يبدو أن ليبيا قد دخلت في مرحلة مفصلية بعد إعلان قبائل الشرق تشكيل إقليم فدرالي يستمد «شرعيته» من الدستور الذي أقر في عهد الملك إدريس السنوسي عام 1951، في تطوّر ينتظر أن يذكي الاستقطاب الحاد الذي يشهده المجتمع الليبي منذ سقوط نظام معمر القذافي، بالنظر إلى تداعياته التي يخشى كثيرون أن تؤدي إلى جنوح البلاد نحو سيناريوهات التقسيم والانفصال.

وفي مؤتمر جماهيري حاشد عقد أمس الأول في بنغازي تحت شعار «ليبيا دولة موحدة»، أعلن نحو خمسة آلاف من الناشطين السياسيين والزعماء القبليين تشكيل المجلس التأسيسي لإقليم برقة برئاسة أحمد الزبير، وهو من بين الأعضاء المؤسسين للمجلس الوطني الانتقالي الذي يحكم البلاد منذ سقوط نظام القذافي.

وأصدر المشاركون في المؤتمر بياناً تحت عنوان «ميثاق برقة للعيش المشترك»، طالبوا فيه بالعودة إلى الدستور الملكي، رافضين الإعلان الدستوري الصادر عن المجلس الوطني الانتقالي، ومشددين على أن «نظام الاتحاد الفيدرالي يُعد خياراً لإقليم برقة في إطار دولة ليبية مدنية ودستورية تكون شريعتها الإسلام».

وفي مقابل ذلك، سعى المشاركون في المؤتمر إلى طمأنة الليبيين بأن خيارهم الفدرالية وليس التقسيم، مستشهدين في هذا الخصوص بالأنظمة المشابهة في الولايات المتحدة وألمانيا وسويسرا واستراليا.

ويقول الباحث في الشؤون السياسية الليبية أنس بعيرة لـ«السفير» إن «كثيرين نظروا إلى هذا الإعلان على انه مقدمة لانفصال إقليم، لكن هذا الأمر عار عن الصحة»، مشدداً على أن «الإقليم لا يبحث عن الانفصال وإنما ينشد العودة إلى الشرعية الدستورية التي تأسست عليها الدولة الليبية في العام 1951».

ويشير بعيرة إلى أن «ليبيا استقلت عبر النظام الفدرالي الاتحادي برعاية الأمم المتحدة، حيث صدر قرار عن المنظمة الدولية في العام 1949 قضى باستقلال البلاد، على أن يتم ترتيب شكل الدولة والدستور وفقاً للحقائق التاريخية للأقاليم».

ويوضح أن «ليبيا لم تكن دولة بهذا الاسم قبل العام 1951، بل كانت عبارة عن ثلاثة أقاليم هي برقة وفزان وطرابلس، وقد تم تأسيس الدولة من قبل لجنة ضمت 60 عضواً، بمساعدة الأمم المتحدة ومبعوثها الخاص أدريان بيلت، وقد راعت هذه اللجنة في تشكيها التمثيل العادل المتساوي بواقع 20 ممثلاً عن كل إقليم».

ويضيف بعيرة أن «ليبيا استقرت على النظام الفدرالي لنحو 13 عاماً» (1951 – 1963)، قبل أن يلغى في العام 1964 «بشكل مشبوه ومخالف للدستور»، بحيث جرى استحداث عشر محافظات «بما لا يلائم الطبيعة الليبية».

ويرى بعيرة أن إلغاء الفدرالية «جعل الأقاليم الليبية تخضع لسلطة وزير الداخلية (الأمن) ما مهد الطريق أمام معمر القذافي للاستيلاء على السلطة، لتدخل البلاد في دكتاتورية عمرها 42 عاماً».

ويشدد بعيرة على أن «ما حدث بالأمس يشكل عودة إلى الشرعية الدستورية الحقيقية، وقد تم ذلك بمبادرة من إقليم برقة، وذلك لتحفيز باقي الأقاليم على العودة إلى الدستور الشرعي المعطل»، مشدداً على أن «هذه الخطوة قانونية وشرعية وسليمة».

خصوصية برقة

يُذكر أن إقليم برقة يمتد بين بلدة بني جواد قرب خليج سرت غرباً ونقطة أمساعد الحدودية بين ليبيا ومصر شرقاً. وبالرغم من أن دستور العام 1951 قد كرس الوحدة بين برقة (الشرق) وطرابلس (الغرب) وفزان (الجنوب)، إلا أن خضوع ليبيا لنظام مركزي صارم طوال أكثر من أربعة عقود، جعل أهالي برقة متمسكين بالدفاع عن خصوصية مجتمعهم المستندة إلى جملة عوامل تاريخية واقتصادية واجتماعية ودينية.

ومن بين العوامل الجغرافية، يشار إلى أن الأقاليم الثلاثة تبدو في حال من عدم الترابط، بسبب وجود مساحات صحراوية شاسعة تفصل في ما بينها.

وفي ظل غياب شبكة مواصلات فعلية ـ باستثناء الطريق السريع الوحيد الذي يربط بين طرابلس وبنغازي ـ فإن التواصل بين سكان الأقاليم الثلاثة كان وما زال صعباً، ولذلك فقد بات ليبيو الشرق يعتبرون أنفسهم أقرب إلى مصر منه إلى طرابلس، فيما يعتبر ليبيو الغرب أنفسهم أقرب إلى المغرب العربي منه إلى بنغازي.

أما على المستوى التاريخي، فإن سكان برقة يشددون على أن ثمة خصوصية محلية لإقليمهم، ويشمل ذلك بعدين: البنية الاجتماعية القبلية المتمايزة عن تلك القائمة في الغرب، والبنية السياسية الخاصة، والمتمثلة بشبكة علاقات اقتصادية وقبلية تكوّنت منذ أن تمكن عالم الدين الجزائري محمد السنوسي (السنوسي الأكبر) في أواسط القرن التاسع عشر من توحيد قبائل الشرق، ونجاح هذا التحالف القبلي في السيطرة على الطرق التجارية بين أفريقيا الوسطى وساحل البحر المتوسط.

وثمة بعد آخر لا يقل أهمية في تشكيل هذه الخصوصية، وهو السنوسية، بوصفها طريقة صوفية ـ إصلاحية اقتصر انتشارها على الشرق الليبي.

وقد جاءت السياسات القمعية والتعسفية التي انتهجها معمر القذافي لتعزز شعور الأهالي بأن إقليمهم قد سلب منهم لصالح نظام مركزي استبدادي، ولهذا لم يكن مستغرباً أن تهب رياح «ثورة 17 فبراير» من الشرق الليبي.

بين مؤيد ومعارض

يبرر المدافعون عن خيار الفدرالية مطالبهم بـ«الفشل الذريع للدولة المركزية»، والذي أدى بنظرهم إلى تهميش الشرق الليبي. ويشددون على أنه في ظل الجهود المبذولة لإعادة بناء الدولة بعد رحيل القذافي، فإن العودة إلى نظام الاتحاد الفدرالي الذي كان قائماً قبل الثورة هو الخيار الأفضل لتعزيز الوحدة في البلاد وليس العكس.

ويشير المدافعون عن خيار الفدرالية إلى أن التطورات التي أعقبت سقوط نظام القذافي تظهر أن الذهنية الاستبدادية في الحكم لم تتغير. وثمة شعور لدى هؤلاء بأن قبائل طرابلس «سرقت الثورة»، بعد حصولها على حصة الأسد في ترسانة القذافي العسكرية، واستحواذها على معظم الحقائب الوزارية السيادية. ويضيفون إلى ذلك أن مشروع قانون الانتخابات لم يخصص للمناطق الشرقية سوى 60 مقعداً من أصل إجمالي 200 مقعد في البرلمان الجديد (خصص القانون لطرابلس وحدها 102 مقعد)، وهو ما برره المجلس الانتقالي بالقول إن قانون الانتخابات يجب أن يعكس التمثيل الديموغرافي أكثر منه المناطقي.

أما المعارضون للفدرالية، وعلى رأسهم رئيس المجلس الانتقالي مصطفى عبد الجليل، فيرون أن اعتماد هذا الخيار ينذر بمخاطر التقسيم في بلد ما زال ينزف بعد حرب أهلية أعقبت 40 عاماً من الحكم الدكتاتوري.

ولذلك، فقد توعّد عبد الجليل باستخدام القوة لمنع «تقسيم ليبيا»، بعدما اتهم دولاً عربية بتغذية الفتنة في الشرق الليبي «لكي لا ينتقل إليها طوفان الثورة».

وكان رئيس الحكومة الانتقالية في ليبيا عبد الرحيم الكيب، قد علق على المطالب بالفدرالية، في حديث للفضائية الليبية قبل يومين من إعلان برقة، قائلاً «نحن لسنا مضطرين للمركزية، لأنها أسلوب مقيت ومتخلف وغير مقبول في القرن الحادي والعشرين... وكذلك لسنا مضطرين إلى الرجوع إلى الوراء 50 عاماً... ولسنا مضطرين للعودة إلى الفدرالية التي رفضها وألغاها الملك إدريس السنوسي، ووحد ليبيا، عندما كانت نظاماً فدرالياً». لكنه شدد في المقابل على أن حكومته تطمح إلى اعتماد اللامركزية الإدارية لتفعيل الحكم المحلي.

تداعيات تقسيمية؟

ولم يتضح بعد كيف سيتعامل الداعون إلى الفدرالية مع الرفض الذي قوبل به طرحهم من قبل المجلس الانتقالي، وإن كان ثمة من ألمح إلى احتمال اللجوء إلى الأمم المتحدة لهذا الغرض، ما سيقود عملياً إلى المطالبة باستفتاء شعبي على غرار تجارب مماثلة حول العالم.

وفي هذا الإطار، يشدد أنس بعيرة في حديثه لـ«السفير»، على أن «المجلس الوطني الانتقالي لم يستند في تشكيله إلى شرعية التمثيل السياسي، وهو يفتقر بذلك إلى تفويض شعبي سليم، وإذا لم يتدارك هذا الأمر، ويعود إلى كنف الشرعية الدستورية (دستور العام 1951)، فإنه سيواجه بالتأكيد أزمة حكم، وعندها قد نصبح أمام سيناريوهات خطيرة».

ويرى بعيرة أن «الاتجاه العالمي في الوقت الحالي، وخصوصاً بعد المؤتمرات التي عقدتها الأمم المتحدة في بداية الألفية، هو دعوة كافة الدول إلى إصلاح نظمها السياسية من خلال الاتجاه نحو العدالة المتساوية بين الأقاليم عبر اللامركزية السياسية، وإلا فإنها ستكون عرضة لأزمات عديدة».

ولكن في دولة مثل ليبيا، يخشى كثر من أن أي مغامرة سياسية من هذا القبيل قد تقود إلى حرب أهلية وتقسيم للبلاد، خاصة أن وسائل الإعلام الأجنبية تحفل بتقارير حول وجود خطة لتقسيم ليبيا إلى خمسة أقاليم هي برقة وطرابلس ومصراتة وجبل نفوسة وفزان.

وفي أحدث تقرير له، تناول مركز «ستراتفور» الأميركي أربع ظواهر رئيسية مرتبطة بالحديث عن الفدرالية في ليبيا وهي:

ـ الانتخابات المحلية في مدينة مصراتة (غرب) ـ وهي غالباً ما تصنف ضمن إطار «الدولة ـ المدينة» – التي أفضت إلى استبدال المجلس المحلي المعين من قبل المجلس الوطني الانتقالي.

ـ الاشتباكات التي وقعت في بلدة بني وليد بين مسلحين موالين للمجلس الانتقالي وآخرين من مناصري القذافي، والتي انتهت بطرد مقاتلي المجلس الانتقالي من البلدة.

ـ الاشتباكات القبلية في منطقة الكفرة (جنوب شرق).

ـ الانفلات الأمني في منطقة جبل نفوسة (غرب).

وإذا ما أضيفت إلى ذلك مجموعة من القضايا المثيرة للقلق، من بينها حالة الاستقطاب الحادة داخل المجتمع الليبي وانتشار السلاح في أيدي الميليشيات، تبقى الخشية على وحدة ليبيا أمراً مبرراً أياً تكن مشروعية المطالب التي يرفعها سكان المناطق المهمّشة... فقد صدق من قال إن «الطريق إلى جهنم مفروشة بالنوايا الحسنة».

  • فريق ماسة
  • 2012-03-07
  • 10319
  • من الأرشيف

«فدرالية برقة»: هل هي بداية التقسيم؟

يبدو أن ليبيا قد دخلت في مرحلة مفصلية بعد إعلان قبائل الشرق تشكيل إقليم فدرالي يستمد «شرعيته» من الدستور الذي أقر في عهد الملك إدريس السنوسي عام 1951، في تطوّر ينتظر أن يذكي الاستقطاب الحاد الذي يشهده المجتمع الليبي منذ سقوط نظام معمر القذافي، بالنظر إلى تداعياته التي يخشى كثيرون أن تؤدي إلى جنوح البلاد نحو سيناريوهات التقسيم والانفصال. وفي مؤتمر جماهيري حاشد عقد أمس الأول في بنغازي تحت شعار «ليبيا دولة موحدة»، أعلن نحو خمسة آلاف من الناشطين السياسيين والزعماء القبليين تشكيل المجلس التأسيسي لإقليم برقة برئاسة أحمد الزبير، وهو من بين الأعضاء المؤسسين للمجلس الوطني الانتقالي الذي يحكم البلاد منذ سقوط نظام القذافي. وأصدر المشاركون في المؤتمر بياناً تحت عنوان «ميثاق برقة للعيش المشترك»، طالبوا فيه بالعودة إلى الدستور الملكي، رافضين الإعلان الدستوري الصادر عن المجلس الوطني الانتقالي، ومشددين على أن «نظام الاتحاد الفيدرالي يُعد خياراً لإقليم برقة في إطار دولة ليبية مدنية ودستورية تكون شريعتها الإسلام». وفي مقابل ذلك، سعى المشاركون في المؤتمر إلى طمأنة الليبيين بأن خيارهم الفدرالية وليس التقسيم، مستشهدين في هذا الخصوص بالأنظمة المشابهة في الولايات المتحدة وألمانيا وسويسرا واستراليا. ويقول الباحث في الشؤون السياسية الليبية أنس بعيرة لـ«السفير» إن «كثيرين نظروا إلى هذا الإعلان على انه مقدمة لانفصال إقليم، لكن هذا الأمر عار عن الصحة»، مشدداً على أن «الإقليم لا يبحث عن الانفصال وإنما ينشد العودة إلى الشرعية الدستورية التي تأسست عليها الدولة الليبية في العام 1951». ويشير بعيرة إلى أن «ليبيا استقلت عبر النظام الفدرالي الاتحادي برعاية الأمم المتحدة، حيث صدر قرار عن المنظمة الدولية في العام 1949 قضى باستقلال البلاد، على أن يتم ترتيب شكل الدولة والدستور وفقاً للحقائق التاريخية للأقاليم». ويوضح أن «ليبيا لم تكن دولة بهذا الاسم قبل العام 1951، بل كانت عبارة عن ثلاثة أقاليم هي برقة وفزان وطرابلس، وقد تم تأسيس الدولة من قبل لجنة ضمت 60 عضواً، بمساعدة الأمم المتحدة ومبعوثها الخاص أدريان بيلت، وقد راعت هذه اللجنة في تشكيها التمثيل العادل المتساوي بواقع 20 ممثلاً عن كل إقليم». ويضيف بعيرة أن «ليبيا استقرت على النظام الفدرالي لنحو 13 عاماً» (1951 – 1963)، قبل أن يلغى في العام 1964 «بشكل مشبوه ومخالف للدستور»، بحيث جرى استحداث عشر محافظات «بما لا يلائم الطبيعة الليبية». ويرى بعيرة أن إلغاء الفدرالية «جعل الأقاليم الليبية تخضع لسلطة وزير الداخلية (الأمن) ما مهد الطريق أمام معمر القذافي للاستيلاء على السلطة، لتدخل البلاد في دكتاتورية عمرها 42 عاماً». ويشدد بعيرة على أن «ما حدث بالأمس يشكل عودة إلى الشرعية الدستورية الحقيقية، وقد تم ذلك بمبادرة من إقليم برقة، وذلك لتحفيز باقي الأقاليم على العودة إلى الدستور الشرعي المعطل»، مشدداً على أن «هذه الخطوة قانونية وشرعية وسليمة». خصوصية برقة يُذكر أن إقليم برقة يمتد بين بلدة بني جواد قرب خليج سرت غرباً ونقطة أمساعد الحدودية بين ليبيا ومصر شرقاً. وبالرغم من أن دستور العام 1951 قد كرس الوحدة بين برقة (الشرق) وطرابلس (الغرب) وفزان (الجنوب)، إلا أن خضوع ليبيا لنظام مركزي صارم طوال أكثر من أربعة عقود، جعل أهالي برقة متمسكين بالدفاع عن خصوصية مجتمعهم المستندة إلى جملة عوامل تاريخية واقتصادية واجتماعية ودينية. ومن بين العوامل الجغرافية، يشار إلى أن الأقاليم الثلاثة تبدو في حال من عدم الترابط، بسبب وجود مساحات صحراوية شاسعة تفصل في ما بينها. وفي ظل غياب شبكة مواصلات فعلية ـ باستثناء الطريق السريع الوحيد الذي يربط بين طرابلس وبنغازي ـ فإن التواصل بين سكان الأقاليم الثلاثة كان وما زال صعباً، ولذلك فقد بات ليبيو الشرق يعتبرون أنفسهم أقرب إلى مصر منه إلى طرابلس، فيما يعتبر ليبيو الغرب أنفسهم أقرب إلى المغرب العربي منه إلى بنغازي. أما على المستوى التاريخي، فإن سكان برقة يشددون على أن ثمة خصوصية محلية لإقليمهم، ويشمل ذلك بعدين: البنية الاجتماعية القبلية المتمايزة عن تلك القائمة في الغرب، والبنية السياسية الخاصة، والمتمثلة بشبكة علاقات اقتصادية وقبلية تكوّنت منذ أن تمكن عالم الدين الجزائري محمد السنوسي (السنوسي الأكبر) في أواسط القرن التاسع عشر من توحيد قبائل الشرق، ونجاح هذا التحالف القبلي في السيطرة على الطرق التجارية بين أفريقيا الوسطى وساحل البحر المتوسط. وثمة بعد آخر لا يقل أهمية في تشكيل هذه الخصوصية، وهو السنوسية، بوصفها طريقة صوفية ـ إصلاحية اقتصر انتشارها على الشرق الليبي. وقد جاءت السياسات القمعية والتعسفية التي انتهجها معمر القذافي لتعزز شعور الأهالي بأن إقليمهم قد سلب منهم لصالح نظام مركزي استبدادي، ولهذا لم يكن مستغرباً أن تهب رياح «ثورة 17 فبراير» من الشرق الليبي. بين مؤيد ومعارض يبرر المدافعون عن خيار الفدرالية مطالبهم بـ«الفشل الذريع للدولة المركزية»، والذي أدى بنظرهم إلى تهميش الشرق الليبي. ويشددون على أنه في ظل الجهود المبذولة لإعادة بناء الدولة بعد رحيل القذافي، فإن العودة إلى نظام الاتحاد الفدرالي الذي كان قائماً قبل الثورة هو الخيار الأفضل لتعزيز الوحدة في البلاد وليس العكس. ويشير المدافعون عن خيار الفدرالية إلى أن التطورات التي أعقبت سقوط نظام القذافي تظهر أن الذهنية الاستبدادية في الحكم لم تتغير. وثمة شعور لدى هؤلاء بأن قبائل طرابلس «سرقت الثورة»، بعد حصولها على حصة الأسد في ترسانة القذافي العسكرية، واستحواذها على معظم الحقائب الوزارية السيادية. ويضيفون إلى ذلك أن مشروع قانون الانتخابات لم يخصص للمناطق الشرقية سوى 60 مقعداً من أصل إجمالي 200 مقعد في البرلمان الجديد (خصص القانون لطرابلس وحدها 102 مقعد)، وهو ما برره المجلس الانتقالي بالقول إن قانون الانتخابات يجب أن يعكس التمثيل الديموغرافي أكثر منه المناطقي. أما المعارضون للفدرالية، وعلى رأسهم رئيس المجلس الانتقالي مصطفى عبد الجليل، فيرون أن اعتماد هذا الخيار ينذر بمخاطر التقسيم في بلد ما زال ينزف بعد حرب أهلية أعقبت 40 عاماً من الحكم الدكتاتوري. ولذلك، فقد توعّد عبد الجليل باستخدام القوة لمنع «تقسيم ليبيا»، بعدما اتهم دولاً عربية بتغذية الفتنة في الشرق الليبي «لكي لا ينتقل إليها طوفان الثورة». وكان رئيس الحكومة الانتقالية في ليبيا عبد الرحيم الكيب، قد علق على المطالب بالفدرالية، في حديث للفضائية الليبية قبل يومين من إعلان برقة، قائلاً «نحن لسنا مضطرين للمركزية، لأنها أسلوب مقيت ومتخلف وغير مقبول في القرن الحادي والعشرين... وكذلك لسنا مضطرين إلى الرجوع إلى الوراء 50 عاماً... ولسنا مضطرين للعودة إلى الفدرالية التي رفضها وألغاها الملك إدريس السنوسي، ووحد ليبيا، عندما كانت نظاماً فدرالياً». لكنه شدد في المقابل على أن حكومته تطمح إلى اعتماد اللامركزية الإدارية لتفعيل الحكم المحلي. تداعيات تقسيمية؟ ولم يتضح بعد كيف سيتعامل الداعون إلى الفدرالية مع الرفض الذي قوبل به طرحهم من قبل المجلس الانتقالي، وإن كان ثمة من ألمح إلى احتمال اللجوء إلى الأمم المتحدة لهذا الغرض، ما سيقود عملياً إلى المطالبة باستفتاء شعبي على غرار تجارب مماثلة حول العالم. وفي هذا الإطار، يشدد أنس بعيرة في حديثه لـ«السفير»، على أن «المجلس الوطني الانتقالي لم يستند في تشكيله إلى شرعية التمثيل السياسي، وهو يفتقر بذلك إلى تفويض شعبي سليم، وإذا لم يتدارك هذا الأمر، ويعود إلى كنف الشرعية الدستورية (دستور العام 1951)، فإنه سيواجه بالتأكيد أزمة حكم، وعندها قد نصبح أمام سيناريوهات خطيرة». ويرى بعيرة أن «الاتجاه العالمي في الوقت الحالي، وخصوصاً بعد المؤتمرات التي عقدتها الأمم المتحدة في بداية الألفية، هو دعوة كافة الدول إلى إصلاح نظمها السياسية من خلال الاتجاه نحو العدالة المتساوية بين الأقاليم عبر اللامركزية السياسية، وإلا فإنها ستكون عرضة لأزمات عديدة». ولكن في دولة مثل ليبيا، يخشى كثر من أن أي مغامرة سياسية من هذا القبيل قد تقود إلى حرب أهلية وتقسيم للبلاد، خاصة أن وسائل الإعلام الأجنبية تحفل بتقارير حول وجود خطة لتقسيم ليبيا إلى خمسة أقاليم هي برقة وطرابلس ومصراتة وجبل نفوسة وفزان. وفي أحدث تقرير له، تناول مركز «ستراتفور» الأميركي أربع ظواهر رئيسية مرتبطة بالحديث عن الفدرالية في ليبيا وهي: ـ الانتخابات المحلية في مدينة مصراتة (غرب) ـ وهي غالباً ما تصنف ضمن إطار «الدولة ـ المدينة» – التي أفضت إلى استبدال المجلس المحلي المعين من قبل المجلس الوطني الانتقالي. ـ الاشتباكات التي وقعت في بلدة بني وليد بين مسلحين موالين للمجلس الانتقالي وآخرين من مناصري القذافي، والتي انتهت بطرد مقاتلي المجلس الانتقالي من البلدة. ـ الاشتباكات القبلية في منطقة الكفرة (جنوب شرق). ـ الانفلات الأمني في منطقة جبل نفوسة (غرب). وإذا ما أضيفت إلى ذلك مجموعة من القضايا المثيرة للقلق، من بينها حالة الاستقطاب الحادة داخل المجتمع الليبي وانتشار السلاح في أيدي الميليشيات، تبقى الخشية على وحدة ليبيا أمراً مبرراً أياً تكن مشروعية المطالب التي يرفعها سكان المناطق المهمّشة... فقد صدق من قال إن «الطريق إلى جهنم مفروشة بالنوايا الحسنة».

المصدر : الاخبار


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة