منذ شباط الماضي، أي قبل حوالى 10 أشهر، لم يستقبل الرئيس السوري بشار الأسد رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل. وفي نهاية الأسبوع الماضي أصدرت الحركة بيانا شجب تفجيري دمشق، ودعا إلى حقن الدماء والى حل سياسي من دون الإشارة من قريب أو بعيد إلى دعم "القيادة السورية" خلافا لما كانت تفعل سابقا. وقبل هذه وتلك، ترددت شائعات عن مغادرة قيادات حماس لسورية صوب دول عربية أخرى سارع مشعل إلى نفيها. ولكن أحدا لا يخفي اليوم برود العلاقة.

 

هل في الأمر قطيعة بين الحليفين أم مجرد عتب قد يتطور نحو الأسوأ؟

 

اللقاء الأخير الذي جمع الأسد ومشعل جرى بعد يومين من خلع الرئيس المصري حسني مبارك. كان الحديث كالمعتاد بينهما وديا وحميما وصريحا إلى أقصى حد. العلاقة بين الرئيس السوري والقيادي الإسلامي كانت أكثر من ممتازة. تبادلا التهنئة بسقوط رئيس عربي حليف للولايات المتحدة وعدو لمحورهما الممتد من إيران إلى "حزب الله". تبادلا التهاني وضحكا.

يقال إن مشعل نصح الأسد آنذاك بضرورة المبادرة إلى خطوات إصلاحية من منطلق أن "عدوى" ما حصل في تونس ومصر قد تمتد إلى سورية، ولكنه أرفق النصيحة بالتأكيد أن الأسد ليس حسني مبارك ولا الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، فللرئيس السوري شعبية قوية في الداخل ولصورته في الخارج العربي مكانة كبيرة. هكذا قال مشعل في اللقاء، معتبرا أن الأسد قادر على قيادة مسيرة إصلاحية في بلاده تجعل من سورية نموذجا ناجحا، وتجعل منه شخصيا قائدا عربيا بامتياز وسط الخواء العربي من أي قائد فعلي ونظرا لشعبيته الكبيرة في أوساط الرأي العام العربي.

كانت اللقاءات بين الأسد ومشعل في السنوات القليلة الماضية تتناول كل الأمور. سمح بعضها لمشعل بالتطرق إلى مستقبل الإخوان المسلمين. لم يكن الأسد منزعجا من محاولة القيادي الإسلامي لعب دور وساطة بين السلطة و"الإخوان". وكان مشعل يعتبر أن الأسد المحبوب فلسطينيا وعربيا ليس مسؤولا عن التاريخ الدموي بين عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد و"الإخوان".

قبل سقوط مبارك لم يكن القيادي "الحماسي" يسمح لنفسه بالحديث عن الداخل السوري. تلك كانت من الأمور التي يتجنب أي مسؤول فلسطيني (أو ربما غير فلسطيني) التطرق إليها مع القيادة السورية، نظرا للحساسية المفرطة عند القيادة سابقا حيال ما كانت تعتبره تدخلا في شؤونها الداخلية.

لم يكن الرئيس السوري آنذاك يظن أن بذور الانتفاضات العربية قد تمتد إلى سورية، ولعل خالد مشعل نفسه لم يعتقد بأن الأمور قد تصل بهذه السرعة إلى أراضي البلد الذي استضافه وحركته ودعمها طويلا، برغم كل الضغوط التي مورست على الأسد لإخراج حماس من دمشق.

لكن بعد ما حصل في درعا من اعتقال وتنكيل بالأطفال الذين كتبوا شعارات على الجدران، شعر خالد مشعل بخطر فعلي. سارع إلى النصح بمحاكمة المسؤولين عن الأمر. قال إن ما حصل ينذر بالأسوأ. التقى ببعض المسؤولين السوريين. نصح بأن يذهب الرئيس الأسد بنفسه إلى درعا لتهدئة الخواطر.

حتى تلك اللحظة، لم تكن العلاقة بين حماس والقيادة السورية قد تعرضت لأي نكسة. لطالما اعتبرت سورية خالد مشعل أحد أبنائها المخلصين. والعلاقة الشخصية بين القيادي الإسلامي والأسد كانت حتى تلك اللحظة تنمو على نحو ممتاز. عززها التقدير الكبير الذي تكنه إيران لمشعل. لكن الأمور أصبحت تتغير وتتقهقر على نحو سريع منذ اقتحام الجامع العمري في درعا. حماس انزعجت مما حصل، ويقول أحد القياديين البارزين فيها، انه رغم الانزعاج والإحراج الشديدين، فإن الحركة لم تتجاوب مع بعض مطالب الإخوان المسلمين في الوطن العربي لرفع الصوت. "كل العواصم العربية شهدت ردود فعل إلا غزة" يضيف القيادي نفسه، معتبرا أن ذلك كان بفضل دور حماس.

في تلك الأثناء حصل ما لم يكن متوقعا. خرج الشيخ - العلامة يوسف القرضاوي إلى العلن يشجب ما حصل ويدعو إلى محاسبة المسؤولين، ويبدأ بشن حملة مركزة لإسقاط النظام السوري. خروج القرضاوي أزعج القيادة السورية. فالشيخ الذي زار دمشق قبل فترة غير بعيدة بالتنسيق مع مشعل، كان قد قال كلاما عاليا عن سورية  ورئيسها بشار الأسد، وخروجه هذا يعني تحريكا مباشرا لتأجيج مشاعر سنية ضد السلطة السورية، وربما أيضا ضد الطائفة العلوية لاحقا.

يقول مسؤول في حماس إن دمشق كانت تنتظر من مشعل الرد على القرضاوي. شعر الرجل بإحراج كبير. كل المنتمين إلى جماعة الإخوان المسلمين في الوطن العربي وبينهم قادة حماس يقدِّرون القرضاوي ويعتبرونه زعيما روحيا كبيرا، فكيف يخرج مشعل للتصدي له والرد عليه؟

لم يرفض رئيس المكتب السياسي لحركة حماس مبدأ الرد. أدرك أن الظروف دقيقة جدا. لكنه سعى لنصح المتصلين به بالتريث لعل في الأمر حلا آخر، خصوصا أن أي هجوم سوري على القرضاوي قد يفاقم المشكلة، نظرا لما للعلامة من دور ديني ودعاوي كبير في هذا الوطن العربي ذي الغالبية السنية.

يقال إن مشعل نصح مثلا بأن يتم إرسال شخصية سورية للقاء القرضاوي، أو أن يطلب السفير السوري في قطر لقاء مع الشيخ لإقناعه بأن ما يحصل في سورية ليس مجرد مطالب بالإصلاح بل شيء أكبر يستهدف سورية بمجملها.

شعرت القيادة السورية باستياء كبير. كانت تعتبر أن خالد مشعل ككل القيادات الفلسطينية على أرضها سيقف إلى جانبها في السراء والضراء. يروي احد السوريين الذين تابعوا تلك المرحلة، أنهم فوجئوا بالموقف المتريث لمشعل. اعتقدوا أن القيادي الفلسطيني لن يتردد لحظة واحدة في "رد الجميل" الممتد منذ سنوات. تعمدوا التذكير بالضغوط الأميركية الهائلة التي مورست على دمشق لإخراج حماس وإغلاق مكاتبها.

مرت غيمة القرضاوي لتأتي غيوم أخرى تتلبد في سماء سورية. تبين أن الأمر لن يتوقف عند حدود درعا. انتشرت العدوى العربية كالنار في الهشيم. غرقت البلاد بالدماء. أبرزت الفتنة المذهبية أسنانها لتبدأ بقضم الجسد السوري. تعاقب القمع والتظاهرات مع ظهور السلاح والمسلحين. صمتت حماس.

انتظرت القيادة السورية مجددا أن تصدر الحركة بيانا داعما. لكنها في كل مرة كانت تشعر بخيبة الأمل. غرقت الحركة المتريثة بإحراج كبير. من جهة هناك "الفضل السوري الذي يطوق عنق الحركة" كما يقول احد قياديي حماس، وهناك من جهة ثانية استياء مما يحصل في الداخل ويحاكي استياء الحركة الاخوانية الإسلامية التي تعزز سلطاتها في دول ما بعد الثورات، وهناك من جهة ثالثة رأي عربي سني مناهض للحل الأمني السوري، وأصبح أكثر مطالبة بإسقاط نظام الأسد. ماذا تفعل الحركة؟

حين اقترح مشعل الوساطة...

كان خالد مشعل وقيادة حماس يشعران بحراجة الوضع. لا البيان المؤيد للقيادة السورية وارد، ولا الخروج من دمشق يليق في ظل هذه الظروف الصعبة التي تمر بها سورية. كان بعض القيادات في داخل حركة حماس في الخارج قد بدأ يطرح الأمر بقوة في اجتماعات الحركة. راح البعض الآخر يضغط باتجاه الخروج من سورية. جرى حديث عن تباين بين المجلس التشريعي والمكتب السياسي. كانت الضغوط والإغراءات الخليجية تزداد حدة بغية إقناع مشعل وصحبه بمغادرة دمشق.

طلب مشعل أكثر من لقاء مع الأسد. لم يأته الجواب. لكن أبواب كل المسؤولين السوريين الآخرين كانت مفتوحة أمامه. التقى مرارا نائب الرئيس فاروق الشرع، والمستشارة الرئاسية الدكتورة بثينة شعبان، ووزير الخارجية وليد المعلم، ومدير الاستخبارات العامة اللواء علي المملوك، وفي بعض المرات كان يلتقي أيضا صهر الرئيس آصف شوكت. كان بعض الحوارات يدخل إلى عمق الأزمة. يقول مشعل ملاحظاته بصراحة تامة، وهم يقولون رأيهم. كان بعض المسؤولين يقارعه الحجة بالحجة، والبعض الآخر يوافقه القلق أو يأخذ بعض ملاحظاته واعدا بنقلها إلى الأسد.

كان لا بد من البحث عن مخارج أخرى. شاءت الصدف أن يحصل لقاء بين مشعل والأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله. تباحث الرجلان بكل تفاصيل الأزمة السورية. تمنى الأمين العام لـ"حزب الله" على حركة حماس أن تأخذ الموقف المناسب لها تاريخيا أي أن تدعم سورية في وجه ما يعتبره هجمة شرسة تتعرض لها. لم يبد مشعل حماسة كبيرة لمثل هذا الموقف. استمر اللقاء لفترة غير قصيرة، ولعل نصر الله نقل إلى الأسد تمنيا بضرورة حصول لقاء مع مشعل لما فيه مصلحة للطرفين في هذه الظروف المصيرية. كان سيد المقاومة يدرك تماما حجم التدخلات الخليجية، ويدرك أن ثمة دولا تحاول إقناع قادة حماس بالتوجه إما إلى مصر أو الأردن أو قطر.

تقول معلومات موثوقة إن الشيخ القرضاوي نفسه كان قد بعث برسائل عديدة إلى مشعل وبعض قيادات حماس يعتبر فيها أن البقاء في سورية هو دعم غير شرعي للنظام، وأن على الحركة أن تخرج من دمشق وتجاهر بموقف مناهض لما يحصل في سورية. وكذلك وصلت إلى الحركة رسائل أخرى من أطراف عربية وتركية وإسلامية تطالبها بذلك.

لم تؤد وساطة نصر الله إلى لقاء بين الأسد ومشعل. يقول مسؤول عربي مطلع على تلك الوساطة إن مشعل طلب أن يتم اللقاء بعيدا عن الكاميرات والصحافة، فرد احد المسؤولين السوريين قائلا: "غريب أن يحصل ذلك بينما كان مشعل نفسه يطلب سابقا، أي قبل الأزمة السورية، أن تتم اللقاءات أمام الكاميرات حين كان في أوج معركته مع محمود عباس ومع الدول العربية التي تدعوه إليها اليوم، بينما كانت تنفر منه ومن حماس سابقا".

لم يحصل اللقاء بين الأسد ومشعل، ولكن القيادي الفلسطيني حصل على ضوء أخضر لاقتراحه بأن يزور بنفسه بعض المناطق الملتهبة من درعا إلى حمص وحماه وصولا إلى ريف دمشق، ذلك انه كان يعتقد بقدرته على تهدئة الأوضاع والدفع صوب المصالحة نظرا لما له شخصيا من محبة في قلوب السوريين، ولما للحركة من مكانة في القلوب السورية.

يقول قيادي في حماس إن مشعل كان يستعد للقيام بتلك الجولة السورية الداخلية، حين جاءه اتصال يتمنى عليه إرجاءها لأسباب أمنية. اقترح مشعل أن يقتصر الأمر إذاً على ريف دمشق، فقيل له انه من الأفضل التريث.

بقيت الاتصالات بين مشعل والقيادات السورية مستمرة بوتيرة جيدة. كانت كل الأبواب مفتوحة أمامه إلا أبواب الرئاسة. سافر مرات عديدة إلى الخارج. تقول مصادر مقربة منه انه سعى لإقناع قادة حماس في الخارج بأن يتفهموا وضع سورية وألا ينساقوا صوب الضغوط التي تمارس عليهم. ذهب للقاء قادة الإخوان المسلمين في مصر متمنيا عليهم أيضا تفهم الوضع السوري.

مشعل والمبادرة العربية

حين تم التوافق على مبادرة من الجامعة العربية للأزمة في سورية، شجع خالد مشعل المسؤولين السوريين على المضي قدما صوبها. قال إن الحل العربي على مساوئه يبقى أفضل من التدخل الدولي. أعرب غير مرة لقيادات عربية عن انزعاجه من تعليق عضوية سورية في الجامعة. أوصل انزعاجه خصوصا إلى دول كانت سورية تقف إلى جانبها في أسوأ مراحلها على غرار السودان. سمع وزير الخارجية السوداني علي كرتي شخصيا مثل هذا الانزعاج من مشعل. وسمعه أيضا بعض القيادات المصرية.

يقال إن مشعل ذهب حتى قطر. التقى أميرها الشيخ حمد آل ثاني، والتقى رئيس وزرائها الشيخ حمد بن جبر آل ثاني. طلب من الدوحة تخفيف الضغط، وأشار إلى قناة "الجزيرة". وسمع من أمير قطر كلاما ايجابيا حيال الرئيس الأسد. لكن الدوحة كما الكثير من العواصم العربية كانت تشير إلى أجهزة أمنية وقيادات وإلى خيارات أمنية لا يمكن الدفاع عنها.

تابع مشعل المبادرة العربية والبروتوكول الذي تلاها بالتفاصيل الدقيقة. أجرى عشرات المكالمات الهاتفية مع مسؤولين عرب ومسؤولين سوريين. نصح القيادة السورية بأن تقبل بالبروتوكول لأنه سبيل لتجنب الحل الدولي ولعله قد يصبح سبيلا أيضا لمصالحة داخلية.

ما هي حقيقة موقف مشعل؟

كل تصريحات ولقاءات خالد مشعل تشي بالاستياء. يعتقد القيادي الإسلامي بأن على القيادة السورية أن تبادر إلى طرح حل سياسي جذري. يرى انه لا بد من وقف سيل الدم ووقف الحل الأمني. يعبر عن قلق كبير على سوريا، ولعله ينتقد ضمنيا إدارة الأزمة. لكن مشعل واع في الوقت نفسه إلى أن ثمة خطة خطيرة يراد لها أن تطيح دور سوريا وتقضي على الحلف الإقليمي الداعم للمقاومة.

يسير الرجل على حد السيف. يريد الإعراب عن وفاء الحركة لسوريا التي دافعت عنها طويلا، ويقلق من الهجمة الغربية على المنطقة، لكنه يشعر في الوقت ذاته بأن الطريقة التي تدار بها الأزمة قد تؤدي إلى مزيد من التأزم. يعتقد بأن الأسد لا يزال قادرا على قيادة المصالحة وتغيير مجرى الأمور، لكن التأخر بطرح حل سياسي جذري يتضمن مشاركة فعلية ستكون له عواقب وخيمة.

لم يخف خالد مشعل يوما محبته وتقديره الكبيرين لبشار الأسد. يتحدث عنه بود الشقيق والحليف. ينقل عنه زواره قوله مؤخرا: "والله حين كانت الضغوط الأميركية تنهال على الأسد من كل حدب وصوب بعيد اجتياح العراق، كان الرجل صامدا كالصخرة وشجاعا إلى أقصى حد ومدافعا عن فلسطين إلى أقصى الحدود، وكنا نحن أنفسنا ننصحه بالانتباه والتروي". ولعل هذا الود والتقدير هما اللذان يدفعان مشعل لنصح الأسد بتغيير مجرى الرياح والذهاب أكثر نحو ما يريده شعبه. وهو يعتقد أن ما يريده الشعب هو الإصلاح الجذري والمشاركة الحقيقية ومحاسبة المسؤولين عما حصل.

ماذا عن الرواية السورية؟

لعل هذه الرواية فيها من العتاب والمرارة أكثر مما فيها من التفهم لموقف حماس. يقول أصحابها إن سوريا بقيت إلى جانب حركة حماس في أسوأ الأوضاع وأكثرها قسوة. كانت بعض الدول العربية التي تطلب اليوم من حماس مغادرة دمشق والذهاب لعندها، هي نفسها التي تقول للأسد قبل سنوات "لا تؤمن كثيرا لحماس وقادتها، هؤلاء سينقلبون عليك لاحقا، إنهم منسجمون تماما مع الإخوان المسلمين وطروحاتهم فانتبه". كان الأسد يجيب بأن "هؤلاء مقاومة وأنه لا بد من دعمهم مهما حصل".

ويقول أصحاب الرواية السورية أيضا، إن الولايات المتحدة والدول الأوروبية وبعض الدول العربية كانت تطلب من سورية إقفال مكاتب حماس ووقف نشاطها وإنزال أعلامها من على مكاتبها. ولكن الأسد لم يطلب يوما ذلك بل تشدد، فما كان من قادة الحركة إلا أن اقترحوا أن ينزلوا العلم بأنفسهم منعا لإحراج القيادة السورية.

ويقول مسؤول سوري إن المواقف تتخذ في الأوقات الصعبة وليس حين تكون الحياة سهلة هانئة. فحماس مستهدفة كما سورية وإيران و"حزب الله"، وعليها في هذا الوقت بالضبط أن تحدد موقفها، يجب أن تدرك أن المقاومة العربية والإسلامية هي المقصودة بكل ما يحصل من هجوم وفتنة وقضاء على الدور السوري وليس الهدف الإصلاح أو حتى القيادة السورية.

ويقول المسؤول: "لو أننا خضعنا للضغوط وقبلنا بإخراج حماس من سورية حين كانت كل الآلة الدولية والإعلام الخارجي وبعض الإعلام العربي يشن حملاته علينا، لكان وضعنا أفضل بكثير الآن، فحركة حماس كانت كحزب الله أوراق مساومة يستخدمها الغرب للضغط علينا، وكانت دول عربية تنصحنا بأن نوقف دعمنا لهما، ولكننا لم نفرق يوما بين مقاوم ومقاوم، ولم نساوم يوما على دور سورية الداعم للمقاومة، ولم نقل إن "حزب الله" شيعي وإن حماس سنية، بل كنا ولا نزال ننظر إليهما على أنهما حليفان مقاومان، وأن دور سورية هو الوقوف إلى جانبهما مهما اشتدت النوائب وكثرت الضغوط".

ويقول المسؤولون السوريون، إنهم وبرغم العتب الكبير والشعور بالمرارة من عدم إعلان حركة حماس موقفا رافضا لما تتعرض له سورية، إلا أن القيادة السورية لم تتخذ أي إجراء مغاير لما كان عليه الأمر سابقا، فمكاتب الحركة لا تزال تعمل كالسابق، وأبواب المسؤولين مفتوحة أمام مشعل وكل قيادة حماس، والمنح المدرسية لا تزال على حالها والدعم المباشر لم ينقص ليرة واحدة.

ويضيف هؤلاء "إن القضية الفلسطينية هي احد أهم أسس السياسة السورية خارجيا وداخليا، وهي كانت وستبقى القضية المركزية الأولى مهما حصل، وندرك أن بعض العرب الذين ينصحون حماس بمغادرة دمشق هم الذين قضوا على هذه القضية ويريدون القضاء على ما بقي من فلسطين".

وفي رد على سؤال عن سبب عدم استقبال الأسد لخالد مشعل، يجيب احد المسؤولين "إن الفصائل الفلسطينية بما فيها حركة حماس طلبت لقاء مع الرئيس وهو وافق واللقاء سيحصل قريبا، فالرئيس يدرك أن ثمة من يريد دق أسافين كثيرة بين سورية والمقاومة، وهو حريص على دور سورية مهما اشتدت الضغوط وأثيرت الفتن".

ولعل كلمة السر الوحيدة في التعامل مع حماس تفيد بأن "دمشق لا تريد شيئا من حماس، وأن أحدا لن يتعرض لقادة الحركة بل سنستمر على موقفنا الداعم للمقاومة وأبواب المسؤولين مفتوحة، ولكننا لن نطلب شيئا".

هل تغادر حماس دمشق؟

خالد مشعل قال صراحة عكس ذلك. أكد في تصريحاته العلنية لبعض القنوات التلفزيونية قبل يومين أن الحركة ستبقى في دمشق، وأن بعض الذين غادروا إنما فعلوا ذلك لأسباب عائلية.

هذا صحيح. فالأوضاع في سورية تجعل بعض زائري حماس يترددون في المجيء إلى دمشق، كما أن بعض القيادات "الحماسية" نقلوا عائلاتهم من بعض المناطق الساخنة صوب الأردن أو مصر.

يعترف بعض قادة حماس بأن الذهاب إلى مصر أو الأردن أو قطر ليس مناسبا وقد يمهد لإنهاء الحركة. ويقول بعض آخر إن الأوضاع في مصر تغيرت، ذلك أن التمثيل الواسع للإخوان المسلمين في البرلمان والسلطة يسمح للحركة بأن تمارس دورا لم يكن متوفرا في عهد حسني مبارك. ولكن البعض الآخر يعتبر أن فتح مكاتب لحماس في القاهرة سيثير أكثر من جهة دولية وأن هذا غير مناسب في الوقت الراهن. أما العلاقة مع قطر فهي قوية جدا، خصوصا أن علاقات مشعل مع الأمير حمد أكثر من جيدة، وقيل الكثير عن دور قطري كبير في إقناع حماس بمغادرة دمشق صوب الأردن أو مصر وأن وساطات كثيرة جرت من اجل ذلك.

حتى الآن تقول حماس إنها لن تغادر، وتقول القيادة السورية إنها لم تغير شيئا في تعاملها مع الحركة. وإيران دخلت على الخط أكثر من مرة، وطالب مسؤولون إيرانيون خالد مشعل وقيادات أخرى بالإعراب عن موقف مؤيد للقيادة السورية. وجرى أكثر من لقاء مصارحة بين مشعل ومبعوثين إيرانيين. وفي خلال مؤتمر دعم المقاومة الذي استضافته إيران قبل حوالى شهرين سمع مشعل كلام عتب بعد أن أوحى في كلمته بأنه راغب بالتغيير في سورية، لكن طهران بعثت برسائل ايجابية كثيرة لحماس وعملت على احتوائها وكرمت على نحو علني ولافت إسماعيل هنية.

كل ذلك مهم ، ولكن بعيدا عن العواطف بين حماس وسوريا ودمشق و"حزب الله"، فإن كل شيء سيبقى مرتبطا بتطور الأوضاع الداخلية في سوريا، وكل الاحتمالات مفتوحة، لان التغيير في الوطن العربي ووصول جماعة الإخوان المسلمين إلى السلطة في تونس وليبيا ومصر واليمن يسيل لعابا كثيرا، ومن غير المستبعد أن يقترب رأي حماس أكثر من رأي "إخوان" سورية و"المجلس الوطني" ما لم يتم احتواء العتب والبحث في الأسباب الحقيقية للاستياء والبرود بين الجانبين.

والتحليل الاستراتيجي الدقيق لمستقبل الأمور يزيد الاحتمالات اتساعا، ذلك أن دمشق وحماس مستفيدان من بقاء الحركة على الأراضي السورية، تماما كما أن كل منهما قد يكون من صالحه خروجها. فبقاء حماس مهم لصورة سورية كدولة حاضنة للمقاومة ومهم أيضا للتخفيف من الاحتقان المذهبي في المنطقة، ولكن خروجها من دمشق قد يبعث برسالة كبيرة إلى الغرب ويفتح المجال أمام كلام سياسي آخر، ذلك أن طلب خروج الحركة هو واحد من أسباب الاشتباك السوري الغربي السابق. وأما بالنسبة للحركة فإن بقاءها مهم تعبيرا عن الوفاء للقيادة السورية، ولكن خروجها قد يخفف عنها إحراجا كبيرا.

لعل "حزب الله" وحده قادر في هذا الوقت بالضبط على أن يلعب دور التقريب بين الجانبين، خصوصا أن وساطات سابقة، وبينها تلك التي تولاها مسؤول لبناني أمني كبير، لم تصل إلى مبتغاها. العتب قد يزول وتنفرج الأمور، ولكنه أيضا قد ينتقل إلى قطيعة
  • فريق ماسة
  • 2011-12-26
  • 10876
  • من الأرشيف

حماس وسورية عتب لا قطيعة..

  منذ شباط الماضي، أي قبل حوالى 10 أشهر، لم يستقبل الرئيس السوري بشار الأسد رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل. وفي نهاية الأسبوع الماضي أصدرت الحركة بيانا شجب تفجيري دمشق، ودعا إلى حقن الدماء والى حل سياسي من دون الإشارة من قريب أو بعيد إلى دعم "القيادة السورية" خلافا لما كانت تفعل سابقا. وقبل هذه وتلك، ترددت شائعات عن مغادرة قيادات حماس لسورية صوب دول عربية أخرى سارع مشعل إلى نفيها. ولكن أحدا لا يخفي اليوم برود العلاقة.   هل في الأمر قطيعة بين الحليفين أم مجرد عتب قد يتطور نحو الأسوأ؟   اللقاء الأخير الذي جمع الأسد ومشعل جرى بعد يومين من خلع الرئيس المصري حسني مبارك. كان الحديث كالمعتاد بينهما وديا وحميما وصريحا إلى أقصى حد. العلاقة بين الرئيس السوري والقيادي الإسلامي كانت أكثر من ممتازة. تبادلا التهنئة بسقوط رئيس عربي حليف للولايات المتحدة وعدو لمحورهما الممتد من إيران إلى "حزب الله". تبادلا التهاني وضحكا. يقال إن مشعل نصح الأسد آنذاك بضرورة المبادرة إلى خطوات إصلاحية من منطلق أن "عدوى" ما حصل في تونس ومصر قد تمتد إلى سورية، ولكنه أرفق النصيحة بالتأكيد أن الأسد ليس حسني مبارك ولا الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، فللرئيس السوري شعبية قوية في الداخل ولصورته في الخارج العربي مكانة كبيرة. هكذا قال مشعل في اللقاء، معتبرا أن الأسد قادر على قيادة مسيرة إصلاحية في بلاده تجعل من سورية نموذجا ناجحا، وتجعل منه شخصيا قائدا عربيا بامتياز وسط الخواء العربي من أي قائد فعلي ونظرا لشعبيته الكبيرة في أوساط الرأي العام العربي. كانت اللقاءات بين الأسد ومشعل في السنوات القليلة الماضية تتناول كل الأمور. سمح بعضها لمشعل بالتطرق إلى مستقبل الإخوان المسلمين. لم يكن الأسد منزعجا من محاولة القيادي الإسلامي لعب دور وساطة بين السلطة و"الإخوان". وكان مشعل يعتبر أن الأسد المحبوب فلسطينيا وعربيا ليس مسؤولا عن التاريخ الدموي بين عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد و"الإخوان". قبل سقوط مبارك لم يكن القيادي "الحماسي" يسمح لنفسه بالحديث عن الداخل السوري. تلك كانت من الأمور التي يتجنب أي مسؤول فلسطيني (أو ربما غير فلسطيني) التطرق إليها مع القيادة السورية، نظرا للحساسية المفرطة عند القيادة سابقا حيال ما كانت تعتبره تدخلا في شؤونها الداخلية. لم يكن الرئيس السوري آنذاك يظن أن بذور الانتفاضات العربية قد تمتد إلى سورية، ولعل خالد مشعل نفسه لم يعتقد بأن الأمور قد تصل بهذه السرعة إلى أراضي البلد الذي استضافه وحركته ودعمها طويلا، برغم كل الضغوط التي مورست على الأسد لإخراج حماس من دمشق. لكن بعد ما حصل في درعا من اعتقال وتنكيل بالأطفال الذين كتبوا شعارات على الجدران، شعر خالد مشعل بخطر فعلي. سارع إلى النصح بمحاكمة المسؤولين عن الأمر. قال إن ما حصل ينذر بالأسوأ. التقى ببعض المسؤولين السوريين. نصح بأن يذهب الرئيس الأسد بنفسه إلى درعا لتهدئة الخواطر. حتى تلك اللحظة، لم تكن العلاقة بين حماس والقيادة السورية قد تعرضت لأي نكسة. لطالما اعتبرت سورية خالد مشعل أحد أبنائها المخلصين. والعلاقة الشخصية بين القيادي الإسلامي والأسد كانت حتى تلك اللحظة تنمو على نحو ممتاز. عززها التقدير الكبير الذي تكنه إيران لمشعل. لكن الأمور أصبحت تتغير وتتقهقر على نحو سريع منذ اقتحام الجامع العمري في درعا. حماس انزعجت مما حصل، ويقول أحد القياديين البارزين فيها، انه رغم الانزعاج والإحراج الشديدين، فإن الحركة لم تتجاوب مع بعض مطالب الإخوان المسلمين في الوطن العربي لرفع الصوت. "كل العواصم العربية شهدت ردود فعل إلا غزة" يضيف القيادي نفسه، معتبرا أن ذلك كان بفضل دور حماس. في تلك الأثناء حصل ما لم يكن متوقعا. خرج الشيخ - العلامة يوسف القرضاوي إلى العلن يشجب ما حصل ويدعو إلى محاسبة المسؤولين، ويبدأ بشن حملة مركزة لإسقاط النظام السوري. خروج القرضاوي أزعج القيادة السورية. فالشيخ الذي زار دمشق قبل فترة غير بعيدة بالتنسيق مع مشعل، كان قد قال كلاما عاليا عن سورية  ورئيسها بشار الأسد، وخروجه هذا يعني تحريكا مباشرا لتأجيج مشاعر سنية ضد السلطة السورية، وربما أيضا ضد الطائفة العلوية لاحقا. يقول مسؤول في حماس إن دمشق كانت تنتظر من مشعل الرد على القرضاوي. شعر الرجل بإحراج كبير. كل المنتمين إلى جماعة الإخوان المسلمين في الوطن العربي وبينهم قادة حماس يقدِّرون القرضاوي ويعتبرونه زعيما روحيا كبيرا، فكيف يخرج مشعل للتصدي له والرد عليه؟ لم يرفض رئيس المكتب السياسي لحركة حماس مبدأ الرد. أدرك أن الظروف دقيقة جدا. لكنه سعى لنصح المتصلين به بالتريث لعل في الأمر حلا آخر، خصوصا أن أي هجوم سوري على القرضاوي قد يفاقم المشكلة، نظرا لما للعلامة من دور ديني ودعاوي كبير في هذا الوطن العربي ذي الغالبية السنية. يقال إن مشعل نصح مثلا بأن يتم إرسال شخصية سورية للقاء القرضاوي، أو أن يطلب السفير السوري في قطر لقاء مع الشيخ لإقناعه بأن ما يحصل في سورية ليس مجرد مطالب بالإصلاح بل شيء أكبر يستهدف سورية بمجملها. شعرت القيادة السورية باستياء كبير. كانت تعتبر أن خالد مشعل ككل القيادات الفلسطينية على أرضها سيقف إلى جانبها في السراء والضراء. يروي احد السوريين الذين تابعوا تلك المرحلة، أنهم فوجئوا بالموقف المتريث لمشعل. اعتقدوا أن القيادي الفلسطيني لن يتردد لحظة واحدة في "رد الجميل" الممتد منذ سنوات. تعمدوا التذكير بالضغوط الأميركية الهائلة التي مورست على دمشق لإخراج حماس وإغلاق مكاتبها. مرت غيمة القرضاوي لتأتي غيوم أخرى تتلبد في سماء سورية. تبين أن الأمر لن يتوقف عند حدود درعا. انتشرت العدوى العربية كالنار في الهشيم. غرقت البلاد بالدماء. أبرزت الفتنة المذهبية أسنانها لتبدأ بقضم الجسد السوري. تعاقب القمع والتظاهرات مع ظهور السلاح والمسلحين. صمتت حماس. انتظرت القيادة السورية مجددا أن تصدر الحركة بيانا داعما. لكنها في كل مرة كانت تشعر بخيبة الأمل. غرقت الحركة المتريثة بإحراج كبير. من جهة هناك "الفضل السوري الذي يطوق عنق الحركة" كما يقول احد قياديي حماس، وهناك من جهة ثانية استياء مما يحصل في الداخل ويحاكي استياء الحركة الاخوانية الإسلامية التي تعزز سلطاتها في دول ما بعد الثورات، وهناك من جهة ثالثة رأي عربي سني مناهض للحل الأمني السوري، وأصبح أكثر مطالبة بإسقاط نظام الأسد. ماذا تفعل الحركة؟ حين اقترح مشعل الوساطة... كان خالد مشعل وقيادة حماس يشعران بحراجة الوضع. لا البيان المؤيد للقيادة السورية وارد، ولا الخروج من دمشق يليق في ظل هذه الظروف الصعبة التي تمر بها سورية. كان بعض القيادات في داخل حركة حماس في الخارج قد بدأ يطرح الأمر بقوة في اجتماعات الحركة. راح البعض الآخر يضغط باتجاه الخروج من سورية. جرى حديث عن تباين بين المجلس التشريعي والمكتب السياسي. كانت الضغوط والإغراءات الخليجية تزداد حدة بغية إقناع مشعل وصحبه بمغادرة دمشق. طلب مشعل أكثر من لقاء مع الأسد. لم يأته الجواب. لكن أبواب كل المسؤولين السوريين الآخرين كانت مفتوحة أمامه. التقى مرارا نائب الرئيس فاروق الشرع، والمستشارة الرئاسية الدكتورة بثينة شعبان، ووزير الخارجية وليد المعلم، ومدير الاستخبارات العامة اللواء علي المملوك، وفي بعض المرات كان يلتقي أيضا صهر الرئيس آصف شوكت. كان بعض الحوارات يدخل إلى عمق الأزمة. يقول مشعل ملاحظاته بصراحة تامة، وهم يقولون رأيهم. كان بعض المسؤولين يقارعه الحجة بالحجة، والبعض الآخر يوافقه القلق أو يأخذ بعض ملاحظاته واعدا بنقلها إلى الأسد. كان لا بد من البحث عن مخارج أخرى. شاءت الصدف أن يحصل لقاء بين مشعل والأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله. تباحث الرجلان بكل تفاصيل الأزمة السورية. تمنى الأمين العام لـ"حزب الله" على حركة حماس أن تأخذ الموقف المناسب لها تاريخيا أي أن تدعم سورية في وجه ما يعتبره هجمة شرسة تتعرض لها. لم يبد مشعل حماسة كبيرة لمثل هذا الموقف. استمر اللقاء لفترة غير قصيرة، ولعل نصر الله نقل إلى الأسد تمنيا بضرورة حصول لقاء مع مشعل لما فيه مصلحة للطرفين في هذه الظروف المصيرية. كان سيد المقاومة يدرك تماما حجم التدخلات الخليجية، ويدرك أن ثمة دولا تحاول إقناع قادة حماس بالتوجه إما إلى مصر أو الأردن أو قطر. تقول معلومات موثوقة إن الشيخ القرضاوي نفسه كان قد بعث برسائل عديدة إلى مشعل وبعض قيادات حماس يعتبر فيها أن البقاء في سورية هو دعم غير شرعي للنظام، وأن على الحركة أن تخرج من دمشق وتجاهر بموقف مناهض لما يحصل في سورية. وكذلك وصلت إلى الحركة رسائل أخرى من أطراف عربية وتركية وإسلامية تطالبها بذلك. لم تؤد وساطة نصر الله إلى لقاء بين الأسد ومشعل. يقول مسؤول عربي مطلع على تلك الوساطة إن مشعل طلب أن يتم اللقاء بعيدا عن الكاميرات والصحافة، فرد احد المسؤولين السوريين قائلا: "غريب أن يحصل ذلك بينما كان مشعل نفسه يطلب سابقا، أي قبل الأزمة السورية، أن تتم اللقاءات أمام الكاميرات حين كان في أوج معركته مع محمود عباس ومع الدول العربية التي تدعوه إليها اليوم، بينما كانت تنفر منه ومن حماس سابقا". لم يحصل اللقاء بين الأسد ومشعل، ولكن القيادي الفلسطيني حصل على ضوء أخضر لاقتراحه بأن يزور بنفسه بعض المناطق الملتهبة من درعا إلى حمص وحماه وصولا إلى ريف دمشق، ذلك انه كان يعتقد بقدرته على تهدئة الأوضاع والدفع صوب المصالحة نظرا لما له شخصيا من محبة في قلوب السوريين، ولما للحركة من مكانة في القلوب السورية. يقول قيادي في حماس إن مشعل كان يستعد للقيام بتلك الجولة السورية الداخلية، حين جاءه اتصال يتمنى عليه إرجاءها لأسباب أمنية. اقترح مشعل أن يقتصر الأمر إذاً على ريف دمشق، فقيل له انه من الأفضل التريث. بقيت الاتصالات بين مشعل والقيادات السورية مستمرة بوتيرة جيدة. كانت كل الأبواب مفتوحة أمامه إلا أبواب الرئاسة. سافر مرات عديدة إلى الخارج. تقول مصادر مقربة منه انه سعى لإقناع قادة حماس في الخارج بأن يتفهموا وضع سورية وألا ينساقوا صوب الضغوط التي تمارس عليهم. ذهب للقاء قادة الإخوان المسلمين في مصر متمنيا عليهم أيضا تفهم الوضع السوري. مشعل والمبادرة العربية حين تم التوافق على مبادرة من الجامعة العربية للأزمة في سورية، شجع خالد مشعل المسؤولين السوريين على المضي قدما صوبها. قال إن الحل العربي على مساوئه يبقى أفضل من التدخل الدولي. أعرب غير مرة لقيادات عربية عن انزعاجه من تعليق عضوية سورية في الجامعة. أوصل انزعاجه خصوصا إلى دول كانت سورية تقف إلى جانبها في أسوأ مراحلها على غرار السودان. سمع وزير الخارجية السوداني علي كرتي شخصيا مثل هذا الانزعاج من مشعل. وسمعه أيضا بعض القيادات المصرية. يقال إن مشعل ذهب حتى قطر. التقى أميرها الشيخ حمد آل ثاني، والتقى رئيس وزرائها الشيخ حمد بن جبر آل ثاني. طلب من الدوحة تخفيف الضغط، وأشار إلى قناة "الجزيرة". وسمع من أمير قطر كلاما ايجابيا حيال الرئيس الأسد. لكن الدوحة كما الكثير من العواصم العربية كانت تشير إلى أجهزة أمنية وقيادات وإلى خيارات أمنية لا يمكن الدفاع عنها. تابع مشعل المبادرة العربية والبروتوكول الذي تلاها بالتفاصيل الدقيقة. أجرى عشرات المكالمات الهاتفية مع مسؤولين عرب ومسؤولين سوريين. نصح القيادة السورية بأن تقبل بالبروتوكول لأنه سبيل لتجنب الحل الدولي ولعله قد يصبح سبيلا أيضا لمصالحة داخلية. ما هي حقيقة موقف مشعل؟ كل تصريحات ولقاءات خالد مشعل تشي بالاستياء. يعتقد القيادي الإسلامي بأن على القيادة السورية أن تبادر إلى طرح حل سياسي جذري. يرى انه لا بد من وقف سيل الدم ووقف الحل الأمني. يعبر عن قلق كبير على سوريا، ولعله ينتقد ضمنيا إدارة الأزمة. لكن مشعل واع في الوقت نفسه إلى أن ثمة خطة خطيرة يراد لها أن تطيح دور سوريا وتقضي على الحلف الإقليمي الداعم للمقاومة. يسير الرجل على حد السيف. يريد الإعراب عن وفاء الحركة لسوريا التي دافعت عنها طويلا، ويقلق من الهجمة الغربية على المنطقة، لكنه يشعر في الوقت ذاته بأن الطريقة التي تدار بها الأزمة قد تؤدي إلى مزيد من التأزم. يعتقد بأن الأسد لا يزال قادرا على قيادة المصالحة وتغيير مجرى الأمور، لكن التأخر بطرح حل سياسي جذري يتضمن مشاركة فعلية ستكون له عواقب وخيمة. لم يخف خالد مشعل يوما محبته وتقديره الكبيرين لبشار الأسد. يتحدث عنه بود الشقيق والحليف. ينقل عنه زواره قوله مؤخرا: "والله حين كانت الضغوط الأميركية تنهال على الأسد من كل حدب وصوب بعيد اجتياح العراق، كان الرجل صامدا كالصخرة وشجاعا إلى أقصى حد ومدافعا عن فلسطين إلى أقصى الحدود، وكنا نحن أنفسنا ننصحه بالانتباه والتروي". ولعل هذا الود والتقدير هما اللذان يدفعان مشعل لنصح الأسد بتغيير مجرى الرياح والذهاب أكثر نحو ما يريده شعبه. وهو يعتقد أن ما يريده الشعب هو الإصلاح الجذري والمشاركة الحقيقية ومحاسبة المسؤولين عما حصل. ماذا عن الرواية السورية؟ لعل هذه الرواية فيها من العتاب والمرارة أكثر مما فيها من التفهم لموقف حماس. يقول أصحابها إن سوريا بقيت إلى جانب حركة حماس في أسوأ الأوضاع وأكثرها قسوة. كانت بعض الدول العربية التي تطلب اليوم من حماس مغادرة دمشق والذهاب لعندها، هي نفسها التي تقول للأسد قبل سنوات "لا تؤمن كثيرا لحماس وقادتها، هؤلاء سينقلبون عليك لاحقا، إنهم منسجمون تماما مع الإخوان المسلمين وطروحاتهم فانتبه". كان الأسد يجيب بأن "هؤلاء مقاومة وأنه لا بد من دعمهم مهما حصل". ويقول أصحاب الرواية السورية أيضا، إن الولايات المتحدة والدول الأوروبية وبعض الدول العربية كانت تطلب من سورية إقفال مكاتب حماس ووقف نشاطها وإنزال أعلامها من على مكاتبها. ولكن الأسد لم يطلب يوما ذلك بل تشدد، فما كان من قادة الحركة إلا أن اقترحوا أن ينزلوا العلم بأنفسهم منعا لإحراج القيادة السورية. ويقول مسؤول سوري إن المواقف تتخذ في الأوقات الصعبة وليس حين تكون الحياة سهلة هانئة. فحماس مستهدفة كما سورية وإيران و"حزب الله"، وعليها في هذا الوقت بالضبط أن تحدد موقفها، يجب أن تدرك أن المقاومة العربية والإسلامية هي المقصودة بكل ما يحصل من هجوم وفتنة وقضاء على الدور السوري وليس الهدف الإصلاح أو حتى القيادة السورية. ويقول المسؤول: "لو أننا خضعنا للضغوط وقبلنا بإخراج حماس من سورية حين كانت كل الآلة الدولية والإعلام الخارجي وبعض الإعلام العربي يشن حملاته علينا، لكان وضعنا أفضل بكثير الآن، فحركة حماس كانت كحزب الله أوراق مساومة يستخدمها الغرب للضغط علينا، وكانت دول عربية تنصحنا بأن نوقف دعمنا لهما، ولكننا لم نفرق يوما بين مقاوم ومقاوم، ولم نساوم يوما على دور سورية الداعم للمقاومة، ولم نقل إن "حزب الله" شيعي وإن حماس سنية، بل كنا ولا نزال ننظر إليهما على أنهما حليفان مقاومان، وأن دور سورية هو الوقوف إلى جانبهما مهما اشتدت النوائب وكثرت الضغوط". ويقول المسؤولون السوريون، إنهم وبرغم العتب الكبير والشعور بالمرارة من عدم إعلان حركة حماس موقفا رافضا لما تتعرض له سورية، إلا أن القيادة السورية لم تتخذ أي إجراء مغاير لما كان عليه الأمر سابقا، فمكاتب الحركة لا تزال تعمل كالسابق، وأبواب المسؤولين مفتوحة أمام مشعل وكل قيادة حماس، والمنح المدرسية لا تزال على حالها والدعم المباشر لم ينقص ليرة واحدة. ويضيف هؤلاء "إن القضية الفلسطينية هي احد أهم أسس السياسة السورية خارجيا وداخليا، وهي كانت وستبقى القضية المركزية الأولى مهما حصل، وندرك أن بعض العرب الذين ينصحون حماس بمغادرة دمشق هم الذين قضوا على هذه القضية ويريدون القضاء على ما بقي من فلسطين". وفي رد على سؤال عن سبب عدم استقبال الأسد لخالد مشعل، يجيب احد المسؤولين "إن الفصائل الفلسطينية بما فيها حركة حماس طلبت لقاء مع الرئيس وهو وافق واللقاء سيحصل قريبا، فالرئيس يدرك أن ثمة من يريد دق أسافين كثيرة بين سورية والمقاومة، وهو حريص على دور سورية مهما اشتدت الضغوط وأثيرت الفتن". ولعل كلمة السر الوحيدة في التعامل مع حماس تفيد بأن "دمشق لا تريد شيئا من حماس، وأن أحدا لن يتعرض لقادة الحركة بل سنستمر على موقفنا الداعم للمقاومة وأبواب المسؤولين مفتوحة، ولكننا لن نطلب شيئا". هل تغادر حماس دمشق؟ خالد مشعل قال صراحة عكس ذلك. أكد في تصريحاته العلنية لبعض القنوات التلفزيونية قبل يومين أن الحركة ستبقى في دمشق، وأن بعض الذين غادروا إنما فعلوا ذلك لأسباب عائلية. هذا صحيح. فالأوضاع في سورية تجعل بعض زائري حماس يترددون في المجيء إلى دمشق، كما أن بعض القيادات "الحماسية" نقلوا عائلاتهم من بعض المناطق الساخنة صوب الأردن أو مصر. يعترف بعض قادة حماس بأن الذهاب إلى مصر أو الأردن أو قطر ليس مناسبا وقد يمهد لإنهاء الحركة. ويقول بعض آخر إن الأوضاع في مصر تغيرت، ذلك أن التمثيل الواسع للإخوان المسلمين في البرلمان والسلطة يسمح للحركة بأن تمارس دورا لم يكن متوفرا في عهد حسني مبارك. ولكن البعض الآخر يعتبر أن فتح مكاتب لحماس في القاهرة سيثير أكثر من جهة دولية وأن هذا غير مناسب في الوقت الراهن. أما العلاقة مع قطر فهي قوية جدا، خصوصا أن علاقات مشعل مع الأمير حمد أكثر من جيدة، وقيل الكثير عن دور قطري كبير في إقناع حماس بمغادرة دمشق صوب الأردن أو مصر وأن وساطات كثيرة جرت من اجل ذلك. حتى الآن تقول حماس إنها لن تغادر، وتقول القيادة السورية إنها لم تغير شيئا في تعاملها مع الحركة. وإيران دخلت على الخط أكثر من مرة، وطالب مسؤولون إيرانيون خالد مشعل وقيادات أخرى بالإعراب عن موقف مؤيد للقيادة السورية. وجرى أكثر من لقاء مصارحة بين مشعل ومبعوثين إيرانيين. وفي خلال مؤتمر دعم المقاومة الذي استضافته إيران قبل حوالى شهرين سمع مشعل كلام عتب بعد أن أوحى في كلمته بأنه راغب بالتغيير في سورية، لكن طهران بعثت برسائل ايجابية كثيرة لحماس وعملت على احتوائها وكرمت على نحو علني ولافت إسماعيل هنية. كل ذلك مهم ، ولكن بعيدا عن العواطف بين حماس وسوريا ودمشق و"حزب الله"، فإن كل شيء سيبقى مرتبطا بتطور الأوضاع الداخلية في سوريا، وكل الاحتمالات مفتوحة، لان التغيير في الوطن العربي ووصول جماعة الإخوان المسلمين إلى السلطة في تونس وليبيا ومصر واليمن يسيل لعابا كثيرا، ومن غير المستبعد أن يقترب رأي حماس أكثر من رأي "إخوان" سورية و"المجلس الوطني" ما لم يتم احتواء العتب والبحث في الأسباب الحقيقية للاستياء والبرود بين الجانبين. والتحليل الاستراتيجي الدقيق لمستقبل الأمور يزيد الاحتمالات اتساعا، ذلك أن دمشق وحماس مستفيدان من بقاء الحركة على الأراضي السورية، تماما كما أن كل منهما قد يكون من صالحه خروجها. فبقاء حماس مهم لصورة سورية كدولة حاضنة للمقاومة ومهم أيضا للتخفيف من الاحتقان المذهبي في المنطقة، ولكن خروجها من دمشق قد يبعث برسالة كبيرة إلى الغرب ويفتح المجال أمام كلام سياسي آخر، ذلك أن طلب خروج الحركة هو واحد من أسباب الاشتباك السوري الغربي السابق. وأما بالنسبة للحركة فإن بقاءها مهم تعبيرا عن الوفاء للقيادة السورية، ولكن خروجها قد يخفف عنها إحراجا كبيرا. لعل "حزب الله" وحده قادر في هذا الوقت بالضبط على أن يلعب دور التقريب بين الجانبين، خصوصا أن وساطات سابقة، وبينها تلك التي تولاها مسؤول لبناني أمني كبير، لم تصل إلى مبتغاها. العتب قد يزول وتنفرج الأمور، ولكنه أيضا قد ينتقل إلى قطيعة

المصدر : سامي كليب


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة