«التحضيرات الخاصة بعقد مؤتمر القمة العربية اكتملت وأصبحت بغداد مستعدة لاستقبال القادة العرب»، هذا ما أكده الرئيس العراقي جلال طالباني من مطار السليمانية في إقليم كردستان أمس، وهذا ما يقدّم إلى حدّ بعيد تفسيراً لما ظهر مؤخراً من حراك إيجابي على خط الرياض بغداد الذي كان يشهد شبه قطيعة دبلوماسية منذ عام 1990.

حراك إيجابي؟ هو أكثر من ذلك حسب ما يتنبأ كثير من المراقبين للوضع، إنه انفتاح ينحو باتجاه التطبيع، تؤكده عودة الحياة الدبلوماسية إلى مجاريها، بدءاً من ترشيح السعودية لسفيرها لدى الأردن ليكون سفيراً غير مقيم في العراق، والزيارة التي قام بها وفد أمني عراقي رفيع المستوى إلى الرياض، قبل أن تعلن بغداد عن بدء تعاون أمني بين الجانبين وعن زيارة قريبة لوزير العدل إلى السعودية.

في المقابل، يصرّ رأي آخر على الجزم بأن هذا التقارب في العلاقات «لا يعدو كونه تقارباً تكتيكياً ولا يشكّل مصلحة بعيدة المدى»، بحسب أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد إحسان الشمّري الذي أوضح لـ«السفير» أن «إيران تبقى متحكمة بقواعد اللعبة العراقية والتقارب على المستوى الرسمي فقط مرتبط بمصالح ظرفية، فيما لا يمكن للسياسة أن تمحو إرث العداء الثقيل بين البلدين والشعبين، وإن كانت اجتمعت المصالح في خندق واحد».

ولكن ما قد يكون الدافع الحقيقي وراء هذا التغيير اللافت في السياسة الخارجية العراقية؟ وما مدى جديته؟ وما حقيقة ما أُثير عن محاولة أميركية خليجية (سعودية) لاحتواء العراق، لا سيما فيما يخصّ موقفه من الأزمة السورية؟ وما قد تكون تداعيات تغيّر الموقف العراقي مع انعقاد القمة، كما يتوقع كثيرون، على الملف السوري؟ وماذا عن الموقف الإيراني من هذا التقارب، وتحديداً في ظلّ ما هو معروف عن تنافس النفوذ الإيراني - السعودي في العراق؟

أسئلة كثيرة تحملها الأيام المقبلة التي تفصل العراق عن موعده «الحاسم» مع القمة العربية في 29 الشهر الحالي والتي تعوّل بغداد على نجاحها للعودة إلى الساحة السياسية الإقليمية والدولية.. وفي انتظار نتائجها المستقبلية، قد تكون «القمة» حالياَ هي الجواب الأمثل لسؤال ما الذي يدفع العراق للانضمام إلى الخط العربي الأوسع (بعيداً عن «الانعزال» الإيراني السوري)، فيما تكون «سوريا» خير تفسير للدافع الذي يقف وراء الضغوط الأميركية السعودية الحثيثة على العراق من خلال استغلال «نقطة ضعفه» الحالية: «نجاح القمة».

يفسّر إحسان الشمّري الأمر بأن «السعودية تدرك جيّداً أنها بحاجة إلى العراق خصوصاً بعد تصاعد الأحداث في سوريا، فهي بحاجة إلى إجماع عربي بخصوص الأزمة، وإحجام العراق في المرحلة الأولى عن القبول بمواقف الجامعة العربية جعل الرياض تقتنع بضرورة ضمّ العراق إلى جانبها. ومن يكون أفضل من أميركا للضغط بهذا الاتجاه؟ فواشنطن عملت دائماً على تحقيق تقارب بين المنظومة الخليجية والعراق، والسعودية هي خير من يمثل التمدد العربي مقابل التمددّ الإيراني الخطر». ولكن ما هي الدوافع وراء هذه الليونة في الموقف العراقي الرسمي تجاه السعودية؟ يجيب الشمري بأن هناك عوامل سياسية تتعلّق بضرورة أن يكون العراق ضمن الخط العربي، يعززها العامل الاقتصادي حيث تندفع بغداد باتجاه تعزيز الأمن لضمان التنمية الاقتصادية بعد انسحاب الاحتلال.. فضلاً عما يمكن أن يلعبه المال السعودي مع تحسن العلاقات في هذا الإطار».

ولكن الموقف العراقي الرسمي، يردف أستاذ العلوم السياسية، الذي عكسه المالكي بالدرجة الأولى في مقابلته مع صحيفة «عكاظ» بقوله «إنه مع التغيير في سوريا»، لا يعكس موقف الشارع الذي يرزح تحت وطأة العداء للسعودية، ولا تخوفه من أن يكون خلف هذا التقارب أجندات تضرّ بالثوابت السعودية.. مخاوف تلازم الشعب الذي يطالب بأن تقدم السعودية اعتذارها عن فتح حدودها أمام الأميركيين وقت الغزو ودعمها لصدام حسين خلال قمعه الشعب العراقي».

 

العراق بين «القمة» و«الأزمة»

 

بداية لا بدّ من توضيح بسيط للدورالذي يلعبه العراق في سوريا لتصور ما بلغه شدّ الحبال الحاصل بين إيران والسعودية (المجتمع الدولي) حول العراق. قد لا يكون الدور مهماً على الصعيد السياسي، فالعراق لم يصبح بعد منذ انتهاء الاحتلال دولة ذات سيادة مستقلة، إلا أن أهميته تنبع من موقعه الجغرافي حيث يتشارك مع سوريا الحدود الأطول ومن موضوع تهريب السلاح والجماعات المسلّحة على الحدود بين البلدين.. فضلاً عما يشكله من باب مهم للنفوذ الإيراني في المنطقة.

من هنا، يقول النائب الكردي المستقل محمود عثمان لـ«السفير» إن»السعوديين يريدون أن يصبح العراق اقرب إلى دول الخليج»، ويضيف «هم يعملون على أن يكونوا على علاقة طيبة مع العراق بهدف جذبه نحو موقعهم، ضدّ إيران وسوريا».

يشرح عثمان أن «من مصلحة العراق أن تسجّل القمة نجاحاً ليحظى باعتراف عودته إلى الساحة الدولية، وهذا الموقف سيجعل بغداد تربح هدفها وتحقق مكاسب لجهة حجم الحضور»، ولكن ذلك «سيجعل العراق في وضع صعب..إذ يتعذّر على بغداد المحافظة على التوازن بين التزاماتها العربية المستجدة وعلاقاتها مع طهران»، لافتاً من ناحية أخرى إلى العامل الديموغرافي، حيث يسيطر الشيعة الذين يشكلون غالبية السكان على الحكم، في ظل وجود شريحة سنية كبيرة حكمت البلاد لعقود.

ويرى النائب الكردي أن «العراق لن يفشل كما انه لن ينجح في ذلك. النفوذ الإيراني في العراق متجذر، كما أن إيران احتضنت المعارضة العراقية منذ حكم صدام. صحيح أن العراق سينحاز خلال القمة إلى عدم دعم النظام السوري، إلا أن الاتفاق لن يكون حقيقياً بين بغداد والرياض، فالأخيرة لا تستطيع مقارعة النفوذ الإيراني في العراق».

كلام عثمان يؤكده كذلك ما نقلته «واشنطن بوست» عن محرر موقع «هيستوريا»، الذي يعنى بالشؤون العراقية، ريدر فيسر أن «على السعوديين الجري لمسافة طويلة حتى يلحقوا بإيران في العراق»، مضيفاً إن «العراق سيحاول الاستفادة من الانفتاح بين البلدين بما يخدم مصالحه، وقد يستند الى هذا الانفتاح للابتعاد قليلا عن إيران، إلا أن السعوديين ورغم ذلك لن يؤدوا في العراق أبداً دور الوسيط الذي تتمتع به طهران».

بدوره، يؤكد مدير الدراسات السياسية في «جامعة بغداد» حميد فاضل لـ«السفير» أن «التحسن الذي طرأ أخيراً على العلاقات بين بغداد والرياض يشكل تقدماً، ولكنه لن يصل إلى نقطة أبعد من ذلك..الخلافات عميقة جداً، وهذا التغيّر مرتبط بالقمة وواقع انعقادها في بغداد لا أكثر». وفي هذا السياق، «أعتقد أن الضغوط التي مورست على العراق هائلة، وهدفها احتواء السياسة العراقية فيما يخص سوريا. بعد أن ضاقت السبل بالدول الخليجية، تحركت باتجاه العراق»، يعلّق فاضل.

... العراق عالق إذاً في لعبة شدّ حبال أطرافها متعددون.. بين «مصلحة» تتمثل بإنجاح القمة والحفاظ على الأمن ومحاولة تحقيق مكاسب مرتبطة بأزماته العالقة مع الكويت والسعودية وبين «أمر واقع» مفاده أن لا بديل عربياً مطروحاً عن «الراعي» الإيراني بكل ما يقدمه من ضمانات استراتيجية وسياسية واقتصادية ودينية، يؤكد فاضل أن لا استعداد أو مقومات لدى السعودية لتعويضها.

  • فريق ماسة
  • 2012-03-05
  • 10807
  • من الأرشيف

الانتعاش العراقي ـ السعودي والقمة العربية:أين تقف بغداد بين الرياض ودمشق وطهران؟

  «التحضيرات الخاصة بعقد مؤتمر القمة العربية اكتملت وأصبحت بغداد مستعدة لاستقبال القادة العرب»، هذا ما أكده الرئيس العراقي جلال طالباني من مطار السليمانية في إقليم كردستان أمس، وهذا ما يقدّم إلى حدّ بعيد تفسيراً لما ظهر مؤخراً من حراك إيجابي على خط الرياض بغداد الذي كان يشهد شبه قطيعة دبلوماسية منذ عام 1990. حراك إيجابي؟ هو أكثر من ذلك حسب ما يتنبأ كثير من المراقبين للوضع، إنه انفتاح ينحو باتجاه التطبيع، تؤكده عودة الحياة الدبلوماسية إلى مجاريها، بدءاً من ترشيح السعودية لسفيرها لدى الأردن ليكون سفيراً غير مقيم في العراق، والزيارة التي قام بها وفد أمني عراقي رفيع المستوى إلى الرياض، قبل أن تعلن بغداد عن بدء تعاون أمني بين الجانبين وعن زيارة قريبة لوزير العدل إلى السعودية. في المقابل، يصرّ رأي آخر على الجزم بأن هذا التقارب في العلاقات «لا يعدو كونه تقارباً تكتيكياً ولا يشكّل مصلحة بعيدة المدى»، بحسب أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد إحسان الشمّري الذي أوضح لـ«السفير» أن «إيران تبقى متحكمة بقواعد اللعبة العراقية والتقارب على المستوى الرسمي فقط مرتبط بمصالح ظرفية، فيما لا يمكن للسياسة أن تمحو إرث العداء الثقيل بين البلدين والشعبين، وإن كانت اجتمعت المصالح في خندق واحد». ولكن ما قد يكون الدافع الحقيقي وراء هذا التغيير اللافت في السياسة الخارجية العراقية؟ وما مدى جديته؟ وما حقيقة ما أُثير عن محاولة أميركية خليجية (سعودية) لاحتواء العراق، لا سيما فيما يخصّ موقفه من الأزمة السورية؟ وما قد تكون تداعيات تغيّر الموقف العراقي مع انعقاد القمة، كما يتوقع كثيرون، على الملف السوري؟ وماذا عن الموقف الإيراني من هذا التقارب، وتحديداً في ظلّ ما هو معروف عن تنافس النفوذ الإيراني - السعودي في العراق؟ أسئلة كثيرة تحملها الأيام المقبلة التي تفصل العراق عن موعده «الحاسم» مع القمة العربية في 29 الشهر الحالي والتي تعوّل بغداد على نجاحها للعودة إلى الساحة السياسية الإقليمية والدولية.. وفي انتظار نتائجها المستقبلية، قد تكون «القمة» حالياَ هي الجواب الأمثل لسؤال ما الذي يدفع العراق للانضمام إلى الخط العربي الأوسع (بعيداً عن «الانعزال» الإيراني السوري)، فيما تكون «سوريا» خير تفسير للدافع الذي يقف وراء الضغوط الأميركية السعودية الحثيثة على العراق من خلال استغلال «نقطة ضعفه» الحالية: «نجاح القمة». يفسّر إحسان الشمّري الأمر بأن «السعودية تدرك جيّداً أنها بحاجة إلى العراق خصوصاً بعد تصاعد الأحداث في سوريا، فهي بحاجة إلى إجماع عربي بخصوص الأزمة، وإحجام العراق في المرحلة الأولى عن القبول بمواقف الجامعة العربية جعل الرياض تقتنع بضرورة ضمّ العراق إلى جانبها. ومن يكون أفضل من أميركا للضغط بهذا الاتجاه؟ فواشنطن عملت دائماً على تحقيق تقارب بين المنظومة الخليجية والعراق، والسعودية هي خير من يمثل التمدد العربي مقابل التمددّ الإيراني الخطر». ولكن ما هي الدوافع وراء هذه الليونة في الموقف العراقي الرسمي تجاه السعودية؟ يجيب الشمري بأن هناك عوامل سياسية تتعلّق بضرورة أن يكون العراق ضمن الخط العربي، يعززها العامل الاقتصادي حيث تندفع بغداد باتجاه تعزيز الأمن لضمان التنمية الاقتصادية بعد انسحاب الاحتلال.. فضلاً عما يمكن أن يلعبه المال السعودي مع تحسن العلاقات في هذا الإطار». ولكن الموقف العراقي الرسمي، يردف أستاذ العلوم السياسية، الذي عكسه المالكي بالدرجة الأولى في مقابلته مع صحيفة «عكاظ» بقوله «إنه مع التغيير في سوريا»، لا يعكس موقف الشارع الذي يرزح تحت وطأة العداء للسعودية، ولا تخوفه من أن يكون خلف هذا التقارب أجندات تضرّ بالثوابت السعودية.. مخاوف تلازم الشعب الذي يطالب بأن تقدم السعودية اعتذارها عن فتح حدودها أمام الأميركيين وقت الغزو ودعمها لصدام حسين خلال قمعه الشعب العراقي».   العراق بين «القمة» و«الأزمة»   بداية لا بدّ من توضيح بسيط للدورالذي يلعبه العراق في سوريا لتصور ما بلغه شدّ الحبال الحاصل بين إيران والسعودية (المجتمع الدولي) حول العراق. قد لا يكون الدور مهماً على الصعيد السياسي، فالعراق لم يصبح بعد منذ انتهاء الاحتلال دولة ذات سيادة مستقلة، إلا أن أهميته تنبع من موقعه الجغرافي حيث يتشارك مع سوريا الحدود الأطول ومن موضوع تهريب السلاح والجماعات المسلّحة على الحدود بين البلدين.. فضلاً عما يشكله من باب مهم للنفوذ الإيراني في المنطقة. من هنا، يقول النائب الكردي المستقل محمود عثمان لـ«السفير» إن»السعوديين يريدون أن يصبح العراق اقرب إلى دول الخليج»، ويضيف «هم يعملون على أن يكونوا على علاقة طيبة مع العراق بهدف جذبه نحو موقعهم، ضدّ إيران وسوريا». يشرح عثمان أن «من مصلحة العراق أن تسجّل القمة نجاحاً ليحظى باعتراف عودته إلى الساحة الدولية، وهذا الموقف سيجعل بغداد تربح هدفها وتحقق مكاسب لجهة حجم الحضور»، ولكن ذلك «سيجعل العراق في وضع صعب..إذ يتعذّر على بغداد المحافظة على التوازن بين التزاماتها العربية المستجدة وعلاقاتها مع طهران»، لافتاً من ناحية أخرى إلى العامل الديموغرافي، حيث يسيطر الشيعة الذين يشكلون غالبية السكان على الحكم، في ظل وجود شريحة سنية كبيرة حكمت البلاد لعقود. ويرى النائب الكردي أن «العراق لن يفشل كما انه لن ينجح في ذلك. النفوذ الإيراني في العراق متجذر، كما أن إيران احتضنت المعارضة العراقية منذ حكم صدام. صحيح أن العراق سينحاز خلال القمة إلى عدم دعم النظام السوري، إلا أن الاتفاق لن يكون حقيقياً بين بغداد والرياض، فالأخيرة لا تستطيع مقارعة النفوذ الإيراني في العراق». كلام عثمان يؤكده كذلك ما نقلته «واشنطن بوست» عن محرر موقع «هيستوريا»، الذي يعنى بالشؤون العراقية، ريدر فيسر أن «على السعوديين الجري لمسافة طويلة حتى يلحقوا بإيران في العراق»، مضيفاً إن «العراق سيحاول الاستفادة من الانفتاح بين البلدين بما يخدم مصالحه، وقد يستند الى هذا الانفتاح للابتعاد قليلا عن إيران، إلا أن السعوديين ورغم ذلك لن يؤدوا في العراق أبداً دور الوسيط الذي تتمتع به طهران». بدوره، يؤكد مدير الدراسات السياسية في «جامعة بغداد» حميد فاضل لـ«السفير» أن «التحسن الذي طرأ أخيراً على العلاقات بين بغداد والرياض يشكل تقدماً، ولكنه لن يصل إلى نقطة أبعد من ذلك..الخلافات عميقة جداً، وهذا التغيّر مرتبط بالقمة وواقع انعقادها في بغداد لا أكثر». وفي هذا السياق، «أعتقد أن الضغوط التي مورست على العراق هائلة، وهدفها احتواء السياسة العراقية فيما يخص سوريا. بعد أن ضاقت السبل بالدول الخليجية، تحركت باتجاه العراق»، يعلّق فاضل. ... العراق عالق إذاً في لعبة شدّ حبال أطرافها متعددون.. بين «مصلحة» تتمثل بإنجاح القمة والحفاظ على الأمن ومحاولة تحقيق مكاسب مرتبطة بأزماته العالقة مع الكويت والسعودية وبين «أمر واقع» مفاده أن لا بديل عربياً مطروحاً عن «الراعي» الإيراني بكل ما يقدمه من ضمانات استراتيجية وسياسية واقتصادية ودينية، يؤكد فاضل أن لا استعداد أو مقومات لدى السعودية لتعويضها.

المصدر : السفير /هيفاء زعيتر


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة