعارضة المرخصة. بل على العكس، فإنّ هذه الأخيرة تبرّأت منه ورفضته مع اشتداد الحملة الأمنية بعد دخول قوات «درع الجزيرة» الخليجية إلى المملكة الصغيرة. السلطة البحرينية لا تغفل مناسبة دولية أو إقليمية من دون أن تُروّج لنفسها على أنّها دولة ديموقراطية تستجيب لمطالب شعبها، بينما تضرب بيد من حديد المسيرات السلمية. روايات متضاربة حول مشروع حوار وطني يلقى ترحيباً من

  • فريق ماسة
  • 2012-03-27
  • 9117
  • من الأرشيف

خريف الجزيرة... سقوط امبراطورية مملكة الوهم

  سقوط امبراطورية  مملكة الوهم بيار أبي صعب   بعد فورة التسعينيات الفضائيّة، عرف العرب نوعين من التحرّر. الأوّل «اجتماعي» مع محطّة lbc التي انتصب لها الخليج سيفاً واحداً، تحيّة للحسناوات الخفيفات اللبس والاستعراض والبوح الملتهب والاغراء. وبعد هذه السنوات، جاء الرأسمال السعودي والتهم بشبق الفضائيّة اللبنانيّة المذكورة. أما التحرّر الثاني في المشهد الفضائي العربي، فجاء «سياسيّاً»، مع «الجزيرة» التي فرضت نفسها في وقت قصير اقليميّاً ودوليّاً. إنّها قصّة أليس في بلاد العجائب. في الدولة الصغيرة الغنيّة، تفتّحت تجربة اعلاميّة مثيرة، تراهن على الاختلاف والجرأة والمهنيّة. من التغطية المغايرة للحدث إلى رفع لواء «الرأي الآخر»، تشكّل اعلام بديل لم يكن يتخيّله مشاهدو التلفزيون الرسمي، من المحيط إلى الخليج.   الاختراع المحيّر صار مرجعاً للفرد العربي المتعطّش لكشف المسكوت عنه، ومتابعة الجدل السياسي ولو استعراضيّاً. كيف بوسع نظام سياسي لا يختلف عن أنظمة الجوار، أن يفتح تلك الثغرة «التقدميّة»؟ غضّ كثيرون النظر عن الخلطة الغريبة في المكوّنات السياسيّة للمحطّة: من «بعث» (عراقي) آنذاك، و«ليبراليّة» مشرّعة على إسرائيل في فترة ما، إلى الاتجاه الاسلاموي الذي ابتلع كل ما عداه. ما همّ؟ صار للعرب محطّة تضاهي الـ CNN، وتنظر إلى الأحداث من زاوية أخرى. من الحرب الأميركيّة ـــ البريطانيّة على العراق إلى العدوان الاسرائيلي على لبنان ثم غزّة… وصولاً إلى الانتفاضتين التونسيّة والمصريّة، كان التاريخ يتشكّل مباشرة على «الجزيرة». ثم اكتشف النظام القطري هواية جديدة، وقرّر أن يصبح سبونسور «الثورة» العربيّة. مرّت المحطّة فوق ربيع المنامة مثل الدبابات السعوديّة، لـ«تقود» حركة التغيير في سورية. بسرعة بدأت الزلات المهنيّة التي تحوّلت انحرافات متعمّدة، فتزييفاً منهجيّاً للحدث كما تثبت الوثائق والتصريحات التي تسرّبت في الأسابيع الأخيرة. ليس أن النظام السوري بمنأى عن الاستبداد والقمع، لكن «فجور» الخطاب الاعلامي جاء يسرق من الشعب انتفاضته. على صخرة المأساة السوريّة تكسّرت مملكة الوهم، وعادت المحطّة إلى حجمها الطبيعي. فجأة انتبه المشاهدون إلى أنّهم أمام اعلام رسمي يشبه ما نراه في سائر الأنظمة الشموليّة، بل يفوقها خطورة بحكم التجربة والصيت وادعاءات الاستقلاليّة والموضوعيّة. اليوم تتواصل الفضائح والاستقالات، ليبقى في ذاكرة الاعلام العربي المعاصر، جرح غائر اسمه «الجزيرة».                   فادي سلامة يصرخ: كفى تزويراً للحقيقة! وسام كنعان أجواء غير صحية ومتوتّرة. هكذا يصف مصدر في «الجزيرة» المناخ الذي يعمل فيه موظفو القناة القطرية هذه الأيام. لقد جاءت الأزمات والفضائح المتلاحقة لتطيح حلماً راود كثيرين حول محطة عربية حديثة تخرج عن القاعدة ولا تكون ذراعاً إعلامية للسلطة التي تملكها. آمال كبيرة بناها متابعو القناة القطرية قبل أن تتوالى الفضائح عن الفبركات والتزييف الذي مارسته قناة «الرأي والرأي الآخر» في سورية وسلسلة الاستقالات التي توالت من العاملين في المحطة احتجاجاً على أدائها والحديث عن استقالات جماعية أخرى في الطريق . وفي الفترة الأخيرة، عقدت اجتماعات عديدة في أروقة المؤسسة لتقييم الوضع على وقع الفضائح التي خرجت إلى العلن. لكن يبدو أنّ كل هذه الاجتماعات لن تفيد في انتشال المحطة من حالة التخبط التي تعانيها مع إطالة أمد الأزمة السورية. وفي آخر التطوّرات، حصلت «الأخبار» على نسخة من رسالة بعثها مراسل القناة في طوكيو الإعلامي السوري فادي سلامة ضمن نظام الـ Talkback أي مساحة الرأي الخاصة بموظفي المحطة. هنا، شكا الإعلامي السوري طريقة تعامل «الجزيرة» مع الشأن السوري، انطلاقاً من قريته (العثمانية) وتجربته الشخصية. يقول في الرسالة المؤرخة بتاريخ 5 آذار (مارس) 2012: «في قريتي ستة من أبناء عمي قتلوا، واثنان اختفيا بعدما ظهرا على قناة «الجزيرة» على أنهما منشقّان هما عزيز وبشار  عزيز والد لخمسة أطفال، كان صوته يتهدّج خوفاً وهو يقول ما تم تلقينه وظلّ بندقية وراء رأسه  في قريتي آخر القتلى كان ابن عمتي أحمد، وجدت جثته في مكب للقمامة في حمص مقطعة الأطراففي قريتي يحبّون الأسد  وسخر سلامة من سياسة المراسلين غير الرسميين للمحطة أي الناشطين المعارضين الذين يزوّدونها بالأخبار، قائلاً: «مراسلو «الجزيرة» إذاً في سورية يلتزمون المعايير التحريرية والموضوعية والحيادية وتقديم الرأي والرأي الآخر، أشدّ على أيديهم وأدعوهم إلى زيارة قريتي ففيها الكثير من القصص الجميلة». هكذا، وضع مراسل «الجزيرة» يده على الجرح وحض شبكة الناشطين التي تأخذ على عاتقها تقديم الأخبار للمحطة القطرية على زيارة الأماكن المنكوبة والاطلاع على حقيقة ما يجري من قتل وضرورة الانتباه إلى أنّ الأسد ما زال يحظى بمؤيدين من دون أن يتمكّن صوت هذا المراسل من تغيير شيء في سياسة محطته. وتقول مصادر من داخل المحطة لـ«الأخبار» إنّ الوضع السوري صار الشغل الشاغل لموظفي القناة، وإن الأحداث الواردة من الشام باتت تسيطر على كل الاحاديث الدائرة في أروقة المؤسسة، فلا يجتمع شخصان إلا ويكون ثالثهما الوضع السوري. وتضيف المصادر أنّ لا أحد من مديري القناة يملك أجوبة شافية حول ما يحصل، ولا أحد قادر على الردّ على علامات الاستفهام الكثيرة التي يرسمها عدد كبير من فريق «الجزيرة» الذي ضاق ذرعاً بما تفعله محطته. وقد خال بعضهم أنّ التعاطي مع الملف السوري سيتغيّر بعد إطاحة المدير العام للشبكة وضّاح خنفر إثر فضيحة «ويكيليكس» الشهيرة. لكنّ شيئاً لم يتغيّر، فالأمر مرتبط بالسياسة الخارجية القطرية تجاه سورية. وضمن سلسلة الاجتماعات التي تدعو إليها إدارة «الجزيرة» لمناقشة الأزمة السورية، كشفت لنا مصادر أنّ اجتماعاً عُقد في الدوحة بين الثامن والعاشر من الشهر الجاري وشمل مديري مكاتب المحطة في العواصم المختلفة. في ذلك الاجتماع، تعالت أصوات المديرين، ووُصف الاجتماع بالعاصف في ظل الانشقاق الحاد في الرأي بين موظفي القناة تجاه الملف السوري. وتنقل المصادر عن أحد مشرفي التحرير في المحطة قوله إنّ الخطأ القاتل الذي ارتكبته القناة في الشأن السوري «أننا استنفدنا كل خططنا من أجل إسقاط النظام في سوريا لكن الأسد فاجأنا بصموده». وتابع أنّ سيناريو تونس ومصر وليبيا سقط فعلياً في سوريا! بينما لم ينكر سقوط القناة المدوي في البحرين وصمتها إزاء ما يجري هناك، واعترف بأنّ التوجهات السياسية هي التي تحكّمت كلّياً بالتغطية الإعلامية للقناة القطرية، ثم ختم حديثه متأسفاً: «في الحقيقة، على «الجزيرة» أن تعمل الآن لسنوات وسنوات كي تستعيد ثقة العرب وتعود لمنافسة كبرى القنوات». هكذا بعدما بذلت المحطة جهوداً حثيثة منذ انطلاقها عام 1996 حتى بنت لنفسها قاعدة جماهيرية صلبة وحصدت نجاحات متتالية وحازت ثقة شريحة الجمهور، ها هي تقامر من أجل تنفيذ أجندات حكومة بلادها وتدخل في نفق مظلم لعلّه يشي بنهاية حلم اسمه «الجزيرة». شريط الفضائح بدأ مع وضّاح خنفر وسام كنعان منذ انطلاق «الجزيرة» عام 1996، توجّهت إليها أنظار المشاهدين العرب الذين سئموا اللغة الخشبية للقنوات الحكومية. سرعان ما فرضت القناة القطرية نفسها في المشهد الإعلامي بفضل حيويتها، وتغطياتها الحصرية وانتشار مراسليها في مكان الحدث ومواكبته بالصوت والصورة. هكذا، كونت قاعدة شعبية وجماهيرية، متجاوزةً كل الانتقادات التي اتهمتها بالتطبيع مع إسرائيل، وتحويل شاشاتها منبراً للأميركيين لتبرير حروبهم، وخصوصاً بعدما تعرّضت مكاتبها في أفغانستان والعراق للقصف الأميركي. ونسي كثيرون أنّ مَن يملك القناة ليس سوى نظام يستقبل أكبر قاعدة عسكرية أميركية في الشرق الأوسط. لكنّ الثورات العربية وضعت «الجزيرة» على المحك. بدأ العد التنازلي لسقوط مدوٍّ تلخّص في الانحياز الفاضح، وسياسة الكيل بمكيالين. وفي مقابل تجاهل البحرين، وقعت المحطة في حالة تخبط خلال الأيام الأولى للانتفاضة السورية. بعد ذلك، مضت قدماً في دعم الانتفاضة إلى مرحلة التزوير والتحريض والفبركة الواضحة. هكذا، أعلنت حربها الإعلامية على دمشق، معتمدة على ما تيسّر لها من مقاطع فيديو عُرضت على الشبكات المعارضة التي تسهل فبركتها، واستعانت بالشهود العيان الذين لا يكشفون أسماءهم الحقيقية ولا يمكن الوثوق بكلامهم. فقد سبق أن بثت «الجزيرة» مئات الأخبار عن تظاهرات حاشدة في مناطق لم تشهد أي تجمّعات وبالغت في عدد القتلى والجرحى، ثم أوردت مرة خبراً عن وصول المتظاهرين إلى ساحة العباسيين وتحليق كثيف للطائرات فوقهم، رغم أنّ الحياة كانت طبيعية بنحو كامل في الساحة الشهيرة. كل ما سبق لم يكن سوى مقدمة لقنبلة مدوية أسقطت القناع عن «الجزيرة» وفضحت الدور الذي أنشئت من أجله المحطة وفسّرت سبب صعودها الصاروخي مترافقاً مع سطوع نجم المدير العام السابق للشبكة الإخواني الهوى وضاح خنفر الذي حصد إعجاباً كبيراً وعداوات بالجملة، رغم دبلوماسيته وحنكته وخبرته السياسية. لكنّ وثائق «ويكيليكس» (الأخبار عدد ١٠ أيلول/ سبتمبر ٢٠١١) جاءت لتميط اللثام عن تلقّي خنفر التعليمات من الاستخبارات الأميركية. الوثائق الدامغة وما أعقبها من تغطيات إعلامية أجبرت عميد محطة «الجزيرة» على الاستقالة، لكنّه خرج ليُعلن أنّه لم يُقَل بل اختار الاستقالة للتفرغ لمشاريع أخرى. وفي ظل تجاهل قناة «الرأي والرأي الآخر» للفضيحة التي أجهزت على شعارها، تتالت الفضائح. كان الاختراق الذي حققه الجيش السوري الإلكتروني لنظام البريد الإلكتروني الخاص بالمحطة (الأخبار» 24 شباط/ فبراير 2012) ودخوله الرسائل التي تبادلها مراسل بيروت السابق علي هاشم والمذيعة السورية رولا إبراهيم مجرد حلقة في مسلسل فضائح لا ينتهي. يومها، أكّدت المذيعة السورية في رسائلها أنها باتت مرتدة على الثورة وشاهدة على إعلام التحريض الذي يهدف إلى تنفيذ أجندة واضحة في سوريا. وفي ردّه عليها، وافقها هاشم الرأي، وقال إنّه فضل الوقوف على الهامش بعدما أرسل للقناة صوراً عن المسلحين وهم يشتبكون مع الجيش السوري بالقرب من وادي خالد، لكنّها لم تعرض، بل طُلب منه العودة إلى بيروت فضلاً عن اتهامه بأنّه شبيح! أمام هذه الفضيحة، اتبعت المحطة سياسة التجاهل نفسها، وخصوصاً أنّه لا يمكن نفي هذه الواقعة المدعّمة بالوثائق. وأخيراً، توالت استقالات إعلاميين وعاملين في فريق «الجزيرة»، بدءاً من مدير مكتب بيروت غسان بن جدو (عُيِّن مكانه الجزائري عياش دراجي)، مروراً بعلي هاشم وموسى أحمد وانتهاء باستقالة تتكتم عليها المحطة لنحو عشرة إداريين في مكتب الدوحة، وأنباء عن استقالات جماعية تعدّ على نار حامية لمجموعة من الإعلاميين، واحتمال عقدهم مؤتمراً صحافياً يتحدثون فيه عن الضغوط التي تمارسها عليهم إدارة المحطة. من جهة أخرى، لم يقف الأمر عند سلسلة الاستقالات التي لمّحت بنحو مباشر أو غير مباشر إلى أنّ السبب وراءها كان التغطية التحريضية في سورية والصامتة في البحرين. فاجأ تلفزيون «الدنيا» («الأخبار» عدد ٧ آذار/مارس ٢٠١٢) مشاهديه ببث شرائط تظهر مراسلي المحطة غير الرسميين والناشطين السوريين الذين يتعاملون معها وهم يفبركون رسائلهم. هكذا، ظهر مراسل القناة غير الرسمي في بابا عمرو خالد أبو صلاح في غرفة تبدو كأنّها ملحق لمستشفى ميداني. ويبدو في الشريط وهو يلقّن طفلة مضمدة وطبيب شهادات معدة سلفاً من أجل تلاوتها على الهواء وهو ما حصل وتابعه مشاهدو المحطة القطرية... إذاً، وسط حفلة فضائح انتشرت رائحتها في كل مكان، واصلت المحطة القطرية سياستها التحريضية، لتتحوّل ذراعاً إعلامية للسياسة القطرية تجاه سوريا.   البروباغندا الجامحة حجبت (حتى) المسجد الأقصى مع بداية الأحداث السورية في آذار (مارس) 2011، تعاملت «الجزيرة» بحذر شديد مع هذا الملفّ. لكنّ زيارة خاطفة قام بها وزير خارجية قطر حمد بن جاسم لدمشق، للتشاور مع نظرائه في بداية الأحداث، قلبت الموازين وأعلنت القطيعة النهائية بين النظام السوري والحكومة القطرية. هنا، دخلت «الجزيرة» مرحلة مختلفة في التعاطي مع الانتفاضة السورية، سرعان ما حوّلتها إدارة المحطة إلى ثورة حقيقية، تصدرت أحداثها وتفاصيلها النشرات الإخبارية. تناولها المفكر عزمي بشارة في برنامجه «حديث الثورة» الذي كان يبث مساء كل يوم جمعة، شارحاً ومفصّلاً حقائق وخفايا كثيرة لمتابعي المحطة، بعدما كان يتجاهل الشأن السوري ويتهرّب من أسئلة المذيع. وتوالت استقالات المذيعين والإعلاميين في المحطة التي بدأت رحلة ابتعادها عن المهنية ودخولها في وحول السياسة. وربما غُفر للقناة أخطاؤها اليومية بأسماء المناطق والجهل الواضح بجغرافية البلد الذي توليه الأهمية والمساحة الكبرى من تغطيتها. مثلاً، أذاعت خبراً لم يفلت من المبالغة والتهويل عن انفجار مدوٍّ في «مقر قيادة حزب البعث في الميدان» وسط دمشق، بينما كانت الحقيقة هي انفجار قنبلة صوتية بالقرب من مبنى فرع الحزب في منطقة المزرعة، إضافة إلى بث أخبار كاذبة تؤكد أنّ السوريين ينفذون إضراباً عاماً في مختلف المحافظات، وعرضها لشريط يظهر الرئيس السوري بشار الأسد وهو يخطب أمام عشرات الأشخاص في فيديو مفبرك صوِّر قبل توافد المؤيدين للنظام إلى ساحة الأمويين في كانون الثاني (يناير) الماضي واتهام الإعلام السوري بأنه فبرك عداد المتظاهرين في الساحة... ومع دخول الأزمة السورية عامها الثاني، افتتحت «الجزيرة» مرحلة جديدة في تعاطيها مع الملف، لا تبتعد كثيراً عن سياسة الحكومة القطرية التي أعلنت صراحةً انحيازها الكامل إلى المعارضة السورية وتبنّيها المجلس الوطني السوري، ودعمها لما يسمّى الجيش السوري الحر. فعلت ذلك من خلال تقارير كثيرة عرضتها ضمن نشراتها الإخبارية، وصوِّرت في معاقله وبين مجموعاته، لتؤكّد نزاهته ووطنية عناصره، متجاهلة الشهداء الذين سقطوا في العمليات التي نفذتها المجموعات المسلحة، أو تغطية التفجيرات التي تعرضت لها دمشق، ومدينة حلب أخيراً. أما خبر اقتحام القوات الإسرائيلية للمسجد الأقصى في الشهر الماضي والاعتداء الإسرائيلي على غزة منذ أسابيع، فلم تولهما القناة أهمية تذكر. وحدها، أحداث «الثورة السورية» كما تريدها «الجزيرة» بقيت الحدث الأبرز الذي تصدّر نشراتها الإخبارية حتى اللحظة. رولا إبراهيم: الإعلاميّة الضحية وسام كنعان منذ اندلاع الانتفاضة السورية، وقعت المذيعة رولا إبراهيم بين فكي كماشة. لم تستطع محاباة النظام وقمعه للتظاهرات السلمية والصمت عن المجازر، لكنّها لم تتمكن أيضاً من تجاهل تجاوزات «الجزيرة» ونهجها التحريضي في التعاطي مع الملف السوري. وبين هذا وذاك، تبدو الإعلامية السورية كالكثير من أبناء بلدها الذين خسروا طرفي المعادلة بسبب اعتدالهم وحرصهم على قول الحقيقة. منذ نحو عام، تتعرض إبراهيم لمجموعة ضغوط بدأت بمطالبتها بالاستقالة من «الجزيرة» والاعتداء على أملاكها وحرق منزلها في طرطوس وانتشار دعوات بسحب الجنسية منها على مواقع التواصل الاجتماعي. في المقابل، انتشرت صفحات على فايسبوك تدعمها مثل: «رولا إبراهيم صوت يرفض الصمت». ومع استمرار الانتفاضة السورية وتحولها إلى مواجهات مسلحة، فجرت الوسائل الإعلامية السورية مفاجأة عند اختراق الجيش السوري الإلكتروني نظام البريد الخاص بـ«الجزيرة» وكشفه مجموعة رسائل بعثتها المذيعة إلى زميلها السابق علي هاشم في بيروت. كشفت هذه الرسائل عن الضغوط التي تعرضت لها في المحطة بسبب إحراجها الناطق الرسمي باسم الإخوان المسلمين في سوريا وتذكيرها بتهديدات الجيش الحر قبل انفجارات الميدان والحديث عن منعها من إجراء مقابلات تخص سوريا، إضافة إلى فضحها سياسة محطتها التحريضية واعترافها بأنها باتت مرتدة عن الثورة وحديثها عن العقلية الطائفية التي يتعامل بها بعض زملائها في القناة. هذا الأمر عرّضها لتهميش إضافي في المحطة. لكن ما كادت تمرّ أيام على هذه الفضيحة حتى تناقلت المواقع الإلكترونية خبراً عن اختراق صفحة رولا إبراهيم على فايسبوك ونشر رسائل وتعليقات تشتم فيها النظام السوري. ولم تفد تصريحاتها بأنها لا تملك أي حساب على الموقع الأزرق في رفع التهمة عنها أو تخفيف نقمة النظام عليها. حتى إنّ هناك أنباءً سُرِّبت لـ«الأخبار» عن توصية وجِّهت إلى المحطات الموالية للنظام السوري بالامتناع عن التعامل معها حتى لو استقالت من «الجزيرة». إذاً، الإعلامية التي تدرجت من الإذاعة السورية ثم عملت لفترة قصيرة في تلفزيون «روسيا اليوم» قبل أن تلتحق بقناة «الرأي» الكويتية ثم تستقر في «الجزيرة» وتحقّق حضوراً وأداءًَ مميزين، تواجه اليوم المجهول. ويبدو أنّها وصلت إلى قطيعة حقيقية مع محطتها وأسلوبها التحريضي فيما تعاني من تهديد النظام والموالين له. حتى إنها دخلت في إجازة مفتوحة انتقلت فيها من الدوحة ففرنسا ثم دبي من دون أن تتضح حتى الآن وجهتها النهائية بسبب إصرارها على قول كلمة حق في زمن الباطل. ... وفيصل القاسم الرابح الأكبر خلفت الأزمة السورية مشاكل عديدة على مختلف المستويات. لكن في المقابل، أدت دوراً في شهرة بعض الشخصيات، سواء كانت من الموالاة للنظام أو من المعارضة له، إضافة إلى رواج اسم بعض الفضائيات التي رفعت شعارات طائفية بحتة واعتمادها على شيوخ استخدموا التحريض أسلوباً وحيداً لخطاب المحطة الإعلامي. وسط ذلك، بدا مذيع «الجزيرة» فيصل القاسم من أكثر المستفيدين إعلامياً من الأحداث السورية. بعدما وصل برنامجه الشهير «الاتجاه المعاكس» إلى طريق مسدود استنفد فيه كل أدواته، حتى صار مضطراً إلى طرح مواضيع لا يتوقعها المشاهد كمصاعب مهنة التمريض على اعتبار أنها مهنة القاسم الأساسية، سرعان ما أسهمت الأحداث في سوريا في إحياء موسم جديد من البرنامج. عاد وحقّق حضوراً جماهيرياً واسعاً رغم اعتصام معده ومقدمه عند فكرة واحدة هي جلب خصمين حول فكرة واحدة، وترك المجال لهما للخلاف والصراخ والمقاطعة من دون أن نشاهد ملمحاً واحداً من ملامح الحوار الصحية والسليمة. هكذا، تحولت حلقات البرنامج إلى حلبة مصارعة ومنبراً لتبادل الشتائم والاتهامات مع الاستعراض الواضح لغالبية الضيوف في استفزاز الآخر من دون التقيد بالحد الأدنى من آداب الحوار الإعلامي. مع ذلك، تزايدت جماهيرية «الاتجاه المعاكس»؛ لأنّه مثل معادلاً سياسياً لبرامج الترفيه والتسلية الفنية التي تعتمد على فضائح المشاهير بوصفها فرصة للترويح عن النفس في ظل بؤس الأوضاع وانقسام الشارع السوري، ولو كان ذلك على مبدأ شر البلية ما يضحك. هكذا، يظهر فيصل القاسم كل أسبوع بحركات حفظها الجمهور، وبنبرة باتت مدعاة للسخرية على اعتبار أنها جرس إنذار لحفلة شتائم جديدة. وحالما تبدأ الحلقة، يعلو الصراخ ويبدأ تراشق الاتهامات بين الضيفين. طبعاً، كل ذلك يكون بمباركة فيصل القاسم الذي تراه مبتهجاً كلما احتد النقاش أكثر. فيما يضطر في بعض الأحيان إلى استخدام قدراته في إشعال فتيل الحرب عندما يلاحظ أن ضيفيه يحترمان أصول الحوار وآدابه وسلوكياته العامة. وكان القاسم في أكثر لحظات حياته المهنية سعادةً عندما سجّل برنامجه في موسمه الأخير تجاوزات مضحكة، لعلّ أبرزها حين هجم الصحافي اللبناني جوزيف أبو فاضل على عضو المجلس الوطني السوري محيي الدين اللاذقاني على خلفية الملف السوري، فيما كان القاسم يحاول فض الاشتباك الحاصل على الهواء مباشرة. الإعلامي السوري الذي يختار ضيوفه بنفسه، يحاول دوماً إقناع مشاهديه بأنه لا يتقصّد تصفية حسابه مع النظام في برنامجه الذي يستمرّ أسبوعياً في موعده كل ثلاثاء، لينال مجدداً لقب أول برنامج عربي علّق ورقة نعي الحوار الحقيقي. قناة «الرأي والرأي الآخر» لم تسمع صراخ البحرين شهيرة سلّوم سقطت موضوعية قناة «الجزيرة» عندما قرّرت تجاهل ما يجري في البحرين منذ انتفاضة «14 فبراير» العام الماضي. صحيح أنّها لم تأخذ جهة السلطة بنحو واضح في الأزمة، لكنّ «حيادها» وتجاهلها لممارسات الشرطة والأمن كانا كفيلين في جعلها شريكة في مؤامرة حصار هذا الشعب الأعزل. لم تكن «حيادية» بين الجلاّد والضحية فحسب، بل تجاهلت المحطة الكثير من المواد التي أرسلها إليها ناشطون ومعارضون بحرينيون رغم تأكيد هؤلاء العلاقة «الراقية» التي تجمعهم بمراسلي المحطة القطرية وموظفيها. تقول مصادر لـ«الأخبار» إنّ صحافياً بحرينياً كان يزوّد مكتب «الجزيرة» في الدوحة يومياً بالأخبار والفيديوات عن القمع الحاصل وتظاهرات دوار اللؤلؤة، لكنّها كانت تقابل جميعها بتجاهل تام من المنتجين ورؤساء التحرير. في المقابل، فتحت المحطة هواءها لتقرير «اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق» في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، علماً أنّ المعارضة البحرينية رفضت التقرير واتهمته بأنّه «أخفى حقائق وممارسات كثيرة». وهنا لا بدّ من التمييز بين تغطية «الجزيرة» العربية وتلك الإنكليزية التي جال مراسلوها في شوارع البحرين وعاينوا الأحداث ورافقوا الانتفاضة وأهم فصولها على الأرض، وشهدوا على أعمال العنف ووثّقوها، وكانوا خير شاهد على آلام «تصرخ في الظلام». مع ذلك، فقد أثار شريط وثائقي عرضته القناة الإنكليزية بعنوان «البحرين... صراخ في الظلام» أزمة بين قطر والبحرين. وبعيداً عن أسباب هذا التمايز في التغطية، ما الذي دفع «الجزيرة» العربية إلى إحراج نفسها بعد تغطيتها المكثّفة وحضورها الواضح في الانتفاضتين التونسية والمصرية؟ في بداية الانتفاضة البحرينية، كان خوف قطر ومن ورائها الدول الخليجية عدم امتداد الربيع العربي إلى ربوعها؛ لأن أي اهتزاز للعرش الملكي في البحرين سيرتدّ على بقية العروش. ولهذا جاء الفيتو الخليجي ـــ لا القطري فقط ـــ على تغطية «الجزيرة» لأحداث البحرين وباقي القنوات الخليجية. اليوم تبدّل الوضع. فلماذا يستمر هذا الصمت؟ (مع أنّ مسيرة التاسع من آذار الضخمة أجبرتها على تغطية الحدث). تعيش الانتفاضة في الوقت الراهن حالة جمود سياسي رغم التظاهرات التي تستمرّ يومياً مهما اشتدّ الخناق. مطلب إسقاط النظام بات شعاراً ترفعه الحركة الشبابية، وتحديداً «ائتلاف شباب 14 فبراير» تعبيراً عن الغضب، أكثر منه مطلباً تتبناه القوى المعارضة المرخصة. بل على العكس، فإنّ هذه الأخيرة تبرّأت منه ورفضته مع اشتداد الحملة الأمنية بعد دخول قوات «درع الجزيرة» الخليجية إلى المملكة الصغيرة. السلطة البحرينية لا تغفل مناسبة دولية أو إقليمية من دون أن تُروّج لنفسها على أنّها دولة ديموقراطية تستجيب لمطالب شعبها، بينما تضرب بيد من حديد المسيرات السلمية. روايات متضاربة حول مشروع حوار وطني يلقى ترحيباً من

المصدر : الأخبار


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة