دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
بعد الفوز الكبير لفلاديمير بوتين بولاية رئاسية ثالثة، هل يمكن الحديث عن تحول جوهري في مواقف موسكو على الجبهة الدبلوماسية، وتحديدا في الملف السوري الذي تجمع غالبية المراقبين على أن الكرملين استخدمه بفعالية في الدعاية الانتخابية لرئيس الوزراء الحائز قصب السبق في انتخابات أمس
منافسو بوتين، غينادي زيوغانوف وفلاديمير جيرينوفسكي وسيرغي ميرونوف، التحفوا أيضا بأوراق الملف السوري، من منطلق التأشير على التضامن مع الكرملين في موقفه "الصارم" إزاء "العنجهية الغربية والأميركية". إلا أن ضربتي الفيتو اللتين سددتهما الدبلوماسية الروسية بعد سنوات طويلة من التخادم مع الغرب في مجلس الأمن الدولي، خلقت التفافاً شعبياً حول بوتين كان لفترة قريبة يبدو مهزوزاً، وسط تكهنات ذهبت إلى أن رئيس الوزراء قد لا يفوز من الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية. واستندت مخاوف المتشائمين إلى الأداء الضعيف لحزب السلطة "روسيا الموحدة" في الانتخابات النيابية الأخيرة.
لاءات الكرملين السورية
لكن حزب الثنائي بوتين ميدفيديف أطلق حملة دعائية غير مسبوقة عبر تعبئة شعبية عالية الوتيرة، انخرطت فيها كل أدوات التأثير على الرأي العام، في مقدمتها وسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية، و"نصائح" مدراء المؤسسات والمصالح الحكومية لموظفيهم بالاقتراع لمصلحة بوتين... والكنيسة الأرثوذكسية التي قام راعيها بطريرك عموم روسيا كيريل بزيارة إلى أرض الشام في أواسط شباط الماضي، وهي زيارة ما كانت لتتم من دون ضوء أخضر من الكرملين، حفلت بإشارات تحذر من "الضغوط الخارجية" على سوريا، الأمر الذي فسر داخليا وإقليميا وكأن الكنيسة الروسية تقف إلى جانب نظام الرئيس بشار الأسد، وتدعو معارضيه إلى الحوار، في تطابق مع موقف مؤسسة الحكم الروسية.
وعلى مدى ثلاثة أشهر من الحملة الانتخابية، لم تنقطع الدوائر الروسية عن التذكير بموقفها من الأزمة في سوريا في سياق واحد، الكرملين، وزارة الخارجية، مجلس الدوما (النواب)، ومجلس الاتحاد (الشيوخ)، ودوائر المخابرات، إضافة إلى معاهد الأبحاث والدراسات الرسمية، وتلك التي توصف بأنها "خاصة".
موقف يتلخص بثلاث لاءات: لن نسمح بالتدخل العسكري في سوريا، لن نقبل بتبرئة المعارضة من أعمال العنف المسلح، ولن نوافق على أي قرار يدين قيادة الرئيس الأسد.
فلاديمير بوتين الذي استعاد تقليداً سوفياتياً غابراً بكتابة مقالات "رئاسية" في الصحف، أفرد مساحة واسعة للأزمة السورية، مشددا على "المنطلقات المبدئية" لتعامل موسكو مع "النظام العالمي" الذي "لن يستقيم بهيمنة طرف واحد على صنع القرارات الدولية".
عشاء صحافي
بيد أن الفائز بولاية رئاسية ثالثة ستمتد لأعوام ستة، استقبل عشية الانتخابات مجموعة من رؤساء التحرير ومراسلي عدد من الصحف العالمية الكبرى، وتحدث معهم خلال مائدة عشاء بلغة لا تختلف في الجوهر عن خطابه السياسي إلى مواطنيه، لكنها تتمايز في الإيقاع، فقد ركز بوتين، الحائز لحزام الأسود في لعبة "الجودو" التي تمتاز بمباغتة الخصم، على فكرة أن الرئيس الأسد ليس الحليف الأثير لموسكو، قائلاً "ليست لدينا علاقات مميــزة مع الرئيس الأسد، حتى أنه زارنا بعد ثلاث سنــوات من توليــه الرئاســة، وقبلنا زار لندن وباريس".
وأبلغ بوتين ضيوفه بأن مصالح بلاده في سوريا "أقل بكثير من مصالح الغرب هناك"، وقال "لسنا محامي دفاع عن طرف ما بل لدينا موقف مبدئي حول كيفية حل النزاعات المماثلة"، واصفا ما يجري في سوريا بأنه "صراع أهلي مسلح". وأبدى بوتين استعداد بلاده للتعاون مع الغرب وصولا إلى "التسوية السياسية في سوريا إذا عرضت على النظام ومعارضيه الشروط نفسها".
مواقف لا تحمل جديداً، لكنها فسرت على أن بوتين الرئيس يختلف عن المرشح للرئاسة، وان الغرب سيجد أخيرا لغة مشتركة مع موسكو في الشأن السوري. وترافقت تصريحات بوتين لضيوفه الصحافيين مع مقابلة مطولة نشرت في اليوم ذاته على صفحات "راسيسكايا غازيتا"، لسان حال الحكومة الروسية لوزير الخارجية سيرغي لافروف، قال فيها إن "روسيا لا تدافع عن النظام السوري بل عن العدالة".
وفي المؤتمر الصحافي المشترك مع نظيره الأردني ناصر جودة يوم 5 آذار في موسكو، أكد لافروف انه سيشارك في مؤتمر وزراء خارجية الجامعة العربية المزمع في القاهرة يوم العاشر من آذار الحــالي، مشــيرا إلى أن موسكو "توافق على مبادرات الجامعة العربية من حيث الاستراتيجية، وإذا كان ثمة خلافات فإنها تتعلق بالناحية التكتيكية".
وقال "نسمع من الولايات المتحدة مطالبات بالشأن السوري عليهم أيضا الاستماع إلى مطالبنا بشأن نزاع الشرق الأوسط ومكافحة تجارة المخدرات في أفغانستان".
تعاون سياسي
يرى المراقبون في العاصمة الروسية، ان الكرملين ليس في وارد تغيير الموقف من القيادة السورية بزاوية حادة، إلا أن مزيدا من إشارات التفاهم مع الغرب ستظهر في الفترة المقبلة.
ويذهب بعض المحللين إلى الاعتقاد بأن أي تحول في موقف موسكو من الملف السوري سيترافق مع شروط روسية بشأن حزمة قضايا متعثرة في طريق "إعادة تشغيل" العلاقات الروسية الأميركية، وعلى رأسها التخلي عن مشروع الدرع الصاروخية الأميركية في وسط وشرق وجنوب أوروبا، والتي ترى فيها روسيا تهديدا لأمنها القومي، بالإضافة على رفع واشنطن القيود على التجارة مع الولايات المتحدة ومنح روسيا وضع الدولة الأولى بالرعاية في المعاملات التجارية، والاتفاق على ميثاق أمن الطاقة العالمي ومنظومة مشتركة للأمن الأوروبي، والكف عن اللعب في الحديقة الخلفية لروسيا أي آسيا الوسطى السوفياتية سابقا والقوقاز، فضلاً عن العمل الجدي المشترك لمكافحة الاتجار بالمخدرات من أفغانستان، والتي يذهب آلاف الروس ضحية أزهارها النامية في بلد تقول الولايات المتحدة إنها تريد إعادته إلى الحياة العصرية فيما تغمض عيونها على تجارة المخدرات وفق التقارير الروسية، إلى جانب عدد آخر من الملفات العالقة بين موسكو وواشنطن نكأتها الأزمة السورية.
وقد ذكّر بوتين على العشاء ضيوفه الصحافيين الغربيين بكل تلك الملفات قائلا "إذا استمعتم إلى ما يقوله الأميركيون بخصوص حملتنا الانتخابية فإننا نعتبرها معادية لروسيا".
فائض قيمة العداوة
يبدو أن العلاقات الروسية الأميركية لن تشهد خطوات واسعة نحو التحسن في المدى القريب وربما المتوسط، وتداعيات ذلك على الملف السوري الذي يتهم نائب وزير الخارجية الروسية سيرغي ريباكوف الغرب بغياب "الإرادة السياسية" في تسويته، ويطالب الولايات المتحدة وحلفاءها والجامعة العربية بالتأثير على المعارضة السورية. وقد قال في مؤتمر صحافي أمس "ليست موسكو وحدها تؤثر على دمشق"، وأضاف "ينبغي الاتفاق على عمل مشترك يتضمن المسائل الإنسانية ومراعاة حقوق الإنسان وإجراء إصلاحات في سوريا".
وفي مؤشر إلى أن واشنطن لا تخفي عدم ارتياحها من فوز بوتين، لم يغفل البيان الصحافي الصادر عن وزارة الخارجية الأميركية لمناسبة انتهاء الانتخابات الروسية على "الخروقات التي رافقت الانتخابات"، وجاء فيه "نهنئ الشعب الروسي بانتهاء عملية الانتخابات"، وهي صيغة يرى فيها المراقبون دلالة على أن البيان لا يتوجه إلى بوتين. وأكد البيان تأييد الخارجية الأميركية لتقرير بعثة مراقبي منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، والذي شكك في نزاهة الانتخابات.
في واقع الحال فإن العداء الأميركي لروسيا بوتين كان سعر صرفه عاليا، عشرات ملايين الأصوات لمصلحة سيد الكرملين غير المنازع في انتخابات كانت المأساة السورية أحد أبرز شعاراتها. ومن الصعب تخيل أن بوتين سيدير الدفة باتجاه معاكس، وربما سيكون ملف سوريا مادة لتصريف الكثير من الأزمات بين الكرملين والبيت الأبيض بعد أن تلبي واشنطن وحلفاؤها في الناتو المطالب الروسية وتتعامل مع موسكو على أنها قطب يجب سماع صوته في الملفات الدولية والإقليمية "بآذان منصتة وعيون مفتوحة"، وهي العبارة التي رددها بوتين أمام أنصاره كثيرا في معرض الحديث عن موقع روسيا في العالم.
المصدر :
سلام مسافر\ السفير
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة