دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
عرض التلفزيون الرسمي السوري طيلة الساعات الماضية صورا كثيرة لمسلحين في حمص وحماه. تريد السلطة السورية أن تبرر بهذه الصور عملياتها العسكرية المتعددة. يترتب على ذلك خطورة كبيرة، ليس داخليا فحسب وإنما على مستوى حلفاء سوريا في الخارج وتحديدا في مجلس الأمن الدولي. بعضهم يقلق بسبب ترابط العمليات العسكرية مع توسع قاعدة التظاهرات وجغرافيتها، وبعضهم الآخر يشعر بالإحراج بسبب ارتفاع منسوب الدماء.
تتجنب السلطات السورية حتى الآن الانزلاق إلى داخل حماه، لكن ما حصل عند تخوم المدينة ذات العمق الإسلامي الاخواني والإرث الدموي بفعل المواجهات السابقة بين الجناح الاخواني المتطرف والسلطة، ينذر بأكثر من خطر. عدد القتلى يحدد الوجهات. كيف؟
كانت الدول الغربية تتخبط في تعاطيها مع النظام السوري. قلَّة منها جاهرت بفقد الرئيس بشار الأسد شرعيته. وحين كانت تقول ذلك كانت تجدد مبررات كثيرة للتراجع عنه ودعوة النظام لتسريع خطى الإصلاح والانفتاح على المعارضة. عدد القتلى لم يكن ليثير قلقا كبيرا. كان العدد محصورا بحدود «المسموح». ترافق ذلك مع رغبة لدى البعض بمنح الأسد فرصة حقيقية لتطبيق إصلاحاته ذات العناوين الكبيرة. الآن يتغير الوضع، أو هو آخذ بالتغيير ضد النظام وأهله. فالرقم في حماه بعد حمص صار مفصليا.
لا شك في أن وكالات الأنباء والفضائيات تستمر في المغالاة بعدد القتلى. هي تحدثت عن حوالى 150 قتيلا في حماه وغيرها خلال اليومين الماضيين. المصادر الموثوقة تؤكد أن العدد هو نصف ذلك أو أقل. لكن الرقم المؤكد كفيل بإحداث التحولات.
كان مقبولا مثلا أن تقتصر المواجهات على عدد من القتلى كل يوم جمعة. كان حلفاء سوريا ـ وتحديدا روسيا والصين ـ قادرين على إعاقة كل مشروع دولي ضد القيادة السورية. لكن موسكو وبكين نفسيهما نصحتا أكثر من مرة هذه القيادة بالإسراع في الإصلاحات والتخفيف من عدد القتلى. بدأت بعض الأصوات في روسيا تعبِّر عن انزعاج علني. صدر بيان أولي يدعو السلطات إلى وقف سفك الدماء، ثم بيان آخر عن وزارة الخارجية يحمل الطرفين (أي قوات الأمن والمسلحين) المسؤولية عما جرى في حماه .
صحيح أن موسكو وبكين صامدتان في رفض أي تدخل خارجي بشؤون سوريا. بدا ذلك واضحا من خلال آخر جلسة لمجلس الأمن. برر البعض ارتفاع اللهجة السورية بأنها ثمن طبيعي لدعم روسيا في داخل مجلس الأمن. لكن الصحيح أيضا أن الدولتين قد تجدان إحراجا كبيرا لو ارتفع منسوب الدماء في سوريا خلال الشهر الفضيل.
انسحب ذلك على تركيا، فبعد التدخلات المباشرة من قبل رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان ووزير خارجيته احمد داود أوغلو ضد القيادة السورية في أوج الانتخابات التركية، تراجعت لفترة وتيرة النبرة التركية وصمتت التصريحات، لكنها عادت تلقي بظلالها بعد اندلاع المواجهات عند أبواب حماه.
عاد الأتراك إلى رفع الصوت جهارا. تزامن ذلك مع أزمة كبيرة بين اردوغان والقيادة العسكرية انتهت (على الأقل حتى الآن) بحسم المعركة لصالح رئيس الوزراء الإسلامي الاخواني واستقالة القادة الكبار. من المنتظر أن يغيِّر ذلك في الخطاب التركي حيال سوريا. القادة العسكريون السابقون في أنقرة ومعهم الاستخبارات كانوا ضد التصعيد مع قيادة الأسد. من الصعب تصور القيادة المقبلة سائرة في سياق مماثل. لا بد لها من اللحاق بسياسة اردوغان.
الساسة الأتراك راغبون منذ البداية في لعب دور مركزي في الأزمة السورية. هم قلقون على أوضاعهم الداخلية من جهة، وطامحون لتوسيع دور الإخوان المسلمين في السلطة السورية. صمتوا لفترة بعد ضغوط كثيرة (خصوصا في أعقاب زيارة وزير الخارجية التركي إلى طهران وما سبقه من تهديدات إيرانية). وصمتوا بعد عودة التحرك الكردي بقوة على أراضيهم وسقوط قتلى عديدين في صفوف جيشهم. وصمتوا أيضا بعد أن عاد التأزم يسيطر على علاقتهم بإسرائيل وسط مخاوف متجددة (عبر عنها وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك) حيال سيطرة الإسلاميين الأتراك على كل مقاليد السلطة في أعقاب استقالة القادة العسكريين.
ماذا سيفعل الأتراك حيال سوريا؟ الاحتمالات كثيرة بعد حماه. كلام الرئيس التركي عبد الله غول يفتح الباب أمام تأزم جدل، وربما تدخل أكثر أهمية في المرحلة المقبلة. حلف شمال الأطلسي على الأبواب، وقادته كانوا أعربوا غير مرة عن أن أي تأزم بين سوريا وتركيا يعني تأزما عند حدود الأطلسي. الكلام خطير بمغازيه وأبعاده. هل التلويح بالأطلسي جدي أم مجرد رفع لمنسوب الضغوط؟
ثم ماذا عن دول الخليج؟
كان كلام رئيس الحكومة اللبنانية السابق سعد الحريري، ثم كلام بعض أقطاب تيار المستقبل عاليا جدا حيال سوريا في اليومين الماضيين. فُهم كلام الحريري في دمشق على أنه «إعلان حرب». فسره البعض الآخر من زاوية عربية ودولية أوسع. يتهم هذا البعض تيار المستقبل وقادته بأنهم جزء من «مؤامرة خارجية» ضد النظام السوري. وردت قبل فترة معلومات كثيرة تفيد بان الحريري قال انه يربط مستقبله بسقوط النظام السوري. ربما ذلك صحيح وربما من باب التهويل ونقل الشائعات، لكن السياق الذي جاءت فيه تصريحات الحريري يشير إلى أن الأمور انتقلت بعد حماه إلى مستوى آخر، وان من يريد استغلال الأوضاع في سوريا يرى الآن فرصة مناسبة تماما للانقضاض.
يختصر مسؤول إماراتي كبير الصورة الخليجية بالتالي. يقول «لقد أوصلنا رسالة للسوريين بأن ثمة حدودا لقبول عدد القتلى. الرأي العام في الخليج صار بشكل عام ضد القيادة السورية. قطر تتصدر المواجهة وهي قد ترفع مستوى تدخلها وسوف تحتضن المعارضة وتسعى لتنظيم عملها وتوحيده نظرا لعلاقاتها القوية بالتيارين الاخواني والعلماني. الكويت رفعت مستوى الاتهامات تحت ضغط من القوى الاخوانية والسلفية. لم تعد حكومة الكويت قادرة على إبراز أي موقف مؤيد للسلطات السورية. في السعودية تنشط الجالية السورية، وخصوصا أن بينها سوريين كثرا من المناطق التي تعرضت لمواجهات كثيرة (درعا وجسر الشغور وحمص وغيرها...). وفي السعودية أيضا قيادات لا توافق الملك عبد الله على سياسة الصمت أو الحرص على النظام السوري. أما عندنا في الإمارات فقد صار الإحراج كبيرا بعد حمص وحماه. صحيح أن الشيخ محمد لم يقطع اتصالاته بالرئيس بشار الأسد، وان وزير الخارجية زار دمشق مرتين والتقى الأسد، لكن ارتفاع عدد القتلى في سوريا يضعنا في موقف حرج جدا، وقد يصبح الوضع غير مقبول بالنسبة لنا».
كان الخليجيون منقسمين تاريخيا حيال سوريا. عاب بعضهم عليها اقترابها الكبير من إيران. قال آخرون إن هذا الاقتراب يساهم في تهدئة الأجواء بين طهران والجوار الخليجي. رأى بعضهم الآخر (السعودية في مرحلة ما ثم قطر لاحقا) أن القيادة السورية أعاقت التسويات في لبنان ومنعت وصول سعد الحريري مجددا إلى رئاسة الحكومة. رأى بعضهم الثالث أن دمشق شجعت المقاومة ومن خلفها التمدد الشيعي الفارسي في المنطقة.
قد يرى بعض الخليجيين أن الفرصة مؤاتية الآن للانقضاض على النظام السوري، وأن التسويات الاخوانية مع الغرب والمعارضة العلمانية قد تكون أفضل للمستقبل. العامل المذهبي السني له دور في هذا التفكير. لكن ثمة من يقلق. وبين القلقين الملكان السعودي والأردني. يعتقد الرجلان (وفق ما نقل عن أميركيين اطلعوا على اتصالاتهما بإدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما) أن بقاء بشار الأسد مهم وان الاستقرار برئاسته أفضل من الفوضى المقبلة. يفهم الغرب مخاوف الملكين على أنها نابعة من خشيتهما من انتقال عدوى التغيير الى عندهما.
هل ضاق هامش المناورة السورية؟
الهامش الدولي يضيق جدا. المعارضة آخذة في تنظيم نفسها رغم الصراع الكبير بين الليبراليين و«الإخوان». يجري العمل على دفع الطرفين للاتفاق على «ميثاق عام لمستقبل الدولة السورية». «الإخوان» يعترضون على كل ما يشير إلى العلمانية أو المدنية. ثمة محاولات لرأب الصدع سريعا. المساعدات الدولية تكثفت لجزء من هذه المعارضة، وبقي جزء كبير منها طي الكتمان. قطر كثفت مساعيها الدبلوماسية والمالية في الآونة الأخيرة لرص صفوف المعارضة. الاتحاد الأوروبي وعد بمساعدات لو توحد المعارضون. جرت اتصالات كثيفة واحتضان علني وسري لجماعة «الإخوان». تركيا ليست بعيدة عن هذه الجهود.
على ضوء ذلك يصبح التحرك السوري محشورا بين الوضع الأمني على الأرض والمرصود لمفاجآت كثيرة في شهر رمضان، وبين ضرورة تسريع الإصلاحات والحركة الدبلوماسية المنفردة أو المشتركة مع إيران.
الواضح من خلال التحضيرات السياسية، أن منتصف الشهر الحالي سيشهد حركة برلمانية كبيرة لإقرار القوانين الإصلاحية. هذا مهم، لكن الأهم أن تتم المباشرة السريعة بالتنفيذ. تبين من خلال تصريحات عدد من الاتحادات السورية وبينها «اتحاد الطلبة» و«الاتحاد العام لنقابات العمال» و«الاتحاد العام للفلاحين»، أن ثمة رغبة فعلية في تفعيل وتنشيط «حزب البعث» بحيث يكون سند السلطة في المرحلة المقبلة للتخفيف من الضغوط عليها حيال المادة 8 من الدستور وغيرها من الإصلاحات المتعلقة بالحزب والدولة. يراد لهذه الاتحادات أن تلجم قليلا اندفاع المعارضة لتغيير فوري في كل بنى وأسس الدولة.
المعركة في الداخل لن تحسم قريبا. والصراع الأمني والسياسي سيشتد مع تأكد وجود مسلحين في المناطق ذات الحساسية الكبيرة على غرار حماه. المعركة ستعنف أيضا مع تسريع الحركة الخارجية لتوحيد المعارضة.
هنا يصبح دور طهران مركزيا. سارع الناطق باسم الخارجية الإيرانية رامين مهمانبرست أمس إلى الرد على وزير الخارجية البريطاني بشأن التدخل العسكري في سوريا. قال المسؤول الإيراني إن «مثل هذه التدخلات العسكرية غير مجدية ولا تستند إلى الشرعية الدولية، وعلى الغرب ألا يكرر أخطاءه الماضية». التحذير واضح، لكنه تزامن مع كلام أميركي لافت. قال رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة الأميرال مايك مولن من بغداد: «ليس هناك من مؤشر على أننا قد نشارك بشكل مباشر» في تدخل عسكري في سوريا . جدد المسؤول العسكري الطلب إلى الرئيس الأسد «اتخاذ خطوات» تتلاءم مع متطلبات الشعب السوري. يعني هذا الكلام أمرين: أولهما ان لا تدخل عسكريا في سوريا، وثانيهما وهذا الأهم، أن أميركا لا تزال تعتقد بإمكانية قيادة الأسد للإصلاحات. أهمية الكلام أيضا انه جاء في بغداد بعد أيام قليلة على توقيع اتفاقية الغاز بين العراق وإيران وسوريا، وسط تأكيدات أميركية بان معدل الهجمات على القوات الأميركية من قبل المدعومين من إيران قد تراجع. التناغم الضمني الأميركي - الإيراني بشأن سوريا يناقض كل الضجيج في مجلس الأمن. يتقاطع ذلك مع تكثيف التصريحات الإيرانية الهادفة إلى ترطيب الأجواء مع السعودية. عملية جس النبض قائمة في المنطقة لكن شيئا لم يحسم بعد.
ينسحب التحليل أيضا باتجاهات شرق أوسطية. اعتراف سوري سريع بالدولة الفلسطينية المقبلة حتى قبل أن تطرح في الأمم المتحدة (هذا إذا طرحت في أيلول المقبل). اعتداء على قوات اليونيفيل في الجنوب اللبناني لم تتضح أسبابه ومنفذوه والمخططون له بعد. اشتباك بين الجيشين اللبناني والإسرائيلي عند الحدود في عيد الجيش. تهديد حازم من الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله مفاده في النفط مقابل النفط.
ماذا يعني كل ذلك؟
يعني أولا أن الحل الأمني السوري بدأ يصل إلى نقاط الخطر الدولي. لا بد من صدمة إصلاحية كبيرة بعد أيام قليلة أو كلام مطمئن من قبل الرئيس بشار الأسد. يعني ثانيا أن مناهضي سوريا في المحافل الدولية سيرفعون كثيرا من لهجة العقوبات والتحذيرات ضد القيادة السورية، لكن ذلك لن يصل في أي حال من الأحوال إلى التهديد بإسقاط النظام بالقوة، ولا حتى إلى مجرد التفكير بإسقاطه (على الأقل في الوقت الراهن). لكن القرار الفصل يبقى للشارع السوري. السلطة تريد توسيع قاعدة ضبط الأمن، والشارع مع المعارضة يريدان زيادة منسوب الضغط. رمضان مفصلي. لو مر بعدد قتلى «مقبول» فستنتقل الأمور في مطالع الخريف نحو تطورات كثيرة في المنطقة قد تسمح للنظام باختراقات، ولو ارتفعت وتيرة المواجهات، فالمستقبل غامض وخطير ومقلق.
المصدر :
الماسة السورية
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة