بعد أيام قليلة من أحداث الحادي عشر من أيلول، أعلن نائب وزير الدفاع بول وولفويتز أن التركيز الرئيسي للسياسة الخارجية للولايات المتحدة سيكون «إنهاء الدول التي ترعى الإرهاب». وقد وُصِف العراق حينها بأنه «دولة إرهابية»، فيما أعلنه الرئيس الأميركي جورج بوش كجبهة رئيسية في حملته على الإرهاب العالمي. وعليه، غزت القوات الأميركية العراق بصورة غير قانونية تحت العنوان - الذريعة: «تحرير العراق».

أصحاب الدعوة لـ«التحرير» كانوا كثراً، ومن بينهم عراقيون مقيمون في الخارج والمنافي، لم يكن لهم أدنى صلة بالحركة العراقية التحررية. من بين أهمهم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية بقيادة السيد محمد باقر الحكيم، وحزب الدعوة الإسلامية بقيادة أمين السر آنذاك ابراهيم الجعفري، والمؤتمر الوطني العراقي بقيادة أحمد الجلبي، وحركة الوفاق بقيادة إياد علاوي، والحزبان الكرديان بزعامة كل من مسعود البرزاني وجلال طالباني.

هؤلاء ربما لم يتوقعوا (ولم يخططوا بالتأكيد) لما سيؤول إليه الواقع العراقي وتركيبته البشرية، في حال جرى التدخل الخارجي في تغيير نوع النظام فيه، لكنهم صمتوا عن نتائج الحرب «الكارثية» لأسباب جمّة منها عدم المقدرة الذاتية أو الداخلية على التغيير، أو لأسباب تتعلق بالتمويل الأجنبي المشروط الذي حصلوا عليه مسبقا لأحزابهم وحركاتهم، وأسباب أخرى عنوانها: الترغيب والترهيب.

ثمة كابوسان لازما الفرد العراقي منذ عقود: عراق صدام وعراق أميركا، وقد خلّف الاثنان كوارث عاش العراقيون نتائجها على مختلف الأصعدة الإنسانية والاجتماعية والثقافية والأمنية... والوجودية.

شهدت مرحلة ما بعد الغزو تفكيك الدولة العراقية وحل الجيش واستبداله بالميليشيات التي تأسست وفق إيديولوجيات وأجندات متناقضة. واختلط المشهد السياسي وتدافع مع الأمني، وتهشمت واجهة العراق كدولة لتحل محله الفدراليات، وبلغ عدد الجماعات المسلحة المتناحرة مع بعضها البعض في العراق وبعضها الآخر مع الاحتلال الـ48 ميليشيا وفصيلا مسلحا.

من جهة ثانية، بلغ عدد ضحايا العنف من القتلى المدنيين، بحسب إحصائيات وزارة الصحة العراقية، ما يقارب الـ200 ألف قتيل، بينما قالت منظمة «إيراك بادي كاونت» البريطانية التي تضع قاعدة بيانات بكل الشهداء في العراق بالمنطقة والاســم والمهـــنة وغيرها من البيانات، في آخر تحديث لها بداية العام 2012 ان 162 ألف شهيد سقطوا في العراق منذ الغزو، 79 في المئة منهم من المدنيين.

إلى ذلك نتج عن التجربة الدموية التي عاشها العراق أن انقلب على مدنيته مغلّباً عليها الطائفية التي نمت تحت ضغوط الإفرازات المذهبية والعرقية والاثنية التي قسمت العراق إلى مثلثات ومربعات، شيعية وسنية. في تلك الفترة، كانت فرق الموت تعمل وفق آلية وتخطيط ممنهجين، حيث الاغتيالات بكواتم الصوت، غير تلك التي تتم بالعبوات اللاصقة وغير التي تزرع في الطرقات أو المفخخات في السيارات، كما أنها غير الأحزمة الناسفة والانتحاريين ذكورا أم إناثا، عربا وأجانب أم عراقيين، علماً بأن العراقيين كانوا قلّة إذا ما قورنوا بالليبيين والسعوديين والسودانيين واليمنيين والأفغانيين والسوريين والأردنيين والتونسيين وجنسيات أخرى.

كواتم الصوت «الغادرة» استهدفت بشكل خاص الكفاءات العلمية، حيث «اقتناص» الأدمغة والعقول في العراق كان ممنهجا، يشير علانية إلى إصبع استخباري قام بالبحث والتحري والتخطيط والتنفيذ، لاغتيال كبار علماء الطاقة والنفط كما الأطباء وكبار ضباط الجيش من الطيارين وأساتذة الجامعات والفنانين والقانونيين والأكاديميين، حتى فاق عدد أصحاب الكــفاءات الذيــن طالتهم يد الموت الهمجي الـ 1400 ضحية.

وبما أن كشف هذا الواقع يكون بفضل الإعلاميين والصحافيين، كانت حصيلة الشهداء من هؤلاء الأكبر عالميا في العراق، حتى فاق عددهم منذ بداية الغزو 150 صحافيا، منهم 128عراقيا وآخرون من جنسيات أخرى.

ويبلغ عدد الأيتام، بحسب وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، 4,5 ملايين يتيم، وما يزيد على 500 ألف منهم يعيشون في الشوارع من دون أي حماية أو بيت يؤويهم، علما بأن في جميع انحاء العراق لا يوجد سوى 18 دارا للايتام بحسب الوزارة نفسها.

يعكف على خدمة هؤلاء الأيتام عدد مخيف من النساء الارامل، اللواتي لا يعرفن طريقا لكسب العيش سوى التسول أو الهروب إلى خارج العراق. وبحسب الإحصائيات الرسمية والصادرة عن وزارة شؤون المرأة العراقية والصليب الأحمر الدولي وجهاز الإحصاء المركزي في العراق، فان عدد الارامل في العراق بلغ المليون امرأة، في كافة الحروب التي شهدتها البلاد، فقدن معيلي أسرهن.

أما الإعاقات الجسدية (غير تلك النفسية) فتعد أحد أبشع إفرازات الاحتلال والعنف في العراق، حيث بلغ العدد المليون إعاقة، بحسب التقديرات غير الرسمية لوزارة الصحة العراقية، علما ابأن الأعداد كانت حواى الـ 250 ألف حالة قبل الغزو. وغالبية هذه الإعاقات هي في الأطراف السفلى والعــليا، حيث تقدر الوزارة ان الذين يستخدمون أطرافا اصطناعية يقــدرون بعشرات الآلاف. يُذكر في هذا الســـياق أن حوالى 48 إلى 68 ألف شخص خسروا احد أطرافهم بسبب انفجار الغام، قرابة الربع منهم من الأطفال بينما 80 في المئة من ضحايا الألغام تتراوح أعمارهم بين 15 و29 سنة. وبحسب وزارة البيئة، يوجد في العراق حوالى 25 مليون لغم، وما يفوق هذا الرقم من شظايا قنابل بما فيها العنقودية قبل وبعد سقوط بغداد. ويضاف إلى ما سبق حالات التشوه الخلقي والإجهاض المبكر والأمراض السرطانية التي ظهرت نتيجة الأسلحة الكيميائية واليورانيوم، لا سيما عند الأطفال، خاصة في الفلوجة والنجف والبصرة، بحسب دراسات لوزارات البيئة والصحة والعلوم.

وقد خلفت أعمال العنف، إضافة إلى ذلك، أرقاما مخيفة لا يستهان بها من مفقودين ومغيبين، يشير قائد عمليات بغداد السابق اللواء عبد الكريم خلف لـ«السفير» ان «معظمهم تمت تصفيته ودفنه في المقابر الجماعية، من قبل ميليشيات متطرفة وأجنحة منضوية تحت إمارة «القاعدة»، كما لبعض الأجهزة الأمنية المرتبطة بأجندات حزبية إقليمية أو دولية دور في مصير هؤلاء. وقد وصل عدد هؤلاء قرابة النصف مليون، بحسب الإحصائيات الرسمية وإحصائيات الصليب الأحمر الدولي واللجنة الدولية لشؤون المفقودين».

وعن الانتهاكات الأخرى والفضائح في المعتقلات السرية والسجون، فربما لا يتذكر الناس منها إلا ما عرضته الـ «فوكس نيوز» حول فضحية «أبو غريب». أما ما صمت عنه الرأي العام فقد بلغ تسعين ألف شخص تم اعتقالهم واحتجازهم من قبل الولايات المتحدة حتى تموز 2010، حين تم إغلاق آخر المعتقلات الأميركية في العراق. أما ما بقي في سجون الدولة، بما فيها سجون إقليم كردستان، فيقدر بما يزيد على عشرين ألف سجين، بحسب إحصائيات مرصد حقوق الإنسان والمنظمات العالمية المتخصصة، وهو ما يناقشه الآن البرلمان تحت عنوان قانون العفو العام بعد تسع سنوات من الاحتلال.

ومن تمكن من الهروب من آلة الموت الأميركية ودولة العراق الإسلامية والأحزاب والميليشيات والعصابات المنظمة والتكفـــيريين والصداميين، غادر العراق غير حامل معه سوى بعض ذكريات عن نزف دموي عمره عقود وعن آثار حــروب وخراب ودمار وتهجير وتشــريد وفصل عنصري وطائفي، حتى فاق عدد المهجرين إلى الخارج المليونين، بحسب مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، يقابلهم قرابة المليون ونصف المليون مهجر داخليا بحسب المصدر ذاته. يشار الى ان الهجرة من العراق هي ثاني اكبر هجرة في منطقة الشرق الأوسط بعد تهجير الفلسطينيين على ايدي قوات الاحتلال الإسرائيلي.

كان للغزو الأميركي اليد الطولى في ما لحق بالاقتصاد العراقي من دمار شامل طال بنيته الأساسية، وضاعف معدلات الانخفاض في نمو الناتج المحلي والإجمالي وارتفاع نسبة البطالة إلى جانب الفقر، إضافة إلى ما يعانيه الاقتصاد أساساً، على مدى عقود من الحروب السابقة، فضلاً عن كونه يعتمد على النفط بشكل أساسي مع إهمال بقية القطاعات الاقتصادية الأخرى كالزراعة والصناعة.

وقدرت الخسائر الاقتصادية للعراق ما بعد الغزو بـ 450 مليار دولار أميركي كنتيجة لتدمير البنى التحتية، فضلاً عما لحق بالمتاحف والآثار والأموال العامة التي تمت سرقتها.

وقد أصدرت الإدارة الأميركية في 28 ايار العام 2003 قراراً يحمل الرقم 3303 بوضع اليد على الأموال العراقية المودعة في البنوك الأجنبية، وقد قدرت بـ13 مليار دولار.

ووضعت سلطة الاحتلال، بموافقة الأمم المتحدة، يدها على عائدات برنامج «النفط مقابل الغذاء»، التي كانت لغاية آذار 2003، تبلغ 21 مليار دولار والمودعة في «البنك الوطني الفرنسي»، (فرع نيويورك)، حيث تم فتح هذا الحساب منذ العام 1996.

كما كشفت هيئة الاستشارات والرقابة الدولية، التي تم تشكيلها طبقا لقرار مجلس الأمن 1483 الصادر في 22 ايار العام 2003، في احد تقاريرها وقائع عن هدر أموال «صندوق التنمية العراقي» المودعة فيه إبان وجود سلطة الإدارة الموقتة التي كان يترأسها بول بريمر البالغة 20 مليارا و200 مليون دولار، وتضمنت عائدات النفط العراقي بحدود 11 مليار دولار، وقد انفق منها 11 مليارا و300 مليون دولار.

أما تكلفة الحرب المباشرة على الجانب الأميركي فتتراوح بحسب جوزف ستيغليتز، الحائز جائزة نوبل للاقتصاد والمسؤول السابق في البنك الدولي، بين 2 إلى 3 تريليونات دولار، فيما قدرتها جامعة «براون» الأميركية من 3 الى 4 تريليونات، من ضمنها المصابون وذوو الحاجات المستدامة من الجيش الأميركي الذين يندرجون ضمن التكلفة التكميلية.

الى كل هذا يضاف الفساد المالي والإداري، الذي تراكم بسبب سياسات غض الطرف الأميركي، ووصل إلى أعلى نسب المستويات في العالم بحسب منظمة الشفافية العالمية، حيث احتل العراق في تقرير العام 2011 المرتبة 175 بين 182 دولة، «متنافسا» مع الصومال وأفغانستان والسودان.

وكانت النتيجة وقوع نسبة مرتفعة من أبناء الشعب العراقي تحت خط الفقر، بسبب البطالة وسوء تقسيم الثروات، حيث تقول وزارة حقوق الإنسان العراقية ان سبعة ملايــين عراقــي يعيش حالة هي أدنى من مستوى خط الفقر.

أما التعليم فوصل لأدنى مستوياته، حيث الأمية تفوق الـ 20 في المئة، بحسب مكتب «اليونسكو» - العراق في العام 2011. وذلك بسبب الهروب الى العسكرة والالتحاق بالمؤسسات الأمنية نتيجة عدم الحصول على فرص العمل لحملة الشهادات ومتخرجي المعاهد والجامعات. كما نتيجة عامل العنف الذي اجبر الإناث في مجتمع تحكمه الذكورية على ملازمة البيوت وعدم الاستمرار في طلب العلم، لما تعرضت له الكثير من مدارس ومعاهد وجامعات البنات الى عمليات خطف ممنهجة وتعرضت الطالبات لعمليات اغتصاب تبعها قتل. اضافة الى تفجير كبرى الجامعات، كما حدث في التفجير الانتحاري المزدوج، الذي قامت بواحد منه انتحارية بلجيكية، في الجامعة المستنصرية، وخلف عشرات الضحايا غير التعليم العالي ضحية. والأمية في العراق دفعت الى بروز ظاهرة فساد جديدة في المجتمع العراقي، حيث الآلاف من الشهادات المزورة للمسؤولين والضباط والمدراء العامين وكوادر الأحزاب الذين يشغلون مناصب قــيادية في الدولة، بحسب هيــئة النزاهة العراقية.

عمليات الدم التي أربكت أمن الشارع العراقي والمواطن، كانت ترتبط بأجهزة مشبوهة وعمليات يرتدي فيها البعض لباسا امنيا رسميا، ومنها ما قد ارتبط بالشركات الأمنية، والبالغ عددها او المصرح عنه منها 126 شركة أمنية تدار في غالبيتها من الأجهزة الاستخبارية الأجنبية مسجلة في وزارة الداخلية العراقية، وقد تقلصت الى النصف في بداية العام 2012.

الحديث عن المأساة العراقية يفوق الأرقام، لأنه حديث ينخر في العظام. عظام ركام دولة غدت حطاما، بعد ان سرق حتى أرشيفها ومخطوطات حضارتها وارثها وآثارها ومكتباتها، وتبدلت بها الوطنية بالطائفية والمذهبية. عن ذلك يقول وكيل وزير الثقافة العراقي السيد جابر الجابري لـ«السفير» في ذكرى غزو العراق، «ان الولايات المتحدة تمكنت من إجهاض حلمنا كمثقفين وددنا ان تبنى الحرية في العراق وان نكون أحرارا. وما وجدناه أنها حطمت النفوس واشترت الناس وحاولت جاهدة لطمس هوية العراق الحضارية والثقافية، كما أنها تذكرنا بهولاكو وغزوه بغداد وإحراقه وإغراقه المكتبات في دجلة».

  • فريق ماسة
  • 2012-03-18
  • 3464
  • من الأرشيف

الذكرى التاسعة لبدء الغزو الأميركي للعراق العراقيون و«دمارهم الشامل»... بالأرقام

بعد أيام قليلة من أحداث الحادي عشر من أيلول، أعلن نائب وزير الدفاع بول وولفويتز أن التركيز الرئيسي للسياسة الخارجية للولايات المتحدة سيكون «إنهاء الدول التي ترعى الإرهاب». وقد وُصِف العراق حينها بأنه «دولة إرهابية»، فيما أعلنه الرئيس الأميركي جورج بوش كجبهة رئيسية في حملته على الإرهاب العالمي. وعليه، غزت القوات الأميركية العراق بصورة غير قانونية تحت العنوان - الذريعة: «تحرير العراق». أصحاب الدعوة لـ«التحرير» كانوا كثراً، ومن بينهم عراقيون مقيمون في الخارج والمنافي، لم يكن لهم أدنى صلة بالحركة العراقية التحررية. من بين أهمهم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية بقيادة السيد محمد باقر الحكيم، وحزب الدعوة الإسلامية بقيادة أمين السر آنذاك ابراهيم الجعفري، والمؤتمر الوطني العراقي بقيادة أحمد الجلبي، وحركة الوفاق بقيادة إياد علاوي، والحزبان الكرديان بزعامة كل من مسعود البرزاني وجلال طالباني. هؤلاء ربما لم يتوقعوا (ولم يخططوا بالتأكيد) لما سيؤول إليه الواقع العراقي وتركيبته البشرية، في حال جرى التدخل الخارجي في تغيير نوع النظام فيه، لكنهم صمتوا عن نتائج الحرب «الكارثية» لأسباب جمّة منها عدم المقدرة الذاتية أو الداخلية على التغيير، أو لأسباب تتعلق بالتمويل الأجنبي المشروط الذي حصلوا عليه مسبقا لأحزابهم وحركاتهم، وأسباب أخرى عنوانها: الترغيب والترهيب. ثمة كابوسان لازما الفرد العراقي منذ عقود: عراق صدام وعراق أميركا، وقد خلّف الاثنان كوارث عاش العراقيون نتائجها على مختلف الأصعدة الإنسانية والاجتماعية والثقافية والأمنية... والوجودية. شهدت مرحلة ما بعد الغزو تفكيك الدولة العراقية وحل الجيش واستبداله بالميليشيات التي تأسست وفق إيديولوجيات وأجندات متناقضة. واختلط المشهد السياسي وتدافع مع الأمني، وتهشمت واجهة العراق كدولة لتحل محله الفدراليات، وبلغ عدد الجماعات المسلحة المتناحرة مع بعضها البعض في العراق وبعضها الآخر مع الاحتلال الـ48 ميليشيا وفصيلا مسلحا. من جهة ثانية، بلغ عدد ضحايا العنف من القتلى المدنيين، بحسب إحصائيات وزارة الصحة العراقية، ما يقارب الـ200 ألف قتيل، بينما قالت منظمة «إيراك بادي كاونت» البريطانية التي تضع قاعدة بيانات بكل الشهداء في العراق بالمنطقة والاســم والمهـــنة وغيرها من البيانات، في آخر تحديث لها بداية العام 2012 ان 162 ألف شهيد سقطوا في العراق منذ الغزو، 79 في المئة منهم من المدنيين. إلى ذلك نتج عن التجربة الدموية التي عاشها العراق أن انقلب على مدنيته مغلّباً عليها الطائفية التي نمت تحت ضغوط الإفرازات المذهبية والعرقية والاثنية التي قسمت العراق إلى مثلثات ومربعات، شيعية وسنية. في تلك الفترة، كانت فرق الموت تعمل وفق آلية وتخطيط ممنهجين، حيث الاغتيالات بكواتم الصوت، غير تلك التي تتم بالعبوات اللاصقة وغير التي تزرع في الطرقات أو المفخخات في السيارات، كما أنها غير الأحزمة الناسفة والانتحاريين ذكورا أم إناثا، عربا وأجانب أم عراقيين، علماً بأن العراقيين كانوا قلّة إذا ما قورنوا بالليبيين والسعوديين والسودانيين واليمنيين والأفغانيين والسوريين والأردنيين والتونسيين وجنسيات أخرى. كواتم الصوت «الغادرة» استهدفت بشكل خاص الكفاءات العلمية، حيث «اقتناص» الأدمغة والعقول في العراق كان ممنهجا، يشير علانية إلى إصبع استخباري قام بالبحث والتحري والتخطيط والتنفيذ، لاغتيال كبار علماء الطاقة والنفط كما الأطباء وكبار ضباط الجيش من الطيارين وأساتذة الجامعات والفنانين والقانونيين والأكاديميين، حتى فاق عدد أصحاب الكــفاءات الذيــن طالتهم يد الموت الهمجي الـ 1400 ضحية. وبما أن كشف هذا الواقع يكون بفضل الإعلاميين والصحافيين، كانت حصيلة الشهداء من هؤلاء الأكبر عالميا في العراق، حتى فاق عددهم منذ بداية الغزو 150 صحافيا، منهم 128عراقيا وآخرون من جنسيات أخرى. ويبلغ عدد الأيتام، بحسب وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، 4,5 ملايين يتيم، وما يزيد على 500 ألف منهم يعيشون في الشوارع من دون أي حماية أو بيت يؤويهم، علما بأن في جميع انحاء العراق لا يوجد سوى 18 دارا للايتام بحسب الوزارة نفسها. يعكف على خدمة هؤلاء الأيتام عدد مخيف من النساء الارامل، اللواتي لا يعرفن طريقا لكسب العيش سوى التسول أو الهروب إلى خارج العراق. وبحسب الإحصائيات الرسمية والصادرة عن وزارة شؤون المرأة العراقية والصليب الأحمر الدولي وجهاز الإحصاء المركزي في العراق، فان عدد الارامل في العراق بلغ المليون امرأة، في كافة الحروب التي شهدتها البلاد، فقدن معيلي أسرهن. أما الإعاقات الجسدية (غير تلك النفسية) فتعد أحد أبشع إفرازات الاحتلال والعنف في العراق، حيث بلغ العدد المليون إعاقة، بحسب التقديرات غير الرسمية لوزارة الصحة العراقية، علما ابأن الأعداد كانت حواى الـ 250 ألف حالة قبل الغزو. وغالبية هذه الإعاقات هي في الأطراف السفلى والعــليا، حيث تقدر الوزارة ان الذين يستخدمون أطرافا اصطناعية يقــدرون بعشرات الآلاف. يُذكر في هذا الســـياق أن حوالى 48 إلى 68 ألف شخص خسروا احد أطرافهم بسبب انفجار الغام، قرابة الربع منهم من الأطفال بينما 80 في المئة من ضحايا الألغام تتراوح أعمارهم بين 15 و29 سنة. وبحسب وزارة البيئة، يوجد في العراق حوالى 25 مليون لغم، وما يفوق هذا الرقم من شظايا قنابل بما فيها العنقودية قبل وبعد سقوط بغداد. ويضاف إلى ما سبق حالات التشوه الخلقي والإجهاض المبكر والأمراض السرطانية التي ظهرت نتيجة الأسلحة الكيميائية واليورانيوم، لا سيما عند الأطفال، خاصة في الفلوجة والنجف والبصرة، بحسب دراسات لوزارات البيئة والصحة والعلوم. وقد خلفت أعمال العنف، إضافة إلى ذلك، أرقاما مخيفة لا يستهان بها من مفقودين ومغيبين، يشير قائد عمليات بغداد السابق اللواء عبد الكريم خلف لـ«السفير» ان «معظمهم تمت تصفيته ودفنه في المقابر الجماعية، من قبل ميليشيات متطرفة وأجنحة منضوية تحت إمارة «القاعدة»، كما لبعض الأجهزة الأمنية المرتبطة بأجندات حزبية إقليمية أو دولية دور في مصير هؤلاء. وقد وصل عدد هؤلاء قرابة النصف مليون، بحسب الإحصائيات الرسمية وإحصائيات الصليب الأحمر الدولي واللجنة الدولية لشؤون المفقودين». وعن الانتهاكات الأخرى والفضائح في المعتقلات السرية والسجون، فربما لا يتذكر الناس منها إلا ما عرضته الـ «فوكس نيوز» حول فضحية «أبو غريب». أما ما صمت عنه الرأي العام فقد بلغ تسعين ألف شخص تم اعتقالهم واحتجازهم من قبل الولايات المتحدة حتى تموز 2010، حين تم إغلاق آخر المعتقلات الأميركية في العراق. أما ما بقي في سجون الدولة، بما فيها سجون إقليم كردستان، فيقدر بما يزيد على عشرين ألف سجين، بحسب إحصائيات مرصد حقوق الإنسان والمنظمات العالمية المتخصصة، وهو ما يناقشه الآن البرلمان تحت عنوان قانون العفو العام بعد تسع سنوات من الاحتلال. ومن تمكن من الهروب من آلة الموت الأميركية ودولة العراق الإسلامية والأحزاب والميليشيات والعصابات المنظمة والتكفـــيريين والصداميين، غادر العراق غير حامل معه سوى بعض ذكريات عن نزف دموي عمره عقود وعن آثار حــروب وخراب ودمار وتهجير وتشــريد وفصل عنصري وطائفي، حتى فاق عدد المهجرين إلى الخارج المليونين، بحسب مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، يقابلهم قرابة المليون ونصف المليون مهجر داخليا بحسب المصدر ذاته. يشار الى ان الهجرة من العراق هي ثاني اكبر هجرة في منطقة الشرق الأوسط بعد تهجير الفلسطينيين على ايدي قوات الاحتلال الإسرائيلي. كان للغزو الأميركي اليد الطولى في ما لحق بالاقتصاد العراقي من دمار شامل طال بنيته الأساسية، وضاعف معدلات الانخفاض في نمو الناتج المحلي والإجمالي وارتفاع نسبة البطالة إلى جانب الفقر، إضافة إلى ما يعانيه الاقتصاد أساساً، على مدى عقود من الحروب السابقة، فضلاً عن كونه يعتمد على النفط بشكل أساسي مع إهمال بقية القطاعات الاقتصادية الأخرى كالزراعة والصناعة. وقدرت الخسائر الاقتصادية للعراق ما بعد الغزو بـ 450 مليار دولار أميركي كنتيجة لتدمير البنى التحتية، فضلاً عما لحق بالمتاحف والآثار والأموال العامة التي تمت سرقتها. وقد أصدرت الإدارة الأميركية في 28 ايار العام 2003 قراراً يحمل الرقم 3303 بوضع اليد على الأموال العراقية المودعة في البنوك الأجنبية، وقد قدرت بـ13 مليار دولار. ووضعت سلطة الاحتلال، بموافقة الأمم المتحدة، يدها على عائدات برنامج «النفط مقابل الغذاء»، التي كانت لغاية آذار 2003، تبلغ 21 مليار دولار والمودعة في «البنك الوطني الفرنسي»، (فرع نيويورك)، حيث تم فتح هذا الحساب منذ العام 1996. كما كشفت هيئة الاستشارات والرقابة الدولية، التي تم تشكيلها طبقا لقرار مجلس الأمن 1483 الصادر في 22 ايار العام 2003، في احد تقاريرها وقائع عن هدر أموال «صندوق التنمية العراقي» المودعة فيه إبان وجود سلطة الإدارة الموقتة التي كان يترأسها بول بريمر البالغة 20 مليارا و200 مليون دولار، وتضمنت عائدات النفط العراقي بحدود 11 مليار دولار، وقد انفق منها 11 مليارا و300 مليون دولار. أما تكلفة الحرب المباشرة على الجانب الأميركي فتتراوح بحسب جوزف ستيغليتز، الحائز جائزة نوبل للاقتصاد والمسؤول السابق في البنك الدولي، بين 2 إلى 3 تريليونات دولار، فيما قدرتها جامعة «براون» الأميركية من 3 الى 4 تريليونات، من ضمنها المصابون وذوو الحاجات المستدامة من الجيش الأميركي الذين يندرجون ضمن التكلفة التكميلية. الى كل هذا يضاف الفساد المالي والإداري، الذي تراكم بسبب سياسات غض الطرف الأميركي، ووصل إلى أعلى نسب المستويات في العالم بحسب منظمة الشفافية العالمية، حيث احتل العراق في تقرير العام 2011 المرتبة 175 بين 182 دولة، «متنافسا» مع الصومال وأفغانستان والسودان. وكانت النتيجة وقوع نسبة مرتفعة من أبناء الشعب العراقي تحت خط الفقر، بسبب البطالة وسوء تقسيم الثروات، حيث تقول وزارة حقوق الإنسان العراقية ان سبعة ملايــين عراقــي يعيش حالة هي أدنى من مستوى خط الفقر. أما التعليم فوصل لأدنى مستوياته، حيث الأمية تفوق الـ 20 في المئة، بحسب مكتب «اليونسكو» - العراق في العام 2011. وذلك بسبب الهروب الى العسكرة والالتحاق بالمؤسسات الأمنية نتيجة عدم الحصول على فرص العمل لحملة الشهادات ومتخرجي المعاهد والجامعات. كما نتيجة عامل العنف الذي اجبر الإناث في مجتمع تحكمه الذكورية على ملازمة البيوت وعدم الاستمرار في طلب العلم، لما تعرضت له الكثير من مدارس ومعاهد وجامعات البنات الى عمليات خطف ممنهجة وتعرضت الطالبات لعمليات اغتصاب تبعها قتل. اضافة الى تفجير كبرى الجامعات، كما حدث في التفجير الانتحاري المزدوج، الذي قامت بواحد منه انتحارية بلجيكية، في الجامعة المستنصرية، وخلف عشرات الضحايا غير التعليم العالي ضحية. والأمية في العراق دفعت الى بروز ظاهرة فساد جديدة في المجتمع العراقي، حيث الآلاف من الشهادات المزورة للمسؤولين والضباط والمدراء العامين وكوادر الأحزاب الذين يشغلون مناصب قــيادية في الدولة، بحسب هيــئة النزاهة العراقية. عمليات الدم التي أربكت أمن الشارع العراقي والمواطن، كانت ترتبط بأجهزة مشبوهة وعمليات يرتدي فيها البعض لباسا امنيا رسميا، ومنها ما قد ارتبط بالشركات الأمنية، والبالغ عددها او المصرح عنه منها 126 شركة أمنية تدار في غالبيتها من الأجهزة الاستخبارية الأجنبية مسجلة في وزارة الداخلية العراقية، وقد تقلصت الى النصف في بداية العام 2012. الحديث عن المأساة العراقية يفوق الأرقام، لأنه حديث ينخر في العظام. عظام ركام دولة غدت حطاما، بعد ان سرق حتى أرشيفها ومخطوطات حضارتها وارثها وآثارها ومكتباتها، وتبدلت بها الوطنية بالطائفية والمذهبية. عن ذلك يقول وكيل وزير الثقافة العراقي السيد جابر الجابري لـ«السفير» في ذكرى غزو العراق، «ان الولايات المتحدة تمكنت من إجهاض حلمنا كمثقفين وددنا ان تبنى الحرية في العراق وان نكون أحرارا. وما وجدناه أنها حطمت النفوس واشترت الناس وحاولت جاهدة لطمس هوية العراق الحضارية والثقافية، كما أنها تذكرنا بهولاكو وغزوه بغداد وإحراقه وإغراقه المكتبات في دجلة».

المصدر : الماسة السورية


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة